الأحزاب والديمقراطية داخل الأحزاب
تلعب الأحزاب السياسية دوراً محورياً عالمياً في القرن الواحد والعشرين. يكاد ألا يكون هناك بلد يخلو نظامه السياسي من الأحزاب. لكن هذا هو العامل المشترك الوحيد بين أنظمة البلدان، فهناك أنظمة ذات حزب واحد، وذات حزبين، وذات أحزاب متعددة، وتبلورت تلك الأنظمة متأثرةً بالشروط السياسية والمؤسساتية القائمة في كل دولة. ما عدا ذلك، تختلف التوجهات الموضوعية والبنى التنظيمية الداخلية بين الأحزاب كثيراً.
يشبه المبدأ التنظيمي الشائع في كثير من دول الشرق الأوسط إلى اليوم النموذج الذي كان معمولاً به في المعسكر الشرقي سابقاً، وهو ما يسمى بـ«المركزية الديمقراطية». تتسم الأحزاب من هذا النوع بالتنظيم الهرمي-المركزي، فهي تعقد مؤتمرات حزبية بشكل دوري، حيث تُنتخب خلالها اللجنة المركزية للحزب ورئيسه، ويقع شغل المناصب الحزبية في المستويات الأدنى ضمن صلاحية هذه القيادة إلى حين الانتخابات القادمة. تقوم القيادة إما بتعيين من سيشغل تلك المناصب، أو يحق لها أن تقترح مرشحين لها. على هذا النحو يُعد كل أصحاب هذه المناصب الحزبية مسؤولين أمام القيادة فقط، فبما أن شرعيتهم لا تأتي من قاعدة الحزب، فهم غير ملتزمين بها بأية طريقة. كما أن قرارات هيئات الحزب العليا تُعد ملزمة للهيئات الأدنى في المركزية الديمقراطية، مما يعني أن على الفروع المحلية للحزب، رغم أنها قريبة من قاعدته على عكس القيادة، أن تطبق سياسة القيادة، بدلاً من أن تنقل مواقف ومصالح القاعدة إلى داخل الحزب. إذن، فـ«المركزية الديمقراطية» هي في الواقع «مركزية تسلّطية».
خلافاً لما سبق، سيُستعرض في الآتي نموذج حزبي بتنظيم ديمقراطي، حيث يكون أعضاء الحزب هم الفاعلين الأساسيين بدلاً من قيادة الحزب.
الفروع المحلية
المحور الأساسي لهذا النموذج الحزبي هو الفرع المحلي باعتباره أصغر وحدات للحزب. كل عضو في الحزب هو في ذات الوقت عضو فرع الحزب في منطقة سكنه. هكذا ينشط كل عضو حزب حيث يعيش وحيث يكون مطلعاً على الأوضاع. ورغم أن الفرع المحلي هو أدنى وحدة لحزب ما، إلا أنه يقوم بمهام جوهرية. ففي أفضل الأحوال يضمن الفرع المحلي أن تنعكس احتياجات ومصالح قاعدة الحزب والسكان المحليين في قرارات الحزب. ومن الناحية الأخرى يشرح الفرع المحلي قرارات قيادة الحزب ونوابه المنتخبين للأعضاء ويسعى لقبولها داخل قاعدة الحزب وخارجها. هناك ثلاثة مبادئ مهمة مترابطة ببعضها البعض تضمن دعم الفروع المحلية وبالتالي دعم قاعدة الحزب، وهي: الانتخاب من الأسفل بدلاً من التعيين من الأعلى، وصلاحية اتخاذ القرار، والاستقلال المالي.
