ادب السجون (٤)
وائل السواح : السجان باعتباره كائنا بشريا
تبدأ الحكاية بقطعةٍ من جلد الدواليب يضعونها على عينيك لكيلا ترى وجههم، ثمّ ينغلق عليك باب الزنزانة، فيصدر صريرًا رهيبًا، ثمّ قعقعة هائلة، ثمّ لا شيء سوى الوحدة والوحشة والخوف والحنين. “الطميشة” قطعة من “كاوتشوك” أسود مصمّمة لحجب الرؤية لدى السجين، لكيلا يرى وجه المحقّق أو الجلاد، وهي تشبه قناع زورو، ولكن من دون فتحتي الرؤية للعينين، حين تضعها سيمكنك فقط أن ترى موقع قدميك وتستطيع أن تتأمل أحيانًا حذاء المحقّق، حين يقترب منك ليصفعك. حين ينغلق عليك الباب يجتاحك سؤال بارد، قاس، ومرير: أهي النهاية؟ أيكون حالك كحال من سبقك من الرفاق؟ أتُعذّب كما عُذّبوا؟ أتُنسى كما نُسوا؟ أتكون هذه
اللحظات آخر عهدك بالحياة والشمس والهواء؟ بالنساء اللواتي عرفت والأصدقاء الذين أحببت والشوارع التي عليها مشيت، بالكتب والمسرحيات والموسيقا والسينما!
الهواء ثقيل.. يلج رئتيك بصعوبة، تبذل جهدًا أكبر لتساعده في النزول إلى أسفل الرئتين. في الخارج هدوء قاتل.. الليل في ساعاته الأخيرة، والسجانون أيضًا يريدون أن يناموا ويحلموا بنسائهم أو بنساء جيرانهم. ما الذي تفعله أمك الآن؟ هي على الأرجح نائمة، بينما أبوك قد استفاق لتوّه، ليتوضّأ ويذهب ليصّلي الفجر في الجامع القريب. ثمّ بعد ساعات، تبدأ في الخارج ضجّة خفيفة سرعان ما تزداد. أشياء معدنية يقرقع بعضًا مع بعض. أصوات تصيح آمرة، وخطوات مستعجلة، وأشياء ثقيلة توضع على الأرض بعنف. ثمّ أبواب تفتح بعنف، يدخل المفتاح في القفل.. يطقطق بضع مرّات.. يُفتح الباب، هرولة خطوات، ثمّ يغلق من جديد، ويطقطق المفتاح. تقترب الخطوات والأصوات الآمرة والقرقعة من زنزانتك. يدخل القفل في المفتاح: طق.. طق.. طق. يفتح الباب وتجد نفسك أمامه وجهًا لوجه: إنه السجان، رفيقك وزميلك في السجن، ولكن من الجهة الأخرى. وتبدأ بينكما علاقة غريبة.
بِيدِ السجان أن يحيل حياتك جحيمًا أو أن يجعلها يسيرة بالشروط الممكنة. بعض السجانين الذين عرفتهم غارقون في الشرّ حتى آذانهم، ولكنهم في أعماقهم يحتفظون بكائنات أخرى. ثمّة في مكان ما دفء خاص، ستشعر به حتى وهو يأمرك وينهيك ويكلمك بجفاء أو يجلدك بالسوط. والسجان سوى الجلاد. الجلاد رجل تكون مهمته التعذيب أو استخلاص المعلومات. والسجان تكون مهمته الحفاظ عليك حيًا في الحدود الدنيا. الجلاد يعتبرك مشروع شهيد؛ السجان يهمه ألا تموت بين يديه. بالنسبة إلى الجلاد أنت مصدر معلومة يريد استخراجها منك؛ بالنسبة إلى السجان أنت كالبراغي وورق القرطاسية والملفات وعلب الكرتون الموجودة في المستودع بالنسبة لأمين المستودع أو الحارس. لا بأس إذا سُرق بعضها، ولكنه لا يجوز أن يأخذها كلها أو يتلفها.
في أول صباح لي في المنفردة، أطلَّ السجان وقال آمرًا: “فوِّت أكلك.”. على الأرض كان ثمّة قصعتان صغيرتان. واحدة فيها شاي علتْه طبقة من دهن، وفي الثانية قليل من اللبنة، وعلى الأرض رغيفان عسكريان منفوخان، سمراوان فوقهما دقيق أبيض. أدخلت كلّ شيء بسرعة. كان قد مرّ يوم كامل لم أذق فيه لقمة واحدة. ولكنني لم أكن جائعًا. قربت قصعة الشاي من فمي ورشفت رشفة صغيرة. كان ماسخًا وقليل السكر. ولكن الخبز كان شهيًا. طازجًا. مغريًا. كسرت الرغيف بيدي وبدأت ألوك منه لقيمات صغيرة. لم أكد آكل بضع لقيمات حتى فتح الباب من جديد. إنه دور الحمّام. يمكنك في فرع التحقيق العسكري أن تذهب إلى الحمام ثلاث مرّات في اليوم. يفتح السجان الباب ويتنحى قليلًا مفسحًا لك في المجال لتهرع إلى المرحاض، فتفرغ مثانتك الممتلئة حتى الانفجار أو أمعاءك المتصارعة. وتتوقف الأمور على الحظ. (حبيب عاقل) يبدأ منذ لحظة فتح الباب بالعدّ من واحد إلى عشرة، ومع كلّ رقم يهوي بسوطه (الكبل الكهربائي الرباعي) على الجدار الملاصق لك، وعليك أن تنجز العمل في الفترة التي يعدّ فيها إلى عشرة: أن تفرغ بطنك ومثانتك وتغسل قصعاتك ويديك ووجهك وتركض رمَلًا عائدًا إلى زنزانتك، وإلا فإن الكبل سيهوي فوق جزء ما من جسدك، قد يكون رأسك أو صدرك أو ظهرك. التبوّل والتغوط وغسيل القصعات والوجه واليدين (والوضوء إذا كنت متدينًا) وملء قصعة الشرب تتم جميعها في المرحاض نفسه.
