ادب السجون (٣)
راتب شعبو: السجن كتجربة وضريبة لمواجهة طغيان سياسي
ختمتُ كتابي عن نفق السجن الماراتوني الذي استغرق مني عبوره ست عشرة سنة وثلاثة أيام، بالعبارة التالية: “خرجتُ من السجن ولكن هل خرج السجن مني؟”. الجواب البديهي على السؤال هو النفي، السجن لا يخرج من السجين، ليس لأنه يبقى جزءًا بارزًا في ذاكرته، بوصفه تجربة قاسية، بل لأنه يبقى جزءًا من معوقات حريته، سواء في علاقته مع ذاته أو في علاقته مع الآخرين. ويكون ذلك صحيحًا أكثر حين يخرج السجين في ظل النظام السياسي نفسه الذي سجنه، أي حين يخرج مهزومًا، حين يخرج مثلًا بعفو يقول إنّ الجهة التي أجرمت بسجنه إنما
تشفق عليه فتفتح له باب الخروج من السجن. ولا يختلف الأمر، حين يخرج السجين السياسي عند انتهاء مدة حكمه الظالم المسبق الصنع (هذا بعد أن “تطور” النظام السوري وصار يحيل ضحاياه إلى محاكم ليس لها من اسمها نصيب، ولا تعدو كونها واجهة “قضائية” لفروع المخابرات، حتى تكاد تشم رائحة الدم والأقبية في قاعات هذه “المحاكم”).
من جهتي، كانت حالتي مزيجًا بين الحالتين، أنهيت مدة حكمي التي هي العقوبة الأقصى للتهمة التي وجهت لي، ثمّ لم يُفرج عني إلا بعفو صدر بعد سنة وثلاثة أيام من انتهاء مدة الحكم. لك أن تتخيل كيف كان سجني حاضرًا في كلّ حياتي التالية، حتى إذا غاب قليلًا عن نفسي، أعادته لي عيون المعارف القلقة، ونبرة الموظفين الصادة حين أضطر إلى مراجعتهم لأمر ما. غير أنّ ذلك، لحسن الحظ، لم يكسرني من الداخل لقناعتي، الطفولية ربما، أنّ وراء هذه العيون القلقة، وهذا الصد العدائي تكمن ضمائر معذبة حليفة لي بعد كلّ شيء.
لا تؤلمني ذكرى السجن، ولا أسعى لنسيانه بقدر ما هو تجربة، وبقدر ما هو ضريبة لمواجهة طغيان سياسي. على العكس، يعطيني ذلك بعض الشعور بالقيمة أمام نفسي. أرتاح في الحديث عن السجن، وأحبّ أن أكتب عنه. لا يريحني أن أرى سجينًا يتهرب من الحديث عن سجنه، وإن بدا لي أنّ التصوّر العام يميل إلى اعتبار الحديث عن السجن ليس إلا “تقليب مواجع”. السجن محلّ للحرمان، ولكنه محل يتيح لك ما لا يتيحه المجال العام خارج السجن.
في السجن تعبّر عن رأيك بحريّة، ليس فقط مع رفاقك في السجن بل حتى مع عناصر الشرطة أنفسهم. وفي السجن يمكنك أن تقرأ (حين يكون الكتاب مسموحًا بالطبع، وهو مسموح في بعض السجون). القراءة والتحرر من أعباء الحياة اليومية التي يعيشها “أهل الخارج”، تسمح للسجين بتعميق ثقافته وبالتأمل وتطوير تصوره عن العالم، على هذا يمكن أن يحرر السجنُ السجينَ من ضيق الأفق ومن الأوهام، وربما من الصبيانية الملازمة للعمل السياسي المعارض. ولكن السجون المشدّدة والمديدة تثابر على تدمير النفوس والعقول معًا، فيخرج السجين محطمًا على شكل شخص مستكين مستسلم، وهو الغالب، أو على شكل شخص متوتر يتيحن لحظة انتقام أعمى.
