اصلاح ديني

الليبرالية والدين

أولاً- تمهيد

المحور الذي تتحرك عليه الليبرالية في اتجاهين له قطبان الأول: احترام الدين وحمايته، والثاني عدم تأييد دين بصفة رسمية. ويمكن أن تكون رسالة لوك في التسامح حجر أساس صالحاً لكي تبنى عليه نظرية ليبرالية سياسية للدين، فلوك بعدّه الدين علاقة عمودية بين الفرد وخالقه من جهة، وبرفضه وجود أفكار فطرية مركوزة في العقل بدعوى أن وجودها المفترض يلزم عنه اتفاق البشر يخلص إلى أن قسر الفرد على دين معين مهمة مستحيلة منطقياً، وليس أخلاقياً فحسب.

«يتحتم على جميع إدارات الحكم أن تنشغل بالشؤون المدنية، وأن تكون السلطة المدنية والحقوق والسيادة محكومة بهدف واحد هو رعاية هذه الشؤون المدنية وتنميتها، حيث لا تمتد هذه الرعاية بأي شكل من الأشكال إلى خلاص النفوس».

ويستدل لوك على ما سبق بهذه الأدلة:

الأول: أن الحاكم ليس مفوضاً من الله لخلاص نفوس البشر، وأن الله لم يكلف أي إنسان بذلك.

الثاني: لأن الحاكم المدني يحكم بمقتضى سلطة برانية، بينما الدين الحق الذي ينشد خلاص النفوس ينشد اقتناع العقل اقتناعاً جوانياً.

الثالث: العناية بخلاص النفوس ليست من مهام الحاكم بأي حال من الأحوال؛ لأنه حتى إن أقررنا أنه من الممكن إقناع البشر وتغيير آرائهم بسلطة القوانين وقوة العقوبات، فإن كل ذلك لا يسهم أبداً في خلاص نفوسهم…إن الآراء الدينية التي يعتنقها أمراء العالم هي من التنوع والتناقض، حيث تجعلهم منقسمين مثلما هو الحال في شأن مصالحهم العلمانية، وبسبب ذلك فإن الطريق الضيق سيزداد ضيقاً. وهذا يعني أن بلداً واحداً يمتلك الحقيقة، وأن بلدان العالم الأخرى محكوم عليها بالخضوع لأمراء هذا البلد في الأمور التي تؤدي إلى هلاكهم. ومما يزيد الأمر غرابة ولا يتلاءم أبداً مع مفهوم الألوهية أن يدين الناس بسعادتهم أو شقائهم الأبديين إلى مسقط رأسهم، كما أن الكنيسة لا تعدو أن تكون مؤسسة معنية بخلاص النفوس.

«الكنيسة هي عبارة عن جماعة من البشر الذين يجتمعون بمحض إرادتهم بهدف عبادة الله وبأسلوب يتصورون أنه مقبول من الله وكفيل بخلاص نفوسهم» أما الحاكم المدني فهو لا يملك تفويضاً لفرض طريقة ما لخلاص النفوس، وكل ما يستطيعه هو العناية بشؤون الناس المدنية، وعلى الرغم من أن الليبرالية الرولزية لا تدعو إلى تخصيص الدين، وتدرجه ضمن تصنيف أوسع للخير، فإنها لا تنجو من اعتراضات أهمها اعتراضان:

البروز الأخلاقي: والذي يقوم على أن ادعاء الليبرالية الحياد لا يبرئ ساحتها من تهمة التحيز لمفاهيم واعتقادات وتقييمات أخلاقية.

والاختصاص القضائي: وهو يعني أن الليبرالية تمنح الدولة دون مسوغ واضح حق رسم الحدود بين الديني وغير الديني، وبين العام والخاص.

ولعل ما يسمى بــــ «الدين النقدي» الذي يمثله سوسيولوجيون وأنثربولوجيون وفلاسفة، يمكن تكثيف تحدديه للحيادية الليبرالية في قول ستانلي فيش الأثير إن رسم الحدود بين الدولة والدين مهمة مستحيلة، فليس ثمة طريقة منضبطة غير عشوائية لتنظيم العلاقة بين المجالين.

والثغرة الأساسية الموجودة في هذا التحدي تكمن في خلط أصحابه بين الأصل والتبرير؛ بمعنى الخلط بين النقد التاريخي والنقد الفلسفي، فعلى الرغم من صحة ما يقولونه عن التسامح من أنه مجرد إجراء تفاوضي فرضته ظروف تشكل الدولة الطائفية المستندة إلى لاهوت مسيحي إلا أن هذه الحقيقة إذا كانت تصلح لنقد تاريخي، فإنها لا تصلح لنقد فلسفي لليبرالية؛ لأن فلاسفة الليبرالية في تبنيهم قيمة التسامح وقيم الحقوق الفردية وحيادية الدولة لا يركنون إلى التاريخ.