في الخارج، ثمّة مغسلتان لا يجوز لك استعمالهما، وينضاف حلم شرب ماء نظيف من صنبور نظيف إلى أحلامك المؤجلة. (علي) يفتح الباب بصمت ويشير لك أن تخرج، دون أن يقول كلمة واحدة، وينتظرك بعض الوقت قبل أن يدق عليك الباب بالكبل الرباعي، فتسارع للخروج لأنك لا تريد إغضابه. أما (سمير) فيسمح لك بوقت أطول، وربما تغاضى قليلًا عنك إذا رفعت عينيك عن الأرض أو إذا تباطأت في السير عائدًا إلى زنزانتك. بعد الخروج إلى الحمام، تشعر بالنشاط والانتعاش، وتروح تسير في زنزانتك متذكرًا برودة الماء المنصب على وجهك ويديك. تشرب من القصعة ماء باردًا، تحتسيه بروية كآخر كأس من الخمر لديك في هزيع أخير من الليل، لا تريد لها أن تنفد فكل الخمارات مغلقة، ولن تجد من يبيعك زجاجة أو كأسًا أخرى. وراء كلّ واحد من الثلاثة، حكاية بشرية. بالنسبة إلى السجانين، كنا -معشرَ السجناء- أرقامًا، وبالنسبة إلينا كانوا بدورهم أرقامًا. ولكن الحال غير ذلك. كان للعريف (محمد عاقل الجبار) زوجة وثلاثة أطفال. وكان يحب زوجته وأولاده، وحين مرض أحدهم رأيت في عينيه شبح دمعة. بعد شهر في الزنزانة، صار (محمد عاقل) يفتح الباب ويدردش معي أحيانًا. وفي إحدى المرّات حكى لي عن ابنه المريض، وترقرقت عيناه بالدموع، ولكن حين سمع صوت مدير السجن، صفق الباب بقوة، وضرب الجدار بكبله، وصاح عبارة ما توحي بأنه يقوم بعمله بشكل جيد. ولم أستطع سوى أن أعجب من هذا الجبار المخيف الذي يبكي لمرض ابنه ويخاف من مدير السجن، كطفل صغير. وكان (سمير) شابًا في العشرينيات، وسيمًا، ببشرة قمحية فاتحة وعينين خضراوين وشعر بني أجعد. قلت له مرّة إنّ عينيه جميلتان، فصاح بي: “لا تكوم طمس في؟” وضحك، وضحكت. وبعد أيام حكى لي عن البنت التي يحبها ويرفض أهلها زواجهما، لأنه سني وهي علوية. أما (عليّ) فكان لا يفتح فمه مطلقًا، يعمل كآلة، يفتح الأبواب ويقدم الطعام، ويغلق الأبواب، ويشرف على عمل السخرة، وهو يستخدم الكبل فقط للإشارة به. لم أره يضرب سجينًا يومًا ما. وبينما كان العريف (محمد) علويًا من ريف اللاذقية، والرقيب (سمير) سنيًا من ريف دمشق، لم أعرف أبدًا منطقة علي ولا دينه أو مذهبه. أفضل السجانين قاطبة واحدٌ لم أعرفه شخصيًا، ولكن حكى عنه صديقي محمد برو في كتابه «ناج من المقصلة». إنه أحمد السباعي، الذي أنِف التعذيب والسادية، فكان يهمس للمعتقلين بصوت منخفض “بيفرجها الله يا شباب”. يقول محمد برو عنه إنه كان نغمًا نشازًا عن الجوقة العامة، ويضيف: بعد أسابيع لم تطُل، كان هذا الرقيب يتميز عن سواه أنه ما أن يُنهي عدَّ الموجودين حتى يصرخ بالجلادين بحزم: (شرطة.. كفى) فيخرجون سراعًا. ليقوم بإقفال المهجع بيده، وما أن يبتعد عناصر الشرطةُ ليفتحوا المهجع التالي، حتى يُعيد سحبَ الباب إلى الخلف قليلًا قبل أن يُقفله، ويقول بصوتٍ خافتٍ جدًا: “بيفرجها الله يا شباب”. وكانت النتيجة أنّ مدير السجن عذّبه حتى مات بين يدي جلاديه.