من هو داريوش شايغان؟
“داريوش شايغان” من بين الشخصيات المعاصرة التي حققت حضورا في الخطاب الفلسفي الإسلامي المعاصر بجملة من الأعمال التي حبكها باللغات المتعددة الفارسية، الفرنسية و الإنجليزية. لقد استلهمت أفكاره الفلسفية العقل العربي المعاصر، و إلى جانب هذا تلك الهالة الكبيرة التي أقامها هذا الفيلسوف المتذوق لروافد و مشارب فكرية في أوساط الفكر الغربي و الاسلامي وهو صاحب العبارة المشهورة “أنا صاحب عقل غربي و هوى شرقي”. أما ما يهمنا في هذه الدراسة البحثية المتواضعة هو تبيان التصور الفلسفي لـ “داريوش شايغان ” لإشكالية الهوية و الاختلاف.
أين سنقف في المبحث الأول على السيرة الذاتية و العلمية التي مر بها هذا الفيلسوف ثم نعرج لأهم مصار فلسفته مع الإشارة إلى المؤلفات التي تركها هذا الفيلسوف ثم سنحاول أن نستشف أم الخصوصيات التي يتمتع بها فكر ” داريوش شايغان “والهدف من ذلك هو تحصيل رصيد موسع حول سيرة و فكر هذه الفيلسوف. أم عن المبحث الثاني ففيه سنتكلم عن مفهوم الهوية عند ” داريوش شايغان ” في هذا المبحث سنتعرض إلى مفهوم الهوية في سياق فهم هذا المفكر و أيضا مفهوم أوهام الهودية و دلالتها و نفس الشيء لمفهوم الهوية بأربعين وجها. و في آخر نفطة هي الهوية في الحضارات الشرقية الآسيوية أين سنتعرف على مفهومها في ظل الثقافات الشرقية.
و أما عن المبحث الثالث فهو بعنوان ” مفهوم الاختلاف عند “داريوش شايغان” الذي سيحضن مفهوم الاختلاف و علاقته بـ التعددية الثقافية و بعدها يكون محاولة تبيان الرابط القوي بين الاختلاف و الايديولوجيا و آخر المطاف إبراز أهمية النقد و الاختلاف و كل هذا في السياق العام لفكر “داريوش شايغان”.
السيرة الفكرية و العلمية
المولد و الطفولة و المحيط الأسري
داريوش شايغان Daryush Shayegan”” مفكر إيراني معاصر بارز ومنظر اجتماعي مختص في الفلسفة المقارنة. اشتهر بكتاباته عن الحضارات الشرقية وعلاقتها بالحضارة الحديثة. ولد 2 يوم فيفري 1935. في تبريز شمال غرب إيران في وسط ثقافي متنوع دينيًّا وإثنيًّا ولغويًّا.كانت والدته جورجية تنحدر من عائلةالأمراء وسلاطين جورجين فرّت هربا من الثورة الروسية عام 1917. ورغم ذلك فقد أصابهم شيء من تلك النكبة التي أدت إلى إعدام العديد من أفراد عائلته و شرد البعض الآخر في تركيا. هذه الحادثة الأليمة كان لها وقع شديد على في نفسيته الوجدانية طوال حياته ولقد عبر عنها في كتابته حيث كان يعبر عن هذه المأساة العائلية بقوله: “امرأة في منفى باطني” و لكن في نفس الوقت نتلمس فيه تلك المفخرة العائلية التي يعود بها إلى السلالة الملكية التي حكمة منطقة جورجيا أين يقول عن أمه:” سيدة جورجية بنت ملك”.، أما أبوه فكان من آذربيجان ويعمل تاجرا تركيا إيرانيا شعيا ينحدر من الأقلية الآذرية في إيران، كان يعيش في البيت العائلي لهذا المفكر عمته و خالته و زوجها لهذا وجد نفسه في طفولته بين ” أمين ” و”أبوين”. أما العنصر الذي ساهم في إثراء شخصيته هوتنوع الفضاء اللغوي المتداول، فأُسرته كانت تستخدم اللغة الروسية، والفارسية، والقوقازية والجورجية، فالوالدة و الخالة يتكلمان الجورجية و الروسية و أبوه يتكلم التركية و الفارسية، كما كانت تعتنق أشكالًا مختلفة من الاعتقادات: الإسلام والمسيحية والزرادشتية. حتى المحيط الخارجي كان مدرسه للموسيقى أرمنياً وطبيب العائلة زارادشتي والسائق مسيحي آشوري. وهكذا فان كل مكونات الفسيفساء الإيرانية الاثنية والدينية والقومية، كانت الجزء الحيوي من حياته اليومية وقد طبع هذا التنوع اللغوي والديني والإثني شخصية “شايغان واهتماماته بطابع لا يمحى. وهو ما جعل شخصيته متعددة كما لو كانت مسكونة بأربعين هوية، هكذا كما لو أن جماعة من الناس قرروا أن يقيموا داخل شخصيته. وهذا ما يجعل من “شايغان” واحدًا من أكثر المثقفين المعاصرين تأهيلًا للاضطلاع بهاتين المهمتين الكبيرتين: وصل الحضارات التقليدية فيما بينها من جهة، ووصلها بالحداثة من جهة أخرى.
مرحلة التكوين العلمي لـ داريوش شايغان
- التحق بمدرسة “سان لوين” saint louis” ” للآباء الفرنسين بطهران هي مدرسة مفتوحة لأولاد الجماعات الإثنية و العرقية من الآرمن و الآشورين و اليهود. تعلم هنالك الموسيقى من طرف معلمته الولونية. تعلم في هذه المرحلة الفرنسية و كان يطالع كتب بالفارسية في نفس الوقت.
- – 1949 سافر إلى بريطانيا وهو ابن الخامسة عشر من عمره واصل دراسته في ” كولدج بادينكاهم” في لندن و بعد 4 سنوات تحصل على الشهادة الثانوية.
- – 1954 غادر إلى جنيف برغبة من أهله لدراسة الطب لكن لم يواصل بل كان يميل إلى الآداب والفنون فالتحق بكلية العلوم السياسية فهي الحل الوسط حسب رأيه. في هذه الفترة تعرف على مجموعة من الشخصيات الهامة في ميدان الفلسفة و علم النفس:
- ü “جون بياجيه”””Jean Piagetمؤسس نظرية التطور المعرفي “la théorie du développement cognitive “.
- ü “كارل غوستاف يونغ””Carl Gustav Jung”، و محاضرات هذا الأخير كانت سبب في تعرف ” داريوش شايغان” على العديد من المفاهيم:” اللاشعور الجمعي ” “” inconscience collectif و ” اللغة ” ” langage ” ” و “النماذج المثالية الأزلية” ” les modales idéaux éternels”
- جان هربر أين حضر دروسه في الأساطير الهندية “les mythes indes “.
- رنيه غيون سبب تعرف ” شيغان” على “الحكمة الخالدة” أو ” الفلسفة الخالدة” “la sagesse éternelle” ” la philosophie éternelle”.
تخرج من جامعة جنيف بعد عامين ثم تزوج ” فريده زنديه ” وهي زميلته كانت تدرس علم الجمال، وبعد ستة سنوات عاد إلى طهران أين درس ” اللغة السنسكريتية”، كانت أداة استكشافية لأعماق الفلسفات الشرقية القديمة و الديانة الهندية.
- الالتقاء بالمستشرق الفرنسي ” هنري كوربان ” سنة 1961. وذلك عن طريق صديقه ” حسين نصر ” في منزل ” ذو المجد السيد الطباطبائي “. كانت هذه الحلقة الفكرية تسمى ” أصحاب التأويل “. وكان ” “هنري كوربان” يستعمل الفرنسية و “الطباطبائي” يستعمل الفارسية، أما مهمة الترجمة كان يتولها ” حسين نصر ” و في الأحيان ” شايغان”. و الموضوعات المناقشة هنالك هي: العرفان والتجارب الصوفية و الفلسفية.
- غادر طهران سنة 1965 إلى فرنسا و التحق بجامعة السوربون أين تحصل على الماجيستير و الدكتوراه بعنوان:” العلاقة بين الديانة الهندوسية و التصوف بإشراف ” هنري كوربان “.
- ثم عاد إلى طهران وعمل كأستاذ في جامعة العلوم الإنسانية كان يدرس:
- الدراسات الهندية و الفلسفات المقارنة
- اللغات العامة و اللغات القديمة
- اللغات و الآداب السنسكرتية و العقائد الهندية
- الفلسفات القديمة، الأوبانيشاد، البوذية، اليوغا و الحكمة العرفانية. إلى غاية 1985 أين هاجر بعد نجاح الثورة الإسلامية إلى فرنسا. حيث كان مدير الشعبة البارسية في مؤسسة الدراسات الإسماعلية.