ويعاني هذا النقد نوعاً آخر من الخلط متمثل في الخلط بين الممارسة والنظرية، فلا شك أن ما يرشح عن الدول التي ترفع شعارات الحرية والمساواة من ممارسات تجور على حقوق الأقليات لا يمكنه أن يضعف الإمكانيات النقدية للفلسفة الليبرالية، خصوصاً وأن هؤلاء الناقدين يعودون على نقدهم من غير أن يشعروا بما يفنده من داخله في استخدامهم لتصنيفات معيارية يتخذون منها ذريعة لنقد معيارية الفلسفة الليبرالية.

ثانياً- أنواع الدين النقدي

إن هذا النقد الديني يمكن أن يصنف في ثلاثة أنواع:

1- النقد الدلالي

2- النقد البروتستانتي

3- النقد الواقعي

أما النقد الدلالي، فيستند إلى عدم وجود مرجعية صالحة كونياً لتصنيف الدين، فهو: «مضطرب جداً كتصنيف لتتم معاملته بوصفه كياناً معزولاً، سواء أكان هدف ذلك هو فصل الدين عن القانون والسياسة أم تصميم استجابة سياسية للدين».

ويؤكد أننا: «لا يمكننا أن نتوصل إلى تعريف شمولي للدين، ليس لأن مكوناته وعلاقاته متعينة تاريخياً فقط، بل لأن التعريف ذاته ناتج تاريخي لطرق معينة في الخطاب».

وأما النقد البروتستانتي، فيقوم على أن الحداثة في جوهرها بروتستانتية بمعنيين:

الأول: أن الحداثة كمعلول لعدة علل منها الإصلاح البروتستانتي قد ارتبطت بعلمانية الدولة، وهي شكل من الحوكمة السياسية التي تعزز ثنائيات جدلية غير محسومة بين الديني والسياسي، وبين الإيمان والعقل، وبين الفكر والعمل.

والثاني: أن الصراع بين البروتستانتية والكاثوليكية، والذي يقوم في أحد أركانه على ثنائيات مصنوعة تشحن فيها الأطراف الأولى بشحنة إيجابية والأطراف الثانية بشحنة سلبية، وتحتل فيها الأولى أهمية لا ترقى إليها الثانية، ولما كان الدين مع العقل والفكر في الطرف الأول من الثنائيات، وهو دين استقر مفهومه وفق رؤية لوثر له على أنه مقصور على محض الإيمان، فإن طقوسه لم تعد ذات شأن في تحديده، وبذلك اتفق على أنه شأن فردي وخاص، وهو مفهوم للدين ينسجم مع فكرة الذات المعزولة عن موضوعاتها، والتي لها مطلق الحرية في تبني ما تراه صحيحاً من افتراضات عن الحقيقة، وهو مفهوم يقول طلال أسد بعد استعراضه لمعالجة غيرتز للدين إنه «يؤكد أولوية الإيمان كحالة عقلية بدلاً من تشكيل نشاط في العالم».

«ومهما يكن من أمر، فإنني أرى أننا لن نبتعد كثيراً عن الحقيقة إذا ما قلنا إن ‘المسلمة الأساسية’ الكامنة تحت ما يسميه غيرتز بالمنظور الديني ليست هي هي في كل مكان. والكنيسة المسيحية هي التي شغلت نفسها بالدرجة الأولى بتعريف الإيمان وتنميته وامتحانه بوصفه شرطاً داخلياً للتدين الصحيح يمكن التعبير عنه باللغة».

ومن هذا الارتباط بين البروتستانتية والحداثة تجد «صبا محمود» ثغرة قابلة لتلقي سهام النقد؛ لأن الذات التقية كما تسميها ليست ذاتاً فارغة، وإنما هي ذات مثقلة بخصائص وسجايا؛ ولأجل هذا فإن اختزال الدين في فرضيات تقبل أو ترفض يغفل حقيقة أن الممارسات جزء ماهوي من الدين فالهندوسي مثلاً: «قد يكون مؤمناً أو معتقداً بوحدة الوجود أو ملحداً أو شيوعياً أو يعتقد بما يشاء لكن ما يجعله هندوسياً هو الممارسات الطقوسية التي يؤديها والقواعد التي يلتزم بها؛ أي باختصار ما يفعله».

وتخلص صبا محمود من بحث ميداني أجرته على حركة نسائية في مجتمع ديني في القاهرة إلى أن طقس الصلاة ليس مجرد استخدام رمزي للجسد كوسيط دلالي تنسب إليه معان أيديولوجية مختلفة، ولكنه طقس يساهم في الانضباط السلوكي للفرد بضوابط الشريعة، وفي تحويل الخضوع لأوامر الله إلى ممارسة تلقائية.