الانتخاب من الأسفل بدلاً عن التعيين من الأعلى
يجب انتخاب مسؤولي الحزب ومرشحي الانتخابات من قبل قاعدة الحزب، ففي هذه الحالة فقط يستمدون شرعيتهم من القاعدة ويتحملون المسؤولية أمامها. يتطلب ذلك أن يكون للأعضاء المحليين الحق في أن ينتخبوا رئيسهم وبقية المسؤولين الحزبيين المحليين بأنفسهم، كما يجب أن يكون لديهم الحق في انتخاب المندوبين للهيئات الحزبية العليا، لإيفادهم إلى فرع المحافظة المسؤولة وإلى مؤتمر الحزب على مستوى المحافظة. إذا كان الحزب صغيراً جداً، يمكن أن يكون كل أعضاء الفرع المحلي تلقائياً أعضاءً في فرع المحافظة أيضاً أو أن يشاركوا في مؤتمر المحافظة. وبينما ينظم فرع المحافظة أنشطة الحزب على مستوى المحافظة، يقرر مؤتمر المحافظة في قضايا برنامج الحزب على نفس النطاق.
إضافة إلى ذلك يقوم مؤتمر الحزب في المحافظة بإعداد قوائم المرشحين للانتخابات الإقليمية والوطنية. ولأن مشاركي مؤتمر المحافظة هم مندوبون عن الفروع المحلية أو أعضاء فيها، تعتبر فرص ترشيح أشخاص غير متأصلين في القاعدة قليلة. ومن فوائد هذا النظام أيضاً ترشيح أشخاص لديهم تجربة السياسية سابقة في أغلب الأحيان، فهم ليسوا مبتدئين سياسيين يجهلون مهام نواب البرلمانات. إذن، الارتقاء داخل الحزب يتم من الأسفل نحو الأعلى في الغالب، ولا يعاد ترشيح من تجاهل مصالح قاعدته عادةً. هكذا يحتفظ الحزب بقدر من النفوذ على مرشحيه بعد انتخابهم أيضاً، رغم أنهم ليسوا مسؤولين أمام حزبهم بعد الانتخاب، بل أمام ضميرهم الشخصي وأمام ناخبيهم فقط.
من مهام مؤتمر الحزب في المحافظة أيضاً إيفاد المندوبين إلى المؤتمر الوطني للحزب الذي يقرر في برنامج الحزب على المستوى الوطني وينتخب قيادة الحزب. هكذا يكون تأثير قاعدة الحزب على قيادته مضموناً هنا أيضاً.
صلاحية اتخاذ القرار
لا بد لفروع الأحزاب المحلية أن تكون لديها حرية القرار بخصوص أنشطتهم المحلية. عليها أن تقرر بنفسها إن كانت تريد تنظيم مظاهرة أو إقامة منتدى أو حفل موسيقي، أو إن كانت تريد دعم اللاجئين أم لا، وكذلك اختيار الأحزاب الأخرى التي تريد التعاون معها. في نفس الوقت يجب أن يُسمح لمندوبي الفروع المحلية الموفدين إلى مؤتمر الحزب في المحافظة أن يعبروا عن مواقف سياسية تخص المحافظة باستقلالية ودون تدخل من الأعلى. وينطبق الشيء ذاته على هيئات الحزب في المستويات الأعلى طبعاً.
تزداد قوة الفرع المحلي بزيادة عدد أعضائه، فهو يستطيع أن يوفد عدداً أكبر من المندوبين إلى المؤتمرات، مما يزيد من نفوذه السياسي. وبالتالي فإنه من مصلحة أعضاء الفروع المحلية الترويج لحزبهم لكسب أعضاء جدد. ويفيد ذلك بدوره الحزب ككل، إذ أن وحده الحزب الذي لديه أعضاء كثيرون يستطيع أن يقوم بأنشطة تستحق الذكر وأن يروج لنفسه بشكل فعال ويقنع الناس بمنحه أصواتهم في الانتخابات القادمة.
في حال رأت قيادة الحزب أن مواقف معينة لفرع محلي أو لمؤتمر الحزب على في المحافظة غير متوافقة مع برنامج الحزب، يصبح تدخل مرجعية للوساطة من داخل الحزب، على أن تكون مستقلة، أمراً ضرورياً. قد تقوم بهذه الوساطة ما يسمى بالمحاكم الحزبية. وحسب حجم الحزب، هناك محاكم حزبية خاصة على مستوى البلديات والمحافظات وعلى المستوى الوطني، تُنتخب في مؤتمرات الحزب المختلفة على جميع المستويات. لها كلمة الفصل في الخلافات داخل الحزب، وليس لرئيس الحزب أو قيادته.