توفي المفكر الإيراني” داريوش شايغان” في طهران بتاريخ 23 مارس 2018، عن عمر ناهز 83 عاما.
المرجعيات الفكرية لفلسفة داريوش شايغان
هنالك العديد من العوامل التي ساعدت في تكوين الشخصية الفكرية والفلسفية “لداريوش شايغان” وسنحاول أن نذكرها على شكل نقاط.
- المحيط العائلي الذي ترعرع فيه حيث كان فضاء هوياتي و ثقافي و لغوي متنوع صقل شخصيته الفكرية منذ الصغر و ساعده في اكتساب ملكة لغوية متنوعة مثل الفارسية، الروسية، الجورجية، التركية و الفارسة و قابلية التعايش الثقافي و الهوياتي حيث كانت المنطقة التي يعيش فيها منطقة إثنية و عرقية.
- الاحتكاك بالمدارس الغربية منذ دخوله للمدرسة الآباء الفرنسية أين بدأ يتعرف على الثقافة الفكرية الغربية مثل الموسيقى، اللغة الفرنسية و اللغة الانجليزية.
- الانتقال إلى أوربا الغربية أين تكون في المعاهد و الجامعات مثل جينف و باريس، و التقى بأهم روادها الذين أخذ عنهم العديد من الأفكار و المفاهيم أمثال ” جون بياجيه ” و ” كارل غستوف يونغ.
- التكوين اللغوي المتنوع فهو يجيد اللغات الفرنسية والإنجليزية و الألمانية، وملهم باللاتنية والسنسكريتية و العربية و التركية.
- النقاشات الاستشرافية مع جماعة أصحاب التأويل أمثال: ” هنري كوربان” ا هذه الشخصية التي ربطته به علاقة وثيقة و استفاد منه حيث وصفه بأنه ” جسر بين إيران السهروردي وغرب هيدغر” لقد شجعه على دراسة العلاقات بين الديانات و الثقافات الهندية و الاسلام و الاطلاع على الترجمات الفارسية للنصوص السنسكريتية الكلاسيكية و بفضله تعرف على أفكار مارتن هايدغر وكان على وفاق تمام معه حول فكرة أن ” العلوم و التقنية و التكنولوجيا ” ليست أدوات و التقنيات محايدة إنما هي نوع من الميتافيزيقا التي أعطت قيمة و قوة فائقة لاكتساب فحكمت بذلك على الانسان بسجن وقهر. و ” سيد المجد الطباطبائي ” حول الموضوعات التصوفية و العرفانية التي عبدت له الطريق للتعرف على التراث الإسلامي العرفاني و العقلي و إلى هذا التمكن من فعل الترجمة.
- التأثر بالثقافات الشرقية القديمة و الديانة الهندوسية و الآسيوية والكتابات القديمة مثل الفلسفة الفدائية و الأبانيشاد و البوذية و اليوغا و الحكمة الشرقية.
- التصوف الإسلامي مثل الشيخ الأكبر ابن عربي و السهروردي و العرفان الشيعي. و تأثر بآخر حكماء الموروث الايراني وهم:
- محمد حسين الطباطبائي
- جلال الدين آشتياني
- أبو الحسين رفيعي قزويني
- مهدي إلهي قمشهاي.
- الانتاج العلمي:
لقد خلف “داريوش شايغان” العديد من الأعمال الفكرية و المقالات بلغات متعددة وهذا يظهر في ما يلي:
- “الأديان و المدارس الفلسفية الهندية”: هو في مجلدين صدر سنة 1967. وهو يتناول المنظومة الدينية القديمة في الحضارة الهندية و السبب الجوهري في اعتكافه على هذا النوع من الموضوعات هو تمكنه من اللغة السنسكريتية.
- ترجمة كتاب “الأبانيشاد”من السنسكريتية إلى الفارسية
- الأصنام الذهبية و الذاكرة الأزلية سنة 1976وظف في هذا الكتاب نظرية بيكون وهي ” أصنام الذهن” ولكم بطريقة معكوسة. بيكون كان يدعو إلى الثورة على الأصنام في التفكير العلمي وهو مناهض لذاكرة لكن شايغان يعتبرها بمثابة الأمانة في الفكر الشرقي التي تحمل رسالة مضمرة التي تدل على الذاكرة القومية.و لا يمكن للشرق أن يحافظ على هذه الأصالة إذا لم يتواصل مع تلك الذاكرة الأزلية و يحافظ على مفاتحها. وهنا دعوة إلى الحفاظ على مستودع الصور الأسطورية التي تشكل الحكمة الخالدة الفياضة و الانقطاع منها يؤدي بنا الى الاغتراب الذي يقذف بصاحبه إلى هاوية العدمية.
- آسيا مقابل الغرب 1977.جمع فيه بعض دراساته حول أهم التحولات الاجتماعية و الثقافية التي عرفتها المجتمعات القديمة الأسيوية و كيف ها أن تواجها الغرب ؟.
- العلاقة بين الهندوسية و التصوف وهي عنوان مذكرة الدكتوراه في السربون عام 1965
- ما الثورة الدينية: الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة سنة 1989 تناول شايغان فكرة أساسية وهي “العلمنة اللاواعية والتغرب اللاواعي”، والذي يرى فيه أن من يقول بعدم تعارض الدين مع القيم الحديثة هو في الحقيقة يقول بعلمنة الدين، موضحاً أنه “عندما نقول إن الدين لا يتعارض مع العلم أو مع الديمقراطية فهذا معناه أن الدين أصبح يستمد مشروعيته من هذا الانسجام مع الحضارة الكونية وليس من الإيمان بصدقه بالغيب، كما ظلّ على الدوام في تاريخ هذه المجتمعات قبل الصدمة مع الحضارة الحديثة”.
- النفس المبتورة هاجس الغرب في مجتمعاتنا:
- الهوية بأربعين وجه:
- أوهام الهوية:
- الهوية و الوجود: العقلانية التنويرية و الموروث الديني: يتناول في هذا الكتاب كيف نفكّر اليوم في عالمنا بين العقلانية التنويرية والموروثات الدينية والمتطلّب الديموقراطي؟ ما الاهتمامات الوجودية التي تسكن الوعي في الشرق والغرب؟ يسعى “داريوششايغان”في هذا الكتاب إلى تحليل أثر الغرب وقيمه الكونية في شرقٍ فقد بوصلته، في محاولة لتحديد الوجه الجديد لـفكر لا يقوم على صراع الحضارات، بل على الاحتفاء بالهويّات المتعدّدةيرسم هذا الكتاب المسيرة الفكرية الاستثنائية لقطب من أقطاب الفكر الذين درسوا العلاقة بين الشرق والغرب، وقد صاغ منذ أكثر من ثلاثين سنة مفهوم “أدلجة الدين” الذي يرى أن الممارسة الفكرية لا تقتصر على الفلسفة والتاريخ والتصوف، وإنما تشمل جميع أنواع الإبداع، ولاسيما الأدب.
- 1- la lumière vient de l’occident
- ciels du monde
- La Conscience métisseيحاول” شايغان” في هذا الكتاب أن يقدم أجوبة عن كيفية تفكير الإنسان المعاصر في ظل عقلانية عصر الأنوار و التقاليد الدينية و الحتمية الديمقراطية ؟ و ماهي دول الوجودÉtats d’êtresعندما نكون شرقيا أو عندما نكون غربيا ؟
- l’Asie face à l’occident تناول في هذا الكتاب فكرة وجود تعارض وتناقض كبير بين الحضارة العالمية الحديثة وبين الحضارات القديمة التي وصفها بأنها “لم تشارك التاريخ أعياده”، قاصداً بذلك أنها لم تدخل المنعطفات الكبرى التي غيّرت الحضارات الحديثة؛ السيكولوجية والكوزمولوجية والبيولوجية
- الموضوعات الأساسية في فلسفة “داريوش شايغان”:
لقد تحدث ” داريوش شايغان ” على العديد من الموضوعات التي مست التراث و الحداثة، آسيا و الغرب، الماضي و الحاضر، التخلف و التنمية، الهوية و الثقافة، الدين و المعنوية، دين العرفان و دين الشريعة، الأيديولوجيا و التراث، الحوزة العلمية و رجال الدين، العقل و الأسطورة، الانحطاط الثقافي، غروب الآلهة و موت الآساطير، العلمانية و الغرب، انهيار النزعة المعنوية، العدمية الشيزوفرينيا الثقافية… إلى أخره. هذه ماهي إلا عينة عن الموضوعات التي تكلم عنها هذا المفكر و سنحاول أن نتعرض إلى بعضا في هذا العنصر.
