حداثة التحرير و تحرير الحداثة
ليعذرني قارئي العزيز عن الاعتماد مجددا على هذه الصورة البلاغية بعد أن زجني فيها زجا كلامي الأخير عن تحرير المرأة. لا بد من القول بداية إننا لم نفرغ من تناول موضوع التحرير لفرط ما يكتسيه من تعدد الزوايا، لكن يوحده في الوقت ذاته، مفهوم جامع مانع نريد التعمق فيه عبر هذا المقال، وهو مفهوم الحداثة، الذي كثيرا ما نغيّبه عن تحاليلنا رغم جوهريته.
لماذا لا يزال اليوم موضوع الحداثة موضوعا ذا بال، موضوعا حديثا، أعتبره على الدرجة نفسها من الأهمية من تلك التي روج لها مفكرو النهضة العربية في زمن ما سموه هم بالـ”حداثة”، ومن تلك التي روج لها مفكرو أوروبا في زمن ما سموه بالـ”الفترة الحديثة”؟
أولا لأنه رغم اختلاف إشكاليات الحداثة الفكرية وامتدادتها الاجتماعية في تلك الفترتين، مقارنة بسياق أيامنا، يبقى الرهان واحدا، وهو رهان العلاقة بين فكر الحداثة ومجتمع الحداثة. طرحي أن هذه العلاقة هي التي تحكم تطور المجتمعات، أيا كان المجتمع. من هنا تعدد أولويات الحداثة حسب المجتمعات، تعدد الأولويات وليس بالضرورة اختلافها، هذا لأن اختلاف أولويات المجتمعات، عندما نتكلم عن الحداثة، مرتبط بتسلسل فترات التاريخ، لكن تسلسل فترات التاريخ، في مقياس عالمنا، لم يعد ممثّلا عبر هذا الخط المستقيم، الذي كنا نقدمه لطلابنا في المدارس على شكل تواريخ تسجل لحظات حاسمة، أو بالأحرى، لقد ذابت هذه «النمذجة»، بمقياس التحليل، في دائرة العولمة، التي ضمت إليها ضمّا تمثيل التاريخ التعاقبي هذا. من هنا جاء ما دأب المحللون السياسيون الفرنسيون على تسميته بالـ»العالم القديم» والـ»عالم الحديث» في ثنائية طُبِّقت على المجال السياسي لكن تتعداها، للدلالة أصلا على بروز «أدوات سياسية» جديدة، هي نتاج بعثرة الأحزاب السياسية التقليدية، لتتصدر الحركاتُ المشهدَ بدلها، لتتحول في النهاية إلى أحزاب سياسية مثل «إلى الأمام».
في الواقع، كانت هذه الظاهرة حاضرة سابقا ثم طواها التاريخ، ثم أرجعها الى الواجهة. فإذا ما بقينا عند الحالة الفرنسية، نجد «الحركة الجمهورية الشعبية» التي برزت إبان الحرب العالمية الثانية، ثم تطورت بداية استنادا إلى مفهوم المقاومة، ثم لاحقا عبر تأسيس هياكل الاتحاد الأوروبي. حينها، أُريدَ طيُّ صفحة العالم القديم لكتابة صفحة أخرى تقوم على جمع، وليس صهر- مختلف التوجهات المكوِّنة للفكر السياسي في ذلك الوقت، ثم توالت المشاريع السياسية – الاجتماعية المدمَجة، كذلك الذي وضعه في السبعينيات رئيس الوزراء جاك شابان دلماس
حين أطلق مشروع «مجتمع الجديد» مركِّزا أساسا على فكرة توزيع أكثر عدلا للثروات، أخذا بنموذج «دولة الرفاهية». يندرج سؤال «ماذا عن الحداثة في أيامنا؟» في هذا السياق تماما، سياق تجارب سياسية واجتماعية تخللت فترات زمانية متعاقبة، لكن هذه المرة تحت تأثير قوي لظاهرة صنعت علاقات جديدة بين الفرد والمجتمع، ألا وهي العولمة.
أجل، لقد برزت زاوية جديدة في مقاربة الحداثة اليوم، فالحداثة والعولمة توأمان لا ينفصلان، من هنا معالم السياق الجديد الذي تنحته هذه العلاقة ووجهه الأبرز: الحراك المهني، فمع تقدم المواصلات ونشأة مهن جديدة في مجتمعنا الحضري الصناعي، المعتمد بالدرجة الأولى على الخدمات، أصبح انتقال الفرد من منطقة الى منطقة أمرا شائعا، يصاحبه انتقاله من مهنة إلى مهنة، فلم يعد بالإمكان مثلا، باستثناء بعض الحالات الخاصة، التي تنتمي أساسا إلى القطاع العمومي، الرهان على مسار مهني «مستقيم»، يسمح باحتساب مبالغ المعاشات بالمقاييس المعتمدة نفسها، في وضع أكثر استقرارا. كما ترتبط حداثتنا المنحوتة بتجليات العولمة وإكراهاتها بالثورة التكنولوجية التي أعادت بدورها تحديد معايير التألم، بحيث لم يعد بالإمكان على سبيل المثال لا الحصر، مقاربة ظروف عمل سائق قطار فائق السرعة بزميله الذي كان يقود القطار البخاري في اوائل القرن الماضي. من هنا إعادة طرح فرنسا مسألة أنظمة التقاعد الخاصة، والتفكير في دمجها في نظام واحد.
ما تعيشه فرنسا حاليا يضعها بين مطرقة الحداثة وسندان التأخير، ما يجعلها في مواجهة مباشرة مع تجليات التحرير بأنواعه: الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وفي الوقت نفسه ضرورة حماية أبنائها بضمان العيش الكريم لهم لئلا يُترك أحد على قارعة الطريق… والرهان مفتوح.
ابيير لويريمون -موقع حزب الحداثة و الديمقراطية