الإقصاء المديد عن الحياة العادية بسبب الحبس أنزل في نفسي طعم الهزيمة. خرجت من السجن أقلّ عنفوانًا، وأصبحت أقلّ تمردًا واحتجاجًا على ما أراه خاطئًا. كان هذا يقتل تقييمي الذاتي ويرتد مرارة على نفسي، أي إنّ الهزيمة المستتبة زادت المسافة بين ضميري وبين مسلكي العام. حين دافعت عن رسالة الماجستير، مثلًا، وقعت في يد أستاذ مُشرف اختار لي موضوعًا غريبًا بلا مراجع، لا على الإنترنت ولا في المكتبات، ولم يوفّر لي مرجعًا أعتمد عليه سوى بضع مقالات قريبة من الموضوع وباللغة الروسية، من دون أن يساعد في ترجمتها، وأخّرني ستة أشهر عن بقية زملائي. كان يجعلني أنتظر في عيادته بالساعات كي أستشيره فيما عليّ فعله، وكان يعزو سبب هذا التأخير، لمن يسأله، إلى كسلي في البحث. أعتقد أنني لولا السجن لما سمحت بمرور هذا السلوك، كنتُ سأتمرد وسأغامر حتى بخسارة شهادتي انتقامًا لكرامتي، غير أني “صبرت” ولم أفعل، وكان لهذا أثر كاوٍ في وجداني. أرى أن هذا من المفاعيل السلبية للسجن عليّ.
في سورية، عدد غير قليل من الكتابات عن السجن، هذا انعكاس طبيعي لسيطرة القمع في فترة طغيان آل الأسد في سورية. من جهتي، أقدّر كلّ من كتب عن السجن، ولا سيّما أصحاب التجربة الفعلية. لكن يبقى أمامنا الكتابة عما بعد السجن، عن السجن الذي استقرّ في النفوس وعن مفاعيله التالية.
مفيد نجم: صوت الإنسان أولًا قبل الكتابة عن السجن وبعدها
- الثقافة في زمن الاستبداد:
أُمّمتْ الثقافة في سورية على غرار تأميم السياسية والاقتصاد والمجتمع مع انقلاب 1963. احتكرت الدولة العمل الثقافي والإعلامي، وكان ذلك بداية النهاية لحرية الثقافة والإبداع، لكن المرحلة الأخطر في هذه التحوّلات كانت مع انقلاب 1970، وبدايات تكريس سلطة الاستبداد ودولته الأمنية. لقد عملت هذه السلطة على إنتاج نموذجها في مؤسسات العمل الثقافي، بغية تكريس هذه الظاهرة وتعميمها في حياة المجتمع (نجاح العطار وزيرة الثقافة حوالي اثنتي عشرة سنة، وعلي عقلة عرسان ما يزيد على عقدين من الزمن، وأحمد إسكندر أحمد
حتى وفاته). لذلك كان من الطبيعي أن تتحوّل هذه المؤسسات إلى مؤسسات للارتزاق والمحسوبية وأنصاف المثقفين والكتّاب، وأن يضيق هامش الحرية حتى يختفي نهائيًا بالتوازي مع الانحدار الذي كان يشهده الواقع السوري اقتصاديًا واجتماعيًا وتربويًا، نتيجة تغوّل السلطة الأمنية وممارساتها القمعية المنهجية التي حوّلت مؤسسات الثقافة إلى مؤسسات طاردة لرموز الثقافة والفكر والأدب.
إنّ مراجعة بسيطة لواقع الثقافة السورية يكشف عن مستوى الانحدار الذي بلغته هذه الثقافة ومؤسساتها التي تحوّلت إلى مجرد هياكل ليس لها أي فاعلية أو تأثير في المجتمع، مع الاستمرار في عمليات التدجين والقمع وشراء الولاءات، لقد كان هذا الواقع جزءًا لا يتجزأ من عملية الانحدار السريع الذي كانت تشهده جوانب الحياة السورية المختلفة مع تحكّم الأجهزة البوليسية بكل مفاصل هذه الحياة، وجعل الولاء معيارًا في تبوء مواقع إدارة العمل الثقافي ومؤسساته الفاقدة لأي دور ثقافي فاعل.