نظرية الهوية الأزلية و الأصنام الذهبية ” الحداثة و التراث ”
في هذه النظرية يحاول أن يبرز لنا أهمية العودة إلى الذاكرة القديمة و مستودع الأصالة في سياق حديثه عن الحضارات الشرقية القديمة بحكم انتمائه القومي و الجغرافي لها. و لقد برر ذلك أن الإنسان الذي لا يمتلك خلفية ثقافية قديمة فهو إنسان معرض لدخول في ما يسميه بمتاهة العدمية.وهو انطلق من فكرة الفيلسوف التجريبي بيكون الذي قال بضرورة هدم أصنام الذهن لكن شايغان رفض هذه الفكرة بل ذهب إلى أن أطلق عليها اسم “الأمانة ” في الفكر الشرقي القديم وهذه الأخيرة تحتوي على رسالة مضمرة هي الهوية القومية. وكان لزما على الإنسان الشرق أن يحتفظ بهذه الأمانة عن طريق صون مفاتح هذه الأمانة و يتواصل مع ذاكرته الأزلية. ودعوة بيكون اجتثاثها يعني اجتثاث جزء من الهوية الإنسانية.أي تدمير مستودع الأساطير التي تشكل مستودع الحكمة الخالدة الفياضة الانقطاع عنها يعني الانقطاع عن الجذور و الاغتراب الذي يقذف صاحبه إلى العدمية.
إشكالية آسيا و الغرب
هذه النظرية يمكن أن نجدها في كتابه ” آسيا مقابل الغرب” أين يتكلم فيها عن المسار التنازلي التراجعي للحضارة الغربية حتى وصلت إلى مستوى منحط ومتدني يسميه ” بالعدمية “. وهذا الهبوط يكون من الأعلى إلى الأسفل أي بعارة أخرى من الرؤية الكونية الشهودية الروحية إلى الرؤية الكونية التقنية. أي من الآخرة و المعاد إلى تمجيد التاريخ. هل يعني هذا التقدم أم الانحطاط ؟ . الإجابة عن هذا السؤال مرتبطة بالتاريخ و مصر البشرية و حاول في نفس السياق دراسة المكونات و الخصائص التي يتمتع كل من الحضارات الشرقية القديمة التي تعتمد على المكاشفة و الإيمان و الحضارة الغربي التي تعتمد على العقلانية.فهو يرى من جهة أخرى أن العلوم في الحضارات الآسيوية و الإسلام مرتبطة بالدين و الفلسفة و لكن في سياق الفكر الغربي فهو العكس تماما إنه حالة من التمرد و ربط كلي بالإنسان و الاقرار بأنه المالك الوحيد للعالم.
إشكالية العديمة الغربية
و لقد استفاد من فكرة هايدغر حيث يقول بنفس موقف بأن العدمية هي الثمرة الطبيعية للتكنولوجيا الحديثة، وهي لم تظهر صدفة بل هي متغلغلة في مضمون الحضارة الغربية، النواة الجنينية لفكرة العدمية كانت مع ميلاد الفكر الغربي و أما الانعكاس العدمي للفكر التقني هو نبذ و إقصاء كل المعتقدات الشرقية . يرى من جهة أخرى يرى أن العودة الموضوعية و المتفائلة للحضارات الشرقية تكون عن طريق الاحتراس من أربعة مسارات هابطة و هي:
- تقنية الفكر
- علمنة العالم
- تطبيع الانسان
- نبذ الأساطير
الثقافة والحضارة
يربط شايغان بين المفهومين وينطلق من فكرة أن الحضارات الآسياوية إذا أرادت تحقيق مفهوم العودة و الحضور من جديد لابد لها من الاحتراس من التبعية الثقافة الغربية وهنا نفهم أن الأصالة عنده هي عبارة عن دعوة إلى المحافظة على المكونات الثقافية الأصلية فهي التي تحقق مفهوم الحضارة. و في سياق آخر يبدي تأسفه من الانبهار الأعمى لفئة من المثقفين الآسيويون بالمنتوج الحضاري الغربي الذين يتصورون أنفسهم أكثر ثقافتا و انفتحا من بقية المثقفين من بني جلدتهم و أيضا دفاعهم القوي على ما يسمونه بالثقافة العالمية الغربية، وهذا ما جعله ينتقدهم بالقول أنهم قطعوا العلاقات مع الثقافات و الأديان المحلية و هم يعيشون نوعان من الذوبان الفكري الكلي في الثقافة الغربية العالمية كما يتصورونها.
خصائص فلسفة داريوش شايغان
يتميز فكر “داريوش شيغان” بما يلي:
- النزعة الإسلامية بحكم أنه ينتمي إلى مجوعة المفكرين الذين ينظرون للأفكار و الموضوعات التي تتخبط فيها الاجتماعات الاسلامية.
- النزعة الصوفية العرفانية التي أخذها من القراءات المختلفة لأقطاب الفكر الصوفي أمثال الشيخ و السهروردي.
- النزعة الشيعية وهذا راجع إلى اطلاعه على الفكر الشيعي خاصة الطائفة الإسماعلية
- النزعة العقلانية و الحداثية و كانت وليدة الاحتكاك بالفلسفات الحديثة الغربية الحديثة و المعاصرة أمثال إيمانويل كانط و مارتن هايدغر و آخرون.
- الاستئناس بالحضارات و الأديان الشرقية التي كانت تخصص دراساته و كان دائم التوظيف لها في مقارناته و تحليلاته.
- النزعة التجديدية و الثورية على الأفكار التعصبية و الدعوة إلى خطاب نقدي يتماشى مع روح الحداثة.
- الدعوة إلى النقد و ممارسته و الاحتذاء بالمناهج البحثية في الفكر الغربي الذي فعاليته في تجاوز المشكلات.
- الثراء في الموضوعات المتناولة التي كانت تمس العديد من الجوانب مثل، التخلف و التنمية الهوية و الثقافة، الدين و المعنوية، دين العرفان و دين الشريعة، الأيديولوجيا و التراث.
- الانقلاب على الخطاب الفكري التراثي الذي يدعو إلى الانغلاق و التقوقع على المكونات الداخلية للثقافة الاسلامية
المبحث الثاني: مفهوم الهوية في فلسفة داريوش شايغان
مفهوم الهوية عند داريوش شايغان
تمثّل الهوية أحد إشكالات الزمان العالمي اليوم، وثمة مقاربات كثيرة للموضوع في إطار تفسير التصدعات والصراعات الجارية في العالم.ويأتي كتاب “هوية بأربعين وجهاً” للكاتب الإيراني “داريوش شايغان” صاحب الجهود العلمية والثقافية الكبيرة في تحليل السياسات والتجاذبات بين الشرق والغرب، بالتركيز على مدارك الشرق عن نفسه وعن علاقته بالغرب وحتى طبيعة السجال الراهن حول الحضارة العالمية وتأثير التقنية على الثقافة والفكر والدين وبالطبع الهوية.يمكن القول أن الهوية من الموضوعات المهمة التي دخلت العالم الاسلامي وهذا وليد التحولات التي عرفها العالم و تغير موازين القوى على جميع الأصعدة. و القراءات و التأويلات التي قدمها العقل الاسلامي أولا متعددة فكل فيلسوف أو مفكر حسب مشاربه و خلفيته الفكرية ومن جهة أخرى موضوع الهوية لا يمكن التطرق إليه إلى في إطار جدلية الشرق و الغرب.في ظل التأثيرات التي تحملها الحضارة الغربية في تجسداتها المختلفة لعل أكبرها التطور التقني و التكنولوجي و التأثيرات على العديد من المفاهيم وخاصة الهوية.
علاوة إلى ذلك فإن النزعات الهوياتية قد ظهرت كرد فعل لعمليات التغريب والعلمنة والحضور الثقافي والاستعماري للحداثة الأوروبية في الحاضرة الإسلامية إلا أن السياق الذي تُطرح فيه هذه الإشكالية عادةً ما يستتبع في نهاية المطاف ضرورة تجاوز “أوهام الهوية” بتعبير “داريوش شايغان”.العودة إذا إلى تاريخ مشكلة الهوية يبرز لنا أن هذا المفهوم لم يتحول إلى تيار و نزعة و إرادة فلسفية إلا بعد المحاولات الغربية المختلفة للسيطرة على الثقافات المختلفة و طمسها و محوها و إدخال كل الشعوب في هوية عالمية واحدة و كانت الأدوات مختلفة مثل العلمانية و العولمة. لكن هذا لا يعني أن هذه المنتوجات الغربية لا طائل منها. و نحن لا نحاول اظهار ” شايغان ” أنه معارض للغرب أو أنه أصولي بل العكس. فهو يرى أن التحولات العالمية التي ظهرت مع الحضارة الغربية تستوجب منا أن نتجاوز في تصوره أوهام الهوية و هذا المصطلح يعني الأفكار السابقة و الموروث الثقافي المنغلق التقليدي و الأفكار الدينية المتعصبة. و الاقبال بنهم على القيم و ومبادئ الهويات المتنوعة و المنفتحة التي ليس لها حدود دينية و لا ثقافية و التخلي عن هذا الميكانيزم الدفاعي والتصالح مع الجرح النرجسي بتعبير طرابيشي الذي خلفته الحداثة في الشخصية المسلمة والمضي قدماً في هذه الحتمية التاريخية.