الاستقلال المالي
وأخيراً لا بد أن يكون للفروع المحلية (وفروع المحافظات) للأحزاب استقلال مالي لتنشط باستقلالية عن الهيئات العليا للحزب. تعني هذه الاستقلالية من ناحية إمكانية التصرف بجزء على الأقل من الاشتراكات التي يدفعها أعضاء الفرع المحلي، ومن ناحية أخرى إمكانية الحصول على أموال إضافية عن طريق تنظيم الفعاليات أو جمع التبرعات مثلاً. المهم هنا أن تكون هناك شفافية بخصوص مصدر الإيرادات والنفقات، فيجب أن يحصل كل عضو بشكل دوري على معلومات حول كيفية تمويل فرعه المحلي والحزب ككل. هذه الشفافية وحدها تستطيع أن تمنع حدوث «شراء» أعضاء للحزب (أو الحزب بأكمله) من قبل أصحاب المال و النفوذ في المجتمع و بالتالي تمثيله لمصالح هؤلاء الفردية.
من أجل مخاطبة شرائح اجتماعية معينة، لدى الكثير من الأحزاب مجموعات خاصة للنساء أو الشباب أو المسنين. المهم في الأمر أن هذه المجموعات الحزبية أيضاً تعمل وفقاً لنفس المبادئ الديمقراطية كالحزب بأكمله.
حرية التأسيس، أسباب الحظر، ضرورة البرنامج
إلى جانب مبادئ التنظيم الداخلية هناك أطر وشروط خارجية يجب الالتزام بها كي تستطيع الأحزاب أن تمثل مصالح اجتماعية بشكل فعال ولكي تعمل كحلقة وصل بين المجتمع و أصحاب القرار السياسي. من جهة يجب أن يُسمح لكل مواطن بلغ سن الرشد أن يؤسس حزباً أو يشارك في تأسيسه وأن ينتسب لأي حزب يختاره، ولا يجوز أن يحد جنسه أو عمره أو انتماؤه لمجموعة عرقية معينة من هذا الحق. كما أن للأحزاب الحق أن تعبر عن مواقفها السياسية بحرية، حتى لو تعارضت هذه المواقف مع نهج الأحزاب الحاكمة حالياً. أن تمثل الأحزاب المختلفة مواقف متعارضة هو من طبيعة النظام المتعدد الأحزاب. يعتبر عدم الرضا عن الأوضاع السياسية أو الاجتماعية القائمة وتعامل الأحزاب معها سبباً رئيسياً لتأسيس أحزاب جديدة. فقد أدى تناقض المصالح بين رأس المال والعمل في حقبة التصنيع في أوروبا إلى تأسيس أحزاب عمالية مختلفة. من الأسباب الأخرى التي قد ينتج عنها تأسيس أحزاب جديدة التناقضات بين أجيال وطبقات وأديان وإيديولوجيات أو بين مجموعات لغوية مختلفة في مجتمع ما.
من أجل عدم الحد من حرية الرأي بطريقة غير قانونية يجب أن تكون أسباب منع حزب ما محدودة جداً. في ألمانيا على سبيل المثال هناك سبب واحد فقط يمكن أن يبرر حظر حزب، وهو إن كان الحزب يرمي إلى «إلغاء النظام الأساسي الديمقراطي الحر» لألمانيا الاتحادية. ويجب أن تقوم محاكم مستقلة بحظر ذلك الحزب، وليس الحكومة أو البرلمان.
كما يجب أن يكون لكل حزب برنامج ينص على أهدافه ومبادئه السياسية، بحيث تتاح إمكانية الاطلاع على هذه الأهداف لكل مواطن. كما يجب نشر نظام أساسي يصف البنية التنظيمية الداخلية للحزب بشكل علني وواضح. بهذه الطريقة فقط تتشكل لدى المواطن المهتم صورة تتيح له اختيار الحزب الذي قد ينتخبه أو ينتسب إليه.
democracy-for-syria- موقع حزب الحداثة