- أدب السجون
تجربة “أدب السجون” في سورية بصورة خاصة حديثة العهد، إذ كان من الصعب الكتابة عن السجن في ظل هيمنة السلطة الأمنية على الفضاء العام في سورية، على الرغم من كونها أكثر التجارب المسكوت عنها في ظل هذه السلطة المتوحشة التي حوّلت سورية إلى سجن كبير. لذلك كان من الطبيعي أن تنتظر هذه الكتابات الانتفاضة السورية حتى تبدأ بالظهور. إنّ حداثة التجربة وطغيان البعد السياسي في هذه التجربة جعلا أغلب هذه الكتابات تنوء تحت ثقل حاملها السياسي، باعتبارها محاولات للتأريخ لهذه الحقبة السوداء في تاريخ سورية الحديث من جهة، وللكشف عن الطابع العنفي المتوحش الذي كان يمارس داخل هذه المعتقلات والسجون. لذلك كان من الطبيعي أن يغلب الطابع التقريري والسردي الذاتي على هذه الكتابات، بينما افتقدت إلى العمق عبر الحفر عميقًا في الذات الإنسانية للسجين على المستوى الإنساني والوجودي والنفسي. لقد كانت هذه الذات هي محور هذه التجارب بكل فظاعاتها، ولم يكن السجين سوى ذلك الإنسان المرمي في ظلمة عالم رهيب. إن سيطرة ثنائية الجلاد والضحية على هذه الأعمال أدّت إلى نوع من التنميط، خاصة أنّ هناك عشرات الآلاف عانوا قسوة وآلام هذه التجربة التي كان من الطبيعي أن تتباين أشكال تجليها بين سجين وآخر.
إنّ “أدب السجون” ليس مجرد تسجيل وقائع ومشاهدات لممارسات عنفية ومحاولات لتحطيم الذات وهزيمتها، عبر سنين طويلة من التغييب والتعذيب، للتدليل على واقع العنف الممارس داخل هذه السجون. هناك السجين الإنسان في قوته وضعفه، والتأرجح بين الحالتين يكشف عن البعد الدرامي المتوتر في هذه التجربة. لقد سكتت أغلب هذه الكتابات عن كثير مما يمكن أن يكتب ويمنح هذه الكتابات عمقها التراجيدي الدال والمعبر عن أحوالنا كما هي عارية في مهبّ هذا الطغيان المجنون.
أسئلة كثيرة عن الجنس والمرأة في هذه العالم الذكوري الخالص، وعن التناقضات الاجتماعية والسياسية حتى على مستوى الحزب الواحد وسواها، وحالة الذاكرة التي تفتقد مع الزمن ذلك الخيط الحي المتصل مع الحياة. كلّ هذا وسواه لم تجرِ مقاربته بغية استكمال صورة هذه التجربة المخيفة بكل أبعادها ومضامينها الذاتية والعامة، من أجل استعادة صورة السجين الإنسان في العمق
من هذه التجربة. كذلك لا بدّ من استكمال أدوات الكتابة الفنية، كاستخدام المنولوج والحلم والتداعي، لأنّ هذه الذات كانت تعيش تحت كابوس مرعب لا بدّ من استجلاء آثاره وتعبيراته بكل أشكالها المفزعة كما كنا نعيشها.
- صورة السجان
لم يكن السجان في هذه التجربة الاستثنائية في تاريخ سورية الحديث إلا على صورة السلطة التي اختارته لهذا الدور الإجرامي، لذلك عندما كتبت عن التجربة حاولت أن أنتزع وجه سجان ما في لحظة إنسانية مدهشة من هذا المشهد المرعب، لكي ننصف القلة القليلة منهم كما حدث معي، عندما حاول أحدهم أن يهرّب لي تفاحة ولكي لا يشتبه به زملاؤه اضطر إلى أن يقضم منها قليلًا.
السجن لا يحرر ولا يضيف إلى تجربة السجين شيئًا مهمًا، ما لم يكن ثمّة وعي وانفتاح على التجربة في عمقها الوجودي والإنساني والسياسي. لذلك لا أعتقد أنّ السجن حررني إلا من التعصب الفكري والأيديولوجي. أما أسوأ ما فعله فهو الشعور بالخيبة، عندما اصطدمت بواقع الأحزاب السياسية المعارضة داخل هذه السجون، ما جعلني ابتعد عن أي تكوين سياسي معارض بعد الثورة.