قبل الخوض في مناقشة مفهوم “شايغان” للهوية، علينا أن نوضح عنوان الكتاب، وهو بالأساس عنوان لأحد الفصول، و”أربعون وجهاً” أو “قطعة” تعبير يستعيره الكاتب من المسرح أو الفلكلور الإيطالي حيث يرتدي البطل ملابس مؤلفة من أربعين قطعة مختلفة الألوان. يتناول المحور الأول “فوضى البحث عن هوية” حيث تصطف أشد صور الوعي الإنساني بداوة إلى جانب لعب أنتجتها أعقد التقنيات الحديثة من دون أي منافسة ذلك أن “كل الأشياء حاضرة في زمن واحد”. ونفهم أن شايغان كانت له قراءات و اطلالات على الفكر الغربي و يمكن أن نفهم أيضا أنه استعان بالرمز و المجاز من أجل تبرير فكرة فلسفية هذا متعارف عند الفلاسفة منذ زمن فنجد أفلاطون في محاورة الكهف يحذو نفس الحذو. من جهة أخرى فالإنسان هو حبيس ظروفه و هذا الكلام يتوافق مع فكرة الهوية فهي متنوعة بتنوع الثقافات و المشارب الفكرية خاصة وهذا العصر الذي يعرف و يعيش فيه أفكار متنوعة. و الانسان المعاصر في رحلة تنقيب مستمرة في هذه الهويات المتنوعة المبعثرة هنا وهناك. وهكذا لا توجد حضارة متجانسة في العالم. وعلى الرغم من وجود فروق واختلافات ثقافية عديدة، إلا أننا نشهد بروز حضارة عالمية كبرى، فيها فائض للتقنية وخواء أو فقدن للمعنى، كما لو أن عالم اليوم “ما عاد أمامه من هدف سوى العودة الى الوراء”. وإعادة النظر فيما كان، مع هستيريا التقدم والتقانة، والتدقيق في محطاته وثوراته وعلومه وتمركزاته، ومن إعادة الاعتبار للماضي والخرافة والثقافات الأخرى الخ..ويرى في سياق أخر أن احتفاظ الذاكرة الإنسانية بمختلف صور الوعي والتاريخ، ويصف ما يعيشه العالم الراهن بالفوضى الصاخبة في الأفكار والصور، ويجد أن هذا العالم الصاخب ذو وجهين في وقت واحد، من ناحية نعايش اندلاع حرب ثقافات وخطابات تنتظم حول محور الهوية، ويهيمن الصخب والانفعال بحيث قد تتحول إلى ضرب مما يسمّيه فوضى البحث عن هوية، ومن ناحية ثانية نشهد بروز نسخ مما يصفه بائتلاف قوس قزحي، ونعاين سلسلة من الأواصر المتقابلة تنحت شخصية الإنسان الحديث وتصوغها عنوة. ينتقد “شايغان” بشدة فكرة صدام الحضارات الخاصة “بـصموئيل هنتنغتون”، ويرى أن ثمة صعوبات في رسم ملامح وتعيين الحضارات على طريقة هنتنغتون، ذلك أن “الحداثة تركت آثارها على جميع الحضارات”،. وفي اليابان مثلاً ليس ثمة معاناة بخصوص الهوية، وهم يدركون أنهم جزء من عالم الحداثة، عالم أبدعه الغرب. هنا يضع شايغان يده على نقطة أساسية، يقول إن البلدان الآسيوية مثل اليابان وكوريا وغيرها “يحسبون أنفسهم موفقين، على أن توفيقهم أشبه بنجاح التلميذ المجد الذي يقدم إجابة جيدة في امتحان بلغة أجنبية”. وهكذا فإن وضع العوالم غير الغربية يقع “بين حداثة تتكرس لكنها لم تستوعب تماماً، وتراث آيل إلى الانهيار ولن يعود لصورته الأولى إلى الأبد.
مفهوم الهوية من المفاهيم الأساسية التي شغلت فكر “شايغان” وناقشها في عدة كتب منها أوهام الهوية وهوية بأربعين وجهاً، ووصف الهوية بالريزوم“Rhizome”نسبة إلى نبات “الريزوم” الذي يتميز بامتداد جذوره بشكل أفقي تحت التربة، لتظهر فوقها بشكل متواصل ومستمر، بحيث يكون من الصعب التخلص منه، ويتميز بأنه لا مركزية له ولا تراتب، وهو بلا بداية أو نهاية، وأن أي جزء صغير منه يمكن أن ينمو وتجدد بشكل مستمر، وهذا التوصيف الأخير يطلقه شايغان ليوضح به مفهوم الفكر المتحرك والهوية الريزومية، هي التي تستقبل جذور اخرى بغض النظر عن نقائها، لأن الأمر المهم في هذا النقطة هو الأسلوب الذي يتم به هذا الاقتراب من الجذور الأخرى.
و في الكلام عن “الريزوم” تشبيه بليغ لمعنى الهوية فالجذمور متعدد بطبيعته، وتعدديته متحررة من كل قيود الوحدة والمركزية، فالنظام القائم على تعدد القطع يمثل ریزوما يختلف عن الجذور وتفرعاتها. فهو عامل الترابط والتوليد، وبمقدوره صناعة شبكة غير متناهية، فكل نقطة منه بإمكانها التلاحم مع أي نقطة أخرى منه، حتى لو كسر أو تمزق بوسعه استئناف حياته والنمو في جهات أخرى. ومع أنّه متكون من طبقات و بحاجة إلى مكان إلا أنّ بمقدوره الانفصال عن الأرض والسير عليها، وإيجاد شبكات ارتباط جديدة، باستطاعة الجذمور أن يربط بين أنظمة جد متفاوتة بل وغير متجانسة، فهو لا يتشكل من وحدات مختلفة، بل من تجمع جهات متباينة، أي إنه بلا بداية ولا نهاية، وهو في الطريق دوما، فماهيته تتغير بلا توقف، فهو إذ يعيش استحالة أبدية، ويختلف عن الشجرة في أنه ليس من نتاج التلاقح، إنما هو عدو الأنساب، ذاكرته قصيرة، بل يمكن القول إنه ضد الذاكرة أيضا. وفق تسميات وتعابير يستعيرها من جان بودريار وبول فيريليو.”
ويستند شايغان في تحليله للهوية الريزومية على اطروحات جيل دولوز(1925- 1995) و لقد أخذ مه هذا المصطلح، وفيليكسغاتاري(1930- 1992). ونقد شايغان مفهوم الهوية النقية الأبدية الساكنة، وأحادية البعد المغلق، فعمل على تفكيكه ونقضه وتقويضه ثم صاغ مفهوماً آخر للهوية، مشتقاً من عصرنا وما تسوده من انطولوجيا مهمشة وتزامن للثقافات المتنوعة وكيف أمسى العالم في هذا العصر شبحاً، اصطلح عليه الهوية بأربعين وجهاً، وهي هوية مركبة ومنسوجة من شبكة من الترابطات الدقيقة، وكأنها ثوب يخاط بأربعين قطعة من قماش ذي ألف لون، ذلك أن التعددية الثقافية واختلاط القوميات وتمازج الأفكار والتهجن المضطرد، كلها ظواهر تجعلنا مستعدين لهوية مركبة، وأن الهوية النقية لم يعد لها وجود موضوعي بسبب انهيار العوالم المؤسسة لها، ثم أنها تكبلت بقيود ثقافية نقية وخالصة كما تسمى، فستؤول غالباً إلى تحجر الهوية وكل هوية على كل حال تركيبية وكيان هجين، يحمل ترسبات كل الأشكال والطبقات النفسية، وكلما كانت هويتنا الأولى عرضة للتمزق، كلما لذنا بقوقعتنا أكثر، ويعتقد شايغان أن الإنسان المعاصر ما عاد قادر على حفظ كينونته داخل حدود هوية معينة، فكلما شددنا على هويتنا، وكلما رفعنا اصواتنا بالانتماء لهذه الجماعة أو تلك الأمة، أفصحنا عن هشاشة هويتنا أكثر من ذي قبل، إن معاناة الإنسان اليوم من أزمة هوية مردها إلى أن الهوية لم تعد مجموعة رتيبة من القيم الثابتة المطلقة، فالهوية الفرنسية مثلاً تجاوزت اليوم حدود فرنسا، وتمددت على كل المساحة الاوربية ومن يدري ربما اتسعت غداً في كل كوكب الأرضي، والهوية النقية الرتيبة، ومثالها الهوية المنبثقة من شعب أو دين منغلق، لا تتكرس إلا بإلغاء الآخرين، وطبعاً لا يعني هذا الكلام أن شخصيتنا ذائبة في مركب لا شكل له ولا عنوان، إنما معناه أن اختزال شخصيتنا إلى فردية خاوية، لم يعد يلبي حاجة واقعنا الفردي المعاصر الذي غدا مركباً ومعقداً بخلاف بعض الطروحات الساذجة التي تؤكد بساطته ونقاءه، فكلما هيمنة الايديولوجيات بعثت الروح في الاصوات الماضية، وانتشالها من اعماق التاريخ، كذلك تنقل كل مستويات الوعي المتواجدة في دواخلنا بالقوة إلى مرحلة الفعل وتعبر عن وجودها إلى جانب بعضها، وتنبئ عن هويات كنا ذاهلين حتى عن وجودها.