لا أحمل كثيرًا من الذكريات الطيبة عن السجن سوى ذكرياتي عن أشخاص تشاركنا معًا الألم والأمل والمحبة والحلم بسورية الجديدة التي تستعيد الوجه الحضاري والإنساني الكبير الذي لعبته في التاريخ الإنساني. ومع الأسف، هناك من لا يزال يعدّ السجن امتيازًا خاصًا به، ولا يريد أن يخرج منه ربما لأنه لم يستطع أن يجد ذاته خارج هذه الرمزية الخاصة للتجربة. في كتابي[1] عن هذه التجربة، حاولت أن أستعيد الإنساني في عمق هذه التجربة، لكني بعد سنوات من صدوره، وجدت ثمّة ما يحتاج إلى إعادة كتابة وحفر في أبعاد هذه التجربة ومضامينها، على الرغم من فداحة استعادة ما كنت أحاول نسيانه فيها. كتابي الجديد الذي أستعد لنشره سيكون أكثر انفتاحًا وتمثلًا لهذه الرؤية واستعادة لصورتها المؤلمة جدًا في مرايا الذات وشظايا زمنها الدامي. لا أعتقد أنّ سجينًا تحرر نهائيًا من آثار السجن بعد عقود على خروجه منه. كلمات عديدة من عالم السجن ما زلت استخدمها لا شعوريًا في حديثي تجعل الشخص الآخر ينظر إليّ باستغراب، خاصة عندما لا يعرف شيئًا عن تجربتي المريرة. ويولّد هذا الأمر لديّ شعورًا بالاضطراب، لأنه يشعرني بأني ما زلت أحمل السجن في داخلي، لذلك لا أعرف ما الذي يمكن أن أقوله عن ضحايا المعتقلات السورية الرهيبة الراهنة، مع اشتداد مستوى الوحشية والتعذيب والقتل فيها. ما عشناه كان تدريبًا أوليًا على لا معقولية الإرهاب الذي سيعصف بعشرات الآلاف من الضحايا السوريين، بينما يصمت العالم كله عن هذه الجريمة التي ستظل وصمة عار في تاريخها.
محمد ديبو : لا ثقافة حرة في أزمنة الاستبداد
أتذكر جيدًا أنه أثناء نقاشاتنا في بعض الحلقات الضيقة في دمشق، بعد أن صدرت الأحكام على معتقلي “ربيع دمشق”، أن أحدهم قال تعليقًا على الحكم الجائر بحق الدكتور عارف دليلة الذي حكمته المحكمة آنذاك بعشر سنوات، في حين تراوح نصيب رفاقه بين ثلاث إلى خمس سنوات: “حتى في عهد حافظ الأسد السيئ لم يسبق أن سجن مثقف بارز، في حين يحصل هذا في عهد الابن”.
في واقع الأمر، لم يدقق أحد من الحاضرين في تلك العبارة آنذاك، لأننا كنا مذهولين من قسوة الأحكام وغارقين في خيبة الأمل التي أغلقت آخر أبواب الإصلاح الذي كانت تطالب به وتقود حراكه نخبة من سياسي البلاد ومثقفيها. الآن وأنا أقرأ سؤالك الأول: (كيف تعامل كلّ من الأب وابنه الوريث مع المثقفين والمبدعين من الكتّاب ونكلا بهم في سجون الترهيب والقمع) تعود تلك العبارة لترن في بالي، وكأني أسمعها للتو، ليس لعدم صدقيتها فحسب، وليس للخجل الذي يعتريني، لأني لم أفكر في مدلولها حينذاك ولم أرد على صاحبها فحسب أيضًا، بل لأنها تخفي بين طياتها جهلًا فظيعًا بواقع الاستبداد من جهة، وقصورًا هائلًا في تعريف معنى “المثقف”، فأي مثقف هذا الذي ترضى عنه سلطات العسف والاستبداد ولا تعتقله حقًا؟ ومن هو المثقف/ المبدع؟ وكيف يحوز صفته تلك ما لم تكن معرفته وما ينتجه فكريًا وأدبيًا، منحازًا للناس في مواجهة سلطات القمع والبطش؟ إن أسئلة كهذه تقودنا إلى محاولة معرفة معنى المثقف، وتقودنا أيضًا إلى قراءة معناه في ضوء التطور التاريخي لمعنى المثقف في سورية، لأنّ معناه يتحدد في كلّ مرحلة بشكل مختلف عن مرحلة تسبقها أو تليها. وعليه، لا يمكن نقاش عبارة الصديق التي بدأنا فيها هذه المادة، التي ترى أفضلية لاستبداد الأب على استبداد الابن، من حيث إنّ الأول لم يسجن مثقفًا، إلا على ضوء تحوّلات معنى المثقف وتطورها بين عهدي الأسدين. ولأنّ المجال لا يتسع في مشاركة سريعة كهذه، لعرض تحوّلات وتبدلات معنى المثقف منذ ولادته في العصر الحديث، فإننا سنشير إلى ما يخدم فكرتنا ويوضحها من دون الغوص في التفاصيل، ففي مرحلة ما قبل تسعينيات القرن الماضي تقريبًا، لم يكن مفهوم المثقف في سورية قد ابتعد كثيرًا عن حقله الأيديولوجي، أو بشكل أدق عن التصاقه اللصيق بالأيديولوجية، فالمثقف آنذاك، كان ذلك الفاعل -سياسيًا أو اجتماعيًا- من خلال حزب ما أو أيديولوجية يرى أنّ “الخلاص” قائم بين طياتها، وعليه كان هناك المثقف اليساري والمثقف الإسلامي والمثقف القومي والمثقف الليبرالي، تبعًا للأيديولوجية التي يؤمن بها، مع ملاحظة أنّ كلّ أيديولوجية تنقسم تحت عنوانها العريض إلى تفرعات صغيرة، وفقًا للأحزاب المنضوية تحت لواء هذه الأيديولوجية. وعليه، فإنه في عهد الأسد الأب لم يكن بعد مفهوم المثقف المنفصل عن الأيديولوجيا والأقرب للالتصاق في الحقل المعرفي قد ولد بعد، كما بدأ يحصل بعد تسعينيات القرن الماضي، حيث بدأت تتبلور شيئًا فشيئًا معاني أوضح للمثقف المعرفي الذي يركن تصوّراته ورؤاه لما تقوله المعرفة بعيدًا عن تحيزاته الأيديولوجية، حتى لو كان هذا المثقف نفسه يميل إلى موقف أيديولوجي ما على آخر، إلا أنه لا يسمح لرؤاه الأيديولوجية بالتسرّب إلى ميدان معرفته حين تتضاد معها، فالأولوية لما تقوله المعرفة لا الأيديولوجية. بهذا المعنى، فإنّ كلّ الذين عرفتهم سجون الأب هم مثقفون، بطريقة أو بأخرى، لأن المفهوم الأساس للمثقف حينها كان ذاك الذي يقارع السلطة من موقف أيديولوجي، حيث لم يكن ولد بعدها مفهوم المثقف المعرفي المستقل، وهو الأمر نفسه الذي استمر في عهد الأسد الابن، بالرغم من تغيّر وتطوّر مدلول ومعنى المثقف، لأنّ السلطة المستبدّة في نهاية المطاف لا تأبه لكل هذا “الترف الفكري”، حول تبدلات وتحوّلات معنى المثقف، بقدر ما تقيس الأمر من موقع واحد لا غير: مدى تهديد الأمر لسلطتها وقوة حضورها، فكلّ من يهدد هذه السلطة أو يعرّيها أو يشير إليها أو يشكل مصدر خطر مباشر لها، مكانه واحد من اثنين لا ثالث لهما: القتل أو الاعتقال. وهذا لا يعني أبدًا أنه لم يكن هناك مثقفون خارج المعتقلات، بل إنّ هؤلاء بنشاطهم “الثقافي” لم يكونوا يشكلون خطرًا مباشرًا وواضحًا على كرسي الحكم من جهة، كما أنّ تركهم خارجًا يتيح للاستبداد ذاته الاستثمار بهم، من خلال تجميل حكمه بأنه نظام لا
يعتقل المثقفين، بل “العصاة والخارجين عن القانون”، وهو الأمر الذي تشي به عبارة الصديق أعلاه، وهي عبارة مضللة وخاطئة ومبررة للاستبداد الذي لا يفرق حقيقة بين مثقف ومثقف، إلا بدرجة الخطر عليه، فحتى ذاك الذي بقي خارج أسوار السجن هو أسير الاستبداد، وهو سجين مع وقف التنفيذ، حيث بدأ يبحث عن آليات حماية ذاته من الاعتقال والبحث عن أدوات إبداعية تسمح له بالإشارة ما أمكن إلى الاستبداد وتخطي سيوف الرقابة، الأمر الذي جعل حتى المنتج الثقافي محكومًا بهذا الشرط الاستبدادي الجائر الذي وجد المثقف نفسه بمواجهته، فلا ثقافة حرة في أزمنة الاستبداد، مهما ادّعت عكس ذلك، لأنها محكومة بشروطه الموضوعية، حتى حين كان المثقف يتجرأ ويعلن معرفته المواجهة للاستبداد، لأنّ المعرفة التي ينتجها نفسها، حتى حين تواجه النظام، هي معرفة محكومة من خلال شروط إنتاجها بالشرط الاستبدادي المعيق لولادة معرفة حرة وواعية وقادرة على فهم مجتمعها، والسلطة الاستبدادية ذاتها، وهو الأمر الذي جعل ذلك الصديق يطلق عبارته تلك، حتى وهو يعارض استبداد السلطة.