يعتقد شايغان أن الهوية ما هي إلا مجرد وهم ويمكن القول إن جميع القيم التي تراكمت عبر الآلف السنين وكل الجهود التي بذلت في سبيل تثقيف الروح، قد غدت فجأة مجرد أوهام، وأن الحقيقة ليست سوى أرادة القوى هذه المرتسمة على وجه الإنسان التكنولوجي. أن الهوية في عالم اليوم مفتوحة على كل ضروب التلاقح والاختلاط والانشقاق والتشظي والاندماج والتخليق والتعبير وبروز مضامين جديدة بما يظهر وهمية العالم.أشار شايغان كذلك إلى أن معاناة الإنسان اليوم من أزمة هوية مردّها أن الهوية لم تعد مجموعة رتيبة من القيم الثابتة المطلقة، ووجد أن الهوية النقية الرتيبة، ومثالها الهوية المنبعثة من شعب أو دين منغلق، لا تتكرس إلا بإلغاء الآخرين. تراه يقول إن الهويات متداخلة ومتعايشة ومتكاملة، وإننا نضمر في دواخلنا كل ملاحم الأجيال، وهي ملاحم وأساطير متواجدة في أعماقنا بكافة طقوسها وصورها وأحلامها الجماعية. كما يقول إننا في العصر الحديث نقطن مفترق طرق التأويل، ونمد أذرعنا بكل اتجاه، وإننا خارطة تمتد من ماضينا المعرفي إلى مستقبلنا المزدحم بالمتغيرات.
أوهام الهوية
مصطلح أوهام الهوية من بين المصطلحات الأساسية التي نجدها في قاموس “داريوش شايغان” التي وظفها في تناوله لمشكلة الهوية.ومن جهة أخرى نجده قد ألف كتابا يحمل هذا العنوان الذي تناول فيه فكرة الهوية حيث وصفها بـ”الريزومية”، نسبة إلى نبات الريزوم، الذي تمتدّ جذوره أفقياً لا عمودياً، لا مركزية له ولا طبقات فهو ينمو ويمتد في اتجاهات أفقية متجدّدة،و الذي يرى فيه أن الثورة الإسلامية في ايران عام 1979 فتحت مسارا جديدا في تعيين الهوية الجديدة القائمة على الدين بديلا عن الهوية القومية الفارسية السائدة في ايران منذ قرون. هذا التوجه لم يقتصر على ايران “الجديدة”، بل شكّل المنطلق الايديولوجي للحركات الاصولية الاسلامية في معظم البلدان العربية والاسلامية التي طرحت الهوية الاسلامية في وصفها الاساس الموحد والجامع لمجمل الامم التي تدين بالإسلام. اتخذت الهوية الاسلامية حجما اوسع مع التفسخ الذي شهدته ولا تزال المجتمعات العربية وانهيار المشروع القومي ولحمته العروبية، وصعود العصبيات العشائرية والطائفية لتحتل موقع الدولة. وهذا ما اعطى مفهوم الهوية الدينية زخما لكونه اتى يملأ فراغا ناجما عن فشل المشروع القومي والعروبي. هذا الواقع طرح اشكالية الهوية، فهل يعتبر الدين عنصرا موحدا وجامعا، ام انه بحكم موقعه الفئوي والعصبوي والانغلاقي على سائر المجموعات المخالفة، يشكل معضلة وليس حلا؟
ينتقد شايغان الوهم المزدوج، لمثقفين آسيويين تحدثوا في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، عن إمكانية اقتباس التقنية الغربية، مع المحافظة التامة على الهوية الثقافية. فيقول: “ليس بوسعنا احتضان التكنولوجيا والبقاء في أمان من تبعاتها الاستنزافية، فالتكنولوجيا بحد ذاتها حصيلة تحول فکري ونتيجة نهائية لمسيرة عدة آلاف من السنين؛ التقنية بالضرورة تعبر عن غاية ومضمون التفكير الغربي وخصائصه، وهي عبارة عن اختزال الطبيعة إلى شيئية الأشياء، والعقل إلى أداة ووسيلة، والإنسان إلى الغرائز، وتفريغ الزمان من أي معنى للمعاد، وبالتالي اختزال الإنسان في بعد واحد.” نفهم من هذا الكلام أن شايغان يعترف بضرورة الخروج من دائرة التبعية و الوقوف على الحقيقة التي مفادها أن التطور التقني و التكنولوجي هو وليد التفكير الذكي العبقري للعقل الغربي و تجسده عبر سلوكيات عملية أداتية تمخض عنها تشيء الظاهرة الإنسانية. يریشایغان أن مهمة المثقفين الآسيويين من أجل مقاومة وباء الغرب، يتمثل بصيانة هويتهم الثقافية عبر العودة إلى ذاكرتهم الأزلية، وإعادة اكتشاف الرسالة المضمرة في تلك الذاكرة، ويعني بالذاكرة الموروث الذي لا يرتبط بشخص معين، بل هو ذو طابع جماعي، يشكل الذاكرة القومية لكل مجتمع، وهذه الذاكرة تكون أنساب وجذور ذلك المجتمع، وهي التي تمكنه من التواصل مع الأحداث الأزلية والأساطيرية. لذلك تنعت بأنها “أزلية”. الذاكرة الأزلية في مفهوم شايغان مستودع للكينونات، متعالية على الماضي والحاضر والمستقبل، والرسالة المشتقة منها هي التي تصوغ إنسانية الإنسان. ويستهجن شايغان وصف الشرق، بأنّه ساكن متحجر، يقدس الماضي، لأنّ ذلك يعني لديه وفاء الشرق للذاكرة الأزلية. كذلك يرفض ما يسميه فرنسيس بيكون “الأصنام الذهنية”، لأنها هي “الأمانة” الأبدية في ذاكرة المجتمعات الشرقية. ويحاول تبعا لأحد العرفاء- محمد اللاهيجي- صياغة تأويل لمفهوم “الأمانة” الوارد في الآية الكريمة في قول تعالى: “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولً” يتلخص في أنّ المقصود بالأمانة هنا هي الأمانة الجامعة الشاملة لجميع الأسماء والصفات الإلهية، وما الإنسان إلّا مرآة لكافة الأسماء والصفات الإلهية.. أما المقصود ب “السماء” في الآية فهو عالم الجبروت أو عالم الأرواح. و”الأرض” فيها تشير إلى عالم الملك والشهادة. بينما”الجبال” هي المظهر لعالم المثال، الكائن بين عالمي الجبروت والشهادة، عرض الله هذه الأمانة على العوالم الثلاثة فرفضت حملها، ذلك أنّ قابلیتها الذاتية قاصرة ولا تتسع لحملها. غير أنّ الإنسان استجاب للعرض، لأنّه “ظلوم جهول”، وظلوم هنا، بحسب ابن عربي، بمعنى الظلمات وليس الظلم، باعتبار الإنسان في نهاية قوس النزول والظهور، فإنّ أحد مراتبه مظلم عدمي، أما “جهول”، فتعني الجهل بما سوى الحق، فهو عالم بالحق جاهل بغيره، وهذه غاية المدح وإن تبدت على شكل ذم في الظاهر.فالهوية الذاتية، والذاكرة القومية، والحكمة الخالدة، والودائع أو الأمانات والمآثر التاريخية، كلمات تحيل إلى ما اصطلح عليه شایغان”الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية”. والمضمون المشترك بينها هو الموروث أو الميراث أو المأثورأو التراث.