انطلاقًا مما سبق، فإنّ الاستبداد كان حاضرًا فينا في كلّ لحظة، حتى ونحن نواجهه ونسعى للانعتاق منه، والأمر نفسه ينطبق على السجن والمعتقل، ففي حقيقة الأمر، يبقى السجن حاضرًا في كلّ ما نكتب، ليس لأننا لم نخرج من المعتقل، كما يتوهم البعض، فعلى الصعيد الشخصي، تحرّرت من تلك المسألة، ولم أسمح لها بأن تعوق مسيرتي (ربما لأنّ الفترة قصيرة جدًا، ولا يمكن أن نعدّها سجنًا أو اعتقالًا قياسًا بمن قضوا عقودًا داخل تلك الزنازين)، بل لأمرين اثنين: يأتي أحدهما ليتواشج مع الثاني ويتداخل معه. يتعلق الأمر الأول بمسألة أنّ السجن لم يخرج من حياتنا أساسًا، فهو يحاصرنا من كلّ صوب، فسورية قبل عام 2011 لم تكن أكثر من سجن كبير، ممنوع أن تكتب، ممنوع أن تصرخ، ممنوع أن تنتقد، من الصعب أن تحصل على كتاب تمنعه الرقابة، لا صحافة حرة ولا صحافة ناقدة تدخل البلد… أمام هذا الشرط الذي حكم حياتنا، فنحن عمليًا كنا نعيش في المعتقل الكبير الذي اسمه “سورية الأسد”، وهو أمر استمر حتى اليوم، وإذا كنّا تحرّرنا من التجربة الشخصية بمسألة الاعتقال، فإنّ بقاء آلاف المعتقلين، ومنهم أصدقاء شخصيون حتى تلك اللحظة داخل تلك الزنازين، يجعل من مسألة تحررنا من المعتقل ترفًا لا نملكه، إذ يحتّم علينا واجبنا الأخلاق والوطني والإنساني إبقاء الصوت عاليًا، لأجل التذكير بقضيتهم ومواصلة النضال لأجل إطلاق سراح آخر معتقل في تلك المعتقلات الجهنمية. وأما الأمر الثاني فهو يأتي امتدادًا للأول، بمعنى أنه في ظل الأمر الأول وبتأثير منه، كنت قد بدأت الاهتمام بمسألة السجون والمعتقلات والمعتقلين السياسيين و”أدب السجون” قبل عام 2011، وقبل مرحلة اعتقالي القصيرة، حيث كنت كتبت عشرات المقالات عن تجارب هؤلاء المعتقلين، وكان في نيّتي دومًا العمل على كتاب حول هذا الأمر، نأمل أن يتاح لنا الوقت يومًا لكتابته، لأني خلال رصدي لكثير من الأعمال والمذكرات التي تحدثت عن السجن والاعتقال السياسي، لاحظت أن أغلبها ينوس بين السيرة الذاتية والأدب، وكان هذا يطرح عليّ دائمًا سؤالًا محددًا: أين يبدأ الأدب، وأين تنتهي السياسة في تلك الأعمال؟ هل يمكن اعتبارها أعمالًا روائية أم أنها سيرة ذاتية لأصحابها؟ وإذا كان بعضها قد حدّد جنس كتابتها من خلال تذييلها بكلمة “رواية”، فإلى أي حد تنطبق صفة الرواية حقًا على تلك الأعمال؟ وهذا أمرٌ يحتاج إلى بحث وقراءة نقدية أدبية لمجمل ما كُتب، قراءة تُخضع تلك الأعمال للشرط النقدي الأدبي، بعيدًا عن شرط “البطولة ومقاومة الاستبداد” التي غالبًا ما تطغى عند قراءة هذه الأعمال، وعلى نتيجة بحث ونقد كهذا، يمكن الإجابة معرفيًا على سؤالك المطروح: هل هناك “أدب سجون” في سورية؟ وعلى الرغم من أن الإجابة الأولى والكمية السريعة تقول: نعم هناك “أدب سجون” في سورية، نظرًا لكمّ الأعمال التي صدرت عن السجن، فإنّ الإجابة المعرفية الحقيقية والدقيقة، تحتاج إلى تحليل معرفي نقدي لكلّ الكتابة التي تناولت موضوع المعتقل وتحليلها على ضوء الشرط الأدبي، وعلى المستوى النوعي لا الكمي فقط، وهذا مع الأسف لم يحصل نقديًا حتى الآن في سورية.