الهوية في الحضارات التقليدية
يستند شايغان في تحليله لمشكلة الهوية على الحضارات الشرقية القديمة أين يتصور شايغان أن الاصطدام الذي وقع بين الحضارات الشرقية بفكر الحداثة و الحضارة الغربية. حاولت أن تحافظ على المكونات الأصلية لثقافتها و أن تبقر على قالبها الحضاري التقليدي لكن بآت هذه المحاولة بالفشل، إذ أنها تأثرت بها في نفس الوقت الذي كانت تحاربها و تقاومها. وخير دليل وشاهد على ذلك يثبت ذلك هو تلك الحركات الدينية الإصلاحية التي تتكلم على الدين أنه عنصر صالح في كل زمان و مكان و أنه لا يتعاكس مع العلم و القيم الحداثية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، هي في الحقيقة تعلمن الدين وتفرقه من محتواه الروحي التقليدي، بمعنى أنه عندما نقول أن الدين لا يتعارض مع العلم، أو مع الديمقراطية فهذا معناه أن الدين أصبح يستمد مشروعيته من هذا الانسجام مع الحضارة الكونية وليس من الإيمان، وهذا العملية يسميها شايغان العلمنة اللاواعية والتغرب اللاواعي.نفهم من هذا أن الهوية في الشرق أخذت طابع غربي و أنها تأثرت بأفكار الثقافة الغربية الوافدة برغم أنهم يحاولون أن يبنوا هوية توفيقية بين أفكار الماضي و الأفكار الغربية التي جاءت بسبب التحولات العميقة التي مست كل العالم و أعطت مشعل الريادة و القيادة الثقافة للغرب.
ويرى شايغان أن الحضارات التقليدية قد انهارت بسبب الحداثة، ونتج عن هذا الانهيار حالة من التخبط لرعايا الحضارات التقليدية في تعاملها مع الأفكار الحديثة التي لم يشاركوا في انتاج اسسها النظرية. من جهة أخرى حصر تأثيرات الحداثة في العالم الإسلامي في ثلاثة نقاط هي:
- التشبث بالماضي والتراث، واعتبارهما مكمن الحلول للأزمات المعاصرة.
- قبول الحداثة من دون الالتفات إلى الفوارق الحضارية، أو من دون استيعابها بالشكل اللازم
- رفض مواجهة تحديات الأزمة الجديدة.
وردود الأفعال تعرب عن عدم استيعاب الدرس الحداثي وفهمه ” فالحداثة في معناها الواسع جدا تأخذ كما هي في الحسبان، أبدا أي موضوعيا في دلالتها الفلسفية الخاصة، بل كانت تؤخذ دائما وفقا للتحولات الأليمة التي ألحقتها بتقاليدنا وموروثاتنا، في طرق معيشتنا وتفكيرنا “
ويعتقد شايغان أنه لا توجد حضارة كونية واحدة غير الحضارة الغربية وقيمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن المجتمعات التقليدية لا تستطيع مقاومة هذه الحضارة وخلق نموذج حضاري جديد وكل مقاومة أو فكر مقاوم لهذه الحضارة الغربية لا ينتج عنه إلا مزيداً من التغرب اللاواعي، وأن قيم الحضارات التقليدية قد انتهى زمنها كأرضية سياسية أو اقتصادية، ولكن بقي فقط دورها الروحي. وأن الهوية في البلدان الإسلامية على جانب كبير من التعقيد، بسبب وجود هوية جديدة على الهوية القومية الدينية في المجتمعات. هذه الهوية ولدت من رحم الحداثة، أي أنها كانت حصيلة مجموعة ن الآراء والمفاهيم، على كل حال راح العالم يتخبط من دون إرادة منه في عالم لا تمت مفاهيمه الوافدة بأي صلة حقيقة للمفاهيم المحلية المألوفة.
المبحث الثاني: مفهوم الاختلاف عند داريوش شايغان
مفهوم الاختلاف و التعددية الثقافية
مفهوم الاختلاف لا نجده مصطلح قائما بذاته بل يفهم في سياق حديثه عن فكرة التعددية الثقافة و هذا الأخير أخذه من كتاب أزمة الهويّة الأمريكية “لدني لاكورن ” أين يرى صاحبه بأن الولايات المتحدّة تتأرجح بين مفهومين هما حُلم ” قِدر الخلْطة المغْلي”، وهو المصطلح الذي أطلقه “إسرائيل زانغويل” عام 1908، ومفهوم ”طبَق السَلَطة” الذي ابتكره “هوراس كالين. “التعددية الثقافية ظاهرة تنتمي لعصر ما بعد الحداثة، إنها ظاهرة تقترن بزعزعة شرعية السلطة الوطنية وعولمة الاقتصاد، ففي مثل هذا الإطار الواسع، تغدو الثقافة أداة ايديولوجية للمقاومة بوجه تنشيط الاقتصاد العالمي، بموازاة انتشار الرأسمالية، وجاءت إلى السطح عبارات ومصطلحات تعبر عن الهوية ومنها أسلوب الحياة والسياسة والثقافة والحرية في كل اتجاهات الأفكار التي تفرضها العولمة، ولم يعد هدف التعددية الثقافية توطيد الوشائج بين الثقافات الموجودة، وإنما تحرير وتعبئة قوى فاعلة قادرة على إنتاج هويات جديدة، والتعددية الثقافية هي قدرة إنسانية عامة على ابتداع قيم جديدة. نفهم من هذا أن الاختلاف هو جوهر التعددية الثقافية الذي تقدم لها الحياة في ظل هذه الحتميات الإيديولوجية الغربية. فالاختلاف بخدم الثقافة العالمية بالدرجة الأولى وهي تقاوم و تحارب الانتماءات الوطنية الضيقة و تجعل الشعوب تتفاعل من التحولات و التغيرات الجديدة في العالم و هي أداة تصنع قيم و أفكار جديدة.
الاختلاف يلعب دورا آخر فهو الذي يقدم النشاط الحيوي للهوية من أجل أن تتجسد في أشكال أخرى تتماشى مع المنظومة الفكرية و الثقافية التي يتأسس عليه المجتمع العالمي الحديث الاختلاف الذي يتجسد في التعددية الثقافية هو مقترن بالحرية التي تنظمها قوانين و أطر تنظيمه. وفي ظل التعددية الثقافية وانشطار الهوية يعتقد شايغان، أن الاختلاف ممكن ولكن لابد أن يلتزم بعدة شروط:
1– يجب العزوف عن التطرف الحاقد والخطابات المعادية، وهي خطابات تحترف اللعن والتفكير بسبب افتقارها لاستدلالات متماسكة.
2- يجب أن نتقبل عدم وجود ثقافات مستقلة بالمعنى الحقيقي للكلمة وإنما نحن دائماً حيال انساق لا يمكن أن تقاوم الحداثة.
3- أن الأواصر بين أنساق الوجود هذه ومستويات المعرفة تأتي على شكل حوار الإنسان مع ذاته ومع الآخر لا في صورة فعل ثوري للغاية منه قلب السلطة وينبغي أن نقتنع كذلك أن الحوار ممكن على مستوى الأفقي.
يشرح لنا “شايغان” العناصر التأسيسية للبنى الاجتماعية والهوياتية في أي مكان في العالم بالقول أنها تتأسس على مبدأين هما:
- الاندماج والهوية الواحدة،
- التعدد والهويات المتعددة،
وتجد في العديد من البلدان محاولات محمومة للتأكيد على حدي الثنائية المذكورة بصورة متزامنة، ذلك أن مجتمعاتها موحدة ومتعددة في آنٍ واحد.وتمثّل التربية والتعليم أساساً في سياسات الهوية والاندماج أو التعدد الاجتماعي، ويسوق ملاحظات البرازيلي باولو فريري ومدرسة فرانكفورت ومفكرين مثل جاك دريدا وميشيل فوكو في هذا المجال. ويبدو أن مطالب الملوّنين في الولايات المتحدة الأميركية بالاعتراف تطرح تحديات متزايدة على معنى الهوية والاندماج الاجتماعي.وهنا نلمس أن الخطاب الاختلافي عند شايغان عبارة عن نظرية تقوم على عناصر و مكونات فرعية أخذها من الاحتكاك بالأنساق الفكرية الغربية و فهم طريق عمل الأنظمة الغربية في سياقتها الثقافية و الإيديولوجية و في هذا السياق نجد أنه يفرّد حيزاً كبيراً لمناقشة النزعات القومية وأوهامها القريبة غالباً من الهذيان، والمفضية أحياناً إلى الجمود وتحجر الهوية. ويرى أن الهويات الحدودية أو الهجينة تمثل ظاهرة متزايدة في عالم اليوم. ويتحدث عن نقد أعمى للمركزية الغربية، ودعاوى كاذبة عن مركزيات أو أصول أفريقية للحضارة الغربية. ويصف تلك الدعاوى بأنها “مجنحة فارغة” وفجة ومتحجرة، وشكل من أشكال الرجعية وتحمل “وصمة الوثنية الأولى”. ونفهم أنه انتقد شايغان بشدة نقاد المركزية الأوروبية وحراس الهويات كما لو أنه يدعو إلى التمسك بـ”المركزية الغربية”، ومن الواضح أنه لا يقصد ذلك بالتمام، وإنما يحاول أن يضع الأمور مواضعها، ولو أن ذلك محفوف بمخاطر كثيرة في عالم تغيرت فيه مفاهيم المكان والزمان.