أما سؤالك: “هل استطعت أن تعري السجان وأن تكون شاهدًا روائيًا أدبيًا على مرحلة هي من أهم وأخطر مراحل التاريخ السوري المعاصر؟”، فهذا أمرٌ يجيب عنه النقاد أكثر مني. إلا أنني أستطيع القول إنني حاولتُ، في مجموعتي القصصية «خطأ انتخابي»، وكتابي «كمن يشهد موته»، وهو سيرة عن تجربة الاعتقال وظروفها، وقد تُرجم إلى الإيطالية وصدرت طبعته الثانية في روما العام الماضي، تعريةَ عوالم السجن والاستبداد من خلال الكتابة عنها. لا شكّ أنني كنت مهمومًا بفضح عوالم الاستبداد والمعتقلات والسجان الذي حاولت أن ألتقط الإنساني فيه حتى حين كنت داخل المعتقل، وهو ما كتبت عنه في «كمن يشهد موته»، إلا أنني قبل ذلك كنت مهمومًا، بكتابة نص أدبي يُخضع السجن لشروط الأدب وليس العكس، فإلى أي حد نجحت؟ أكرر هذا يجيب عنه النقاد لا أنا.
تسألني: من يؤلم أكثر السجن أم الكتابة عنه؟ وأقول: قبل أن أعاني تجربة الاعتقال كان هذا السؤال “من يؤلم أكثر السجن أم الكتابة عنه؟” يعني لي شيئًا ما، ولكن بعد قضاء اليوم الأول في المعتقل، اختفى هذا السؤال ولم يعد إلى ذهني نهائيًا ومطلقًا بعدها، إذ بات يبدو لي “تنظيرًا من عل”، لا مكان له في الواقع. إذ لا شيء، لا شيء إطلاقًا أكثر إيلامًا وتعذيبًا وكسرًا للروح والجسد والذات أكثر من السجن ذاته، لا الكتابة عنه ولا تذكره، دون أن يعني أنّ الكتابة عنه ليست مؤلمة نهائيًا، ودون أن يعني أيضًا أنّ تذكر أيام المعتقل التي لا زالت تعود لي في الكوابيس ليست مؤلمة، ولكن حين نقارن هذا بساعة واحدة في زنزانة من عشرة أمتار فيها أكثر من خمسين شخصًا في ظروف بالغة السوء، فإنّ المقارنة من أساسها خطأ، بل من المعيب أن تطرح في هذا السياق أساسًا، إذ كيف يمكن لي أن أقارن ألمي، وأنا أكتب هذه الكلمات، بالألم والوحدة والجوع والعطش والتعذيب الذي يعانيه في هذه اللحظة شخصٌ أو صديق معتقل في سجون النظام؟ حقيقة الأمر، لا يمكن المقارنة أبدًا، فلا شيء أكثر ألمًا من السجن ذاته والاعتقال ذاته، لا الكتابة عنه ولا تذكره. وإذا كان السجن قد حررني من شيء، فقد حرّرني بالمقام الأول من هذه الأوهام “الثقافوية” عن المعتقل، التي قد يكون وجودها عائدًا إلى الشرط الاستبدادي الذي تحدثتُ عنه آنفًا بإيجاز، وقد يكون هذا أسوأ ما فعله الاستبداد وسجونه فينا، أي تشويه الوعي ومنع القدرة على تكوين وعي ومعرفة بطبيعة الاستبداد وما يحدثه فينا، فنعيد دون أن ننتبه أحيانًا، ثقافة الاستبداد في تعاملنا مع بعضنا البعض، أي تشويه الوعي لنحارب الاستبداد بأدواته التي تصب في مصلحته في نهاية المطاف، بدلًا من أن نحاربه بأدواتنا التي تتيح لنا مراكمة التجارب والوعي ومواصلة النضال حتى ننتهي من هذا الكابوس الطويل الذي ما زال يثقل أيامنا وثقافتنا ومعرفتنا ووعينا.