يقول شايغان إن الغرب هو الداء وهو الدواء، وهو المُعوّل عليه في إبراء الجراح، إن كان بإمكانه ذلك. ويتقصى مجازياً “أربعين وجهاً” للهوية، ولكنه يدرك أن الهوية “جذمورية”، كما في استعارة بليغة له، ويمكن لها (الهوية) أن تتجلى بألف وجه ووجه، وأن تتخفى بألف طريقة طريقة، أو بتعبير أدق إن ثمة عدداً لانهائي من وجوده الهوية واحتمالاتها وتشكّلاتها وتمثّلاتها في عالم اليوم.
وطالما أن شايغان يُعوّل على الغرب في التوصل إلى حل لمسألة الهوية، فإن ذلك يحيل إلى نوع من العدمية تجاه ما هو غير غربي، الذي يغيب ليحضر بوصفه احتمالاً أو فولكلوراً أو تهويمات بلا ذاكرة، وأساطير، وأدلجات فجة، وأشكال وطقوس ورموز لكن من دون القدرة على أن تقوم بأي دور فعال في عالم اليوم.
الاختلاف و الإيديولوجيا عند داريوش شايغان
لقد تناول شايغان مفهوم الاختلاف في سياق حديثه عن مفهوم الإيديولوجيا أين أعتبرها مزيجا من الفكر الديني و الفكر الفلسفي، فهي تستمد من الدين الخاصية الروحية و من الفلسفة الخاصية العقلية و الاستدلالية. و أما الطابع العام لها فهو الدغمائية وهذا يرجع إلى أنها تنطلق من مسلمات تعتبرها حقائق مطلقة لا يمكن تكذيبها أو التشكيك فيها. فالإيديولوجيا لا ترادف معنى الفلسفة لأن هذه الأخيرة تهتم بالإنسان و وضعياته المختلفة و الوجود و تمظهراته، أضف إلى ذلك فالاختلاف جوهره أين نجد الأطروحات و الرؤى في المشكلة الفلسفية متعددة و متنوعة و هذا ما يخلق فيها الحيوية و الحركية و السيرورة و الديمومة. عكس الأيديولوجيا فهي نسق فكري منغلق على ذاته تنعدم فيه الخاصية الجدلية و الاختلافية.
و في سياق آخر يؤكد شايغان أن الأيديولوجيا عكس الدين تماما فهي ترفض المفاهيم المتعالية و الخارقة. هي من المفاهيم التي خرجت من عصر الأنوار ومنه لا يمكن أن تؤثر على عالم الدين و لا على عالم الفلسفة من جهة أخرى. يؤكد أن فاعلة و نجاعة الإيديولوجيا تكون فقط عندما تكون فكرة التحجر الفكر و غياب فلسفة الاختلاف في مجتمع معين. ومهمة الأيديولوجيا تتمثل في مهمتين هما:
- حاجة الإنسان للاعتقاد
- وحاجة الإنسان لتفسير هذا الاعتقاد
لأن الأيديولوجيا تقدم شروحات وفق منظورها فقط و نمط تفكيرها الذي يتسم بالانغلاق فهي ترفض فكرة الاختلاف و تعدد الآراء في المجتمع الذي تسود فيه و هي تعتبر التنوع الفكري تهديدا لحيتها لجودها، لهذا تسعى دائما لمحاربة الفكر المعارض المتمرد عليها.إما بالتهميش أو ضمهم إلى تيارهم أو إلغائهم تماما أو الدعاية المغرضة. ولهذا فالفكر الايديولوجي فكر لا جدلي ومضاد للتاريخ، والايديولوجية تقع عند تخوم الوعي واللاوعي، فهي تستمد مقولاتها السحرية اللاعقلانية من الوظيفة الرمزية للاشعور، وتستمد جهازها العقلي من كونها تعتمد كأداة على عقل هو شكلي النزعة، أن لا عقلانية الايديولوجية تنبع إذاً من كبتها للإسقاطات، أي من لا شعور محروم من رموزه الطبيعية، من لا شعور تترتب فيه جميع بقايا المزايا المهمشة، أن الايديولوجيا ثنائية النزعة بالمقارنة مع البنى الكبرى للفكر التقليدي التي كانت ثلاثية ومندمجة في النظام الانطولوجي للعالم وحافظة لكل تناظرات العالم الصغير والعالم الكبير.
يحذر شايغان من أدلجة المأثور الديني، فتخرجه من مجاله الخاص إلى حل مشكلات العالم، وتحويله إلى ايديولوجيا فيكون عرضه لشتى الآفات، لأن الايديولوجيات جميعها معرضة للآفات والأخطار، ويحذر من ايديولوجية “دنيوية الدين”، بمعنى إهدار الطاقة الرمزية في الشعائر والطقوس والممارسات الدينية، وبالتالي إنهاك الدين وتفريغه من محتواه المعنوي، أن المفاهيم الدينية في غاية الدقة، وإذا ما خرجت عن حدودها الخاصة، فقدت قابليتها وإمكانيتها، مثال يعتبر الوضوء ممارسة تهدف إلى النظافة والصحة، قد يكون للوضوء أثر صحي ولكنه أولاً أثر ضئيل المساحة جداً لدى المسلمين، وثانياً الوضوء ممارسة دينية صرفة، إنه ليس فعلاً صحياً، وإنما هو فعل رمزي وبمجرد أن نجعله صحياً، تكون قد أسقطنا عنه طابعه الرمزي الديني.لأن الدين و فهمه وتأويله سلاح ذو حدين و الاختلاف في تفسيره للعوام قد تكون نعمة و نقمة في نفس الوقت. ومن هذا المنطلق كان لزام أن تكون مهمة فهم الدين تخضع لعملية موضوعية يكون فيها التحديث و روح العصر متوفران فيها من أجل أن لا نترك المجال لأصحاب العقول المتعصبة. و العنصر الذي سيضمن هذه القراءة المنفتحة للنصوص الدينية هو حضور عنصر قبول الاختلاف و زرع فكرة جدلية الأنا و الآخر و التعايش المذهبي و الفكري. فالاختلاف كما يقال لا يفسد للقضية ودها.
حاول شايغان من خلال تناول مفهوم الأيديولوجيا أن يهدم فكرة الدوغمائية و يحاول بناء عقل فاعل يرغب في تحقيق اليقظة و الاعتدال و لبناء و عي نهضوي عبر التواصل اللامرضي مع الغرب اللاكولونيالي ” من خلال تشخيص العلاقة بين الأنا و الآخر. هو يحاول من جهة أخرى زرع فكرة الاختلاف و الرؤية المتنوعة التي تدل على حيوية العقل و فعاليته.وهو يتكلم عن أن الأيديولوجيا التي انبهر بها الحضارات الشرقية و لدت التبعية وركود العقل الشرقي. وتلك هي من مشاكل الإنسان الشرقي الذي تمكنت منه الأيديولوجيا وطغت بحضورها الآسر على عقله، فغيبته، وجعلته أسير مقولاتها الدوغمائية ومُسلماتها الغيبية القائمة على الاعتقاد بمقدماتها على أنها حقائق قبلية من دون أن يُخامره شك في مدى صحتها تجريبياً. إنها وعي زائف بعبارة الماركسيين، لأن كل رؤاها مُقدمات ونتائج إنما هي مُسلمات لا عقلانية، لا ارتباط لها بعوالم الاستنباطوالاستقراء، إنما هي ترتبط بعوالم “التعصب” الذي لا معرفة في سوى معرفة الذات ونُكران لحضور الآخر، وكل ما فيها من أفكار تبدو أنها “واضحة ومُتميزة” بعبارة ديكارت، إنما هي من قبيل المنطق الحُلمي لا المنطق العلمي. ولذلك تجد أنها أكثر قُرباً من الأسطورة واليوتوبيا بعبارة “كارل مانهايم”، مُهمتها تدجين العقل وتعليمه إتقان فن الإصغاء والتلقي السلبي للمعرفة بطابعها العقائدي المبني على الإيمان لا التعقل الذي يسعى من خلاله الأيديولوجيون إلى التماثل والتطابق، وإلغاء الاختلاف بعبارة عبدالله إبراهيم في كتابه “المُطابقة والاختلاف” التي يسعى من خلالها المؤدلجين “إلى “مثلنة” الجماعة و “أبلسة” الخصم” كما يقول شيغان في كتابه “ما الثورة الدينية.[65]هو يربط دائما هذا النسق الأيديولوجي المنغلق بالتصورات الدينية و السحرية التي تستمد منها طاقتها و هو يمثل بالحضارات الشرقية، و يرى أن كل ما عانت وستعاني منه حضارات الشرق هو هذا الإصرار على التمسك بالروح الباطني والسحري المؤسس لبنائها الفكري، وعداؤها المُفرط لكل سُبل التحديث الذي جاءت بها الحضارة الغربية، وإن ظهر لنا بعض حضور وتأثير لهذه الحضارة فهو يُعد في المخيال الجمعي “غزو فكري” لا بد لنا من مُحاربته والخلاص منه ومن أتباعه “أذناب الاستعمار”. حتى غاب العقل النقدي عن حضاراتنا الشرقية بما فيها الشرق الأقصى “الهند والصين واليابان وكوريا” التي كانت محط اهتمام شايغان، ورغم ما تشهده هذه البلدان من نهضة تقنية نجاح مُلفت إلَا أنه “نجاح يشبه نجاح التلميذ الذي يُقدم إجابة ناجحة جيدة في إمتحان بلغة أجنبية”.ومن هنا نفهم الأيديولوجيا هي مرادفة لمعنى الدوغمائية التي تحارب الفكر الاختلافي و تحاول إزالته لأنه يمثل خطر عليها. و هي من جهة أخرى سبب تراجع الدور الضاري للحضارات الشرقية بسبب أخذها التمسك بها.
أهمية النقد و الاختلاف
يعتبر شايغان أن النقد هو الذي قدم القوة الحضورية و الطاقة الوجودية للثقافة الغربية من أجل أن تحتل هذه الريادة و هو يلح عليه في العديد كتابته. و هو يربط النقد بالاختلاف من حيث أنهما لهما دور أساسي في مواجهة المنظومات الفكرية المغلقة الدوغمائية التي تجعل العقل في جمود و ركود، و لقد استشهد بحالة الحضارات الشرقية من أجل إثبات ذلك. كما أن غياب الفكر النقدي يدخلنا في اختلالات غير معقولة ويمنع عنا مساءلة المنجزات التي تصاب أي مجتمع بالركود.نفهم من هذا الكلام أن هنالك تداخلية بين النقد و الاختلاف وهذا يكون متجسد من خلال أن عملية النقد للأفكار و الأنظمة الفكرية المنغلقة هي التي تأجج وجهات نظر متنوعة وتغربل الساحة الفكرية من الأفكار المغالطة و تطور العقل و تجعله أكثر إنتاجا و فعاليتا. و الاختلاف يضمن الجدلية التي يتأسس عليها النقد و يجد فيها حيويته و ووجوده. فالنقد هي الأداة و الاختلاف هو النتيجة التي تتولد عنه. فالخطر الكبير الذي يحمله غياب النقد وخيم على البنية الثقافية إذ أنه يدخلها إلى حالة في الأدلجة المنغلقة التي تمنعها من الحركية و التطور و يتحول هذا إلى إيديولوجية متعصبة مدمرة تساهم في رفض الآخر و الدعوة إلى إلغائه جملة وتفصيل.
عندما يتحدث شايغان عن الدين فهو يتناول نقد الموروث الديني أو الدين على وجه الخصوص باعتباره ـ كأحد مكونات الهوية الثقافيةـ طفرة في طريقة التفكير، وفهما لدور التجديد الديني في البناء الحضاري، للحفاظ على دور الدين نفسه في حياة الفرد أو المجتمع، باعتباره مصدرا للتجارب الميتافيزيقية، التي ساهمت في الحفاظ على فاعلية الدين والتغير الذي صنعه في مراحل تاريخية مختلفة. كما أن ثقافتنا الغنية، ذات البناء القروسطيلا تسمح لنا بفهم الانقطاعات والانكسارات في الأزمة الحديثة، كما أنها لا تأذن لنا بالاستفادة منها، فمنذ قرون لم نصبح نرقص على إيقاع. ولم نعد نحتك ونتفاعل مع التحولات العظمى التي هزت العالم. وإن هذه المفارقات جعلتنا أكثر تبعية واستلحاقا بالعلم الغربي، و التبعية ثقافية قبل أن تكون اقتصادية وسياسية.ويمكن القول أن شايغان يريد أن يخرج الفهم الديني من خلال النقد من دائرة الفهم النقلي و التراثي و التقليدي إلى دائرة الفهم العقلي الحداثي المعاصر و هومن جهة أخرى يبرز لنا أن المكون الديني من بين المكونات الأساسية في المنظومة الثقافية للمجتمعات الإسلامية و التي لا يمكن الاستغناء عنها، ومن هذا القبيل أصبحت مهمة التأويل الصحيح الموضوع من بين الحتميات المعاصرة. وهذا التأويل عنوانه الاختلاف رحمة، فالاختلاف لا يفسد للقضية ودها. إنه في هذا السياق يدعو إلى الدين المتسامح المنفتح لا يتماشى و القيم و الأطر الثقافية التي تسيطر عالم اليوم. وهذا كله سينجر عنه خروج من التبعية الثقافية للغرب.
يؤسس شايغان لمفهوم النقد بالنظر إليه كأداة مهمة لتشخيص المشاكل و التنقيب عن الأفكار الهدامة التي تهدد الكيان الثقافي لحضارة معينة. ربط مفهوم النقد بالفكر الغربي الذي وصفه أنه يعتمد على النقد من أجل تشخص أمراضه و إيجاد اللقاح و لقد وصف النقد بأنه لقاح أمراض الحضارة. و ينوه إلى فكرة أخرى قوامها أن عصرنا هذا هو عصر النقد أين وجب إخضاع كل شيء إلى النقد. و حسب تصوه غياب النقد في المجتمعات الآسيوية الشرقية هو السبب في عدم قدرتها في تجاوز المشكلات الكبرى.ومن هنا نجد أن شايغان أخذ فكرة النقد من الفكر الغربي و هذا الاقتباس لم يكن هكذا بل بعد أن رأى و تيقن من أنها أداة حققت المردود الإيجابي للعديد من الدول الغربية.فالنقد هي الأداة التي نحدد بها التشخيص الدقيق للمشكلة. و انعدام النقد في الحضارات الآسياوية هي التي جعتها تعيش حالة الركود و الجمود.
النقد البناء هو الأداة و الوسيلة و الاختلاف الفعال و الايجابي هو الغاية. و الاختلاف مؤشر على وجود جدلية حيوية في الفكر و يمكن أن نقول أن الفكر الغربي يمكن أن يكون نموذج لهذا و يمكن تلخيص أهمية النقد و الاختلاف حسب ” داريوش شايغان ” في مايلي:
- التشخيص الدقيق للمشكلات الفكرية و الثقافية و تحديد مواطن العطب فيها و هذا يسهل عملية البحث عن الحلول.
- خلق وعي فاعل و تنويري يهام في تحقيق مشروع نهضوي يتماشى مع القيم العالمية و المفاهيم التي توجد في عالم اليوم.
- محاربة الأيديولوجيا الدوغمائية و الموروث الديني التقليدي الذي كان سبب جمود الحضارات الشرقية القديمة.
- الخروج من الفكرة الواحدة المسيطرة إلى الفلسفة الاختلافية التي تؤمن بالآخر.
خاتمة: داريوش شايغان
داريوش شايغان من المرجعيات الفكرية المعاصرة كان تأثير التعدد الثقافي براز في شخصيته الفكرية و منتوجه الفلسفي و خاصة تمكنه من لغات عديدة و نشأته في محيط عائلي و جغرافي ذو ألوان إيديولوجية و دينية و لغوية زاخر.
الهوية في سياق فهم داريوش شايغان مرتبط بمكون التعددية الثقافية فهو لايربط مفهوم الهوية بحضارة معينة و إنما يؤكد على الخاصية التنوع الهوياتي، فمفهوم الهوية حسب تصوره مططي و مرن.
الاختلاف مفهوم يتمظهر في مدلول التنوع و التعدد الحضاري الذي يجمع بين التراكمات المعرفية التي أبدعها العقل الشرقي القديم و التراث الديني وهو يمثل الأصالة و التحولات الحديثة و التقدمات المعاصرة التي أبدعتها الحضارة الغربية وهي تمثل المعاصرة.
الإيديولوجيا المنغلقة و الأفكار الوثوقية هي الأمراض التي تهدد قيام الحضارات الشرقية و هو يدعو إلى الممارسة النقدية البنائة التي بفضلها يخرج الفكر الإسلامي من بوتقة التعصب و مسايرة روح الحداثة الغربية.
لحبطيش وعلي.
حكمة-موقع حزب الحداثة.