فالالتزام بهذا الطقس سلوك فردي من جهة، وانصياع لضوابط مؤسسة اجتماعية من جهة أخرى، ولكنه لا يشبه أي انصياع مفروض بالقوة، ولكنه يمارس بحرية لا يمكن لدعاوى كونية مفهوم الحرية الليبرالي أن يستوعبه، ولا يمكن أن يفهم إلا في دلالته السياقية.

أما النقد الواقعي، فيتخذ ثلاثة أشكال يوضحها طلال أسد:

أولاً- تنتج الليبرالية ما تدعي إنكاره؛ لأن تصنيف القانون لما هو ديني وما هو غير ديني لا يعدو أن يكون ممارسة ثيولوجية.

ثانياً- إن تنظيم الدولة للدين ليس سوى وسيلة لتعزيز مقاصدها، وليس لتجسيد مثالياتها المدعاة من تسامح وحرية ومساواة.

ثالثاً- الليبرالية في جوهرها نوع من أنواع الأصولية؛ لأنها تقوم على تصنيفات هيكلية للميتافيزيقا والثيولوجيا؛ من أجل تعزيز الهوية الوطنية للمواطنة العلمانية.

ولا تعدم هذه الأنواع من النقد ثغرات كفيلة بإضعاف قوتها، فبالنسبة إلى النقد الدلالي فلا يرد على الليبرالية الرولزية وأشباهها؛ لأنها تستخدم مفهوماً تفسيرياً للدين؛ بمعنى أنه ليس مطلوباً من النظرية أن تحيط بالمعنى الدلالي للدين، وإنما المطلوب منها أن تعبر عن قيم من قيم الدين وتضطلع بحمايتها.

أما النقد البروتستانتي، فيقع في سوء فهم لقيمة الاختيار التي تصر عليها الليبرالية، فبينما يفهمها أصحاب النقد البروتستانتي على أنها ما يمنح الدين قيمته الجيدة يفهمها الليبراليون من أمثال رولز على أنها حماية من الإجبار على تحويل الدين؛ فالحاجة إلى الحرية الدينية مشتقة ليس من أن الاختيار جيد، وإنما من كون القمع والاضطهاد سيئان.

ويخلط النقد الواقعي من جهته بين الحيادية كمبدأ تجريدي معياري، وبين الفصل كإطار للعمل السياسي، كما يقع الناقدون الواقعيون في خلط آخر بين الحيادية الليبرالية والشكوكية الليبرالية، فليس صحيحاً أن الليبراليين يعنون بالحيادية تحللاً من القيم فالتزامهم، على الرغم من مطالبتهم بحيادية الدولة بتوزيع الحقوق والفرص وفق مقتضيات مبدأ العدالة ليس التزاماً محايداً من الناحية الأخلاقية، ولا يعيب الليبرالية كونها ليست كونية، وأنها مضطرب تأويلات واختلافات، فما يهمها هو قدرتها على أن تكون تسويغاً للتعايش بين مختلفين في مفاهيمهم للخير.

ثالثاً- استراتيجيات منح الإعفاءات

أما ما تمنحه الليبرالية من إعفاءات، فمعضلة تواجهها الليبرالية في علاقتها بالدين؛ فحياديتها لا تتيح لها للوهلة الأولى منح إعفاءات لجماعات أو أفراد يعتنقون اعتقادات دينية، ولكن ثمة تبريرات لهذا المنح للإعفاءات تنظمها ثلاث استراتيجيات:

1- استراتيجية «دوركين» المسماة «استراتيجية الإذابة»: التي تعني تذويب الدين في تصنيف واسع يتضمن بالإضافة إلى الاعتقادات، الأذواق والالتزامات ومختلف الرؤى الدينية والدنيوية. وبهذا التذويب في تصنيف شامل يصبح التعريف الجامع المانع للدين أو للإطار الكبير الذي يشمله ليس ضرورياً، ويصبح منح الإعفاءات مبرّراً، فحرية الدين في هذه الحال حق عام تستلزمه الاستقلالية الأخلاقية.

ويجانب دوركين الصواب في استراتيجيته للإذابة؛ لأنه يغفل ما يمكن أن تحتج به جماعة معينة على عدم إيلاء تمييز لما تعده واجباً مقدساً. فمشكلة البروز الأخلاقي تطل برأسها هنا؛ بمعنى أن رسم الخط الفاصل بين النشاطات التي تمثل عبئاً على الدين بشكل مشروع، وبين نشاطات من الخطأ جعلها عبئاً. ومثال ذلك صعوبة الفصل في المشكلة التي يسببها حظر وضع غطاء للرأس وحظر إطالة اللحية في جهاز الشرطة وفق تشريع عادي يعد حيادياً وإظهار بعض المسلمين أو السيخ ضيقاً بهذا الحظر؛ لأنه ينتهك واجباً مقدساً في معتقدهم. وصعوبة الإجابة عن سؤال: هل استخدام المخدرات كواجب ديني يستوجب احتراماً من الدولة الليبرالية أكثر من استخدامه لغاية ترفيهية؟

2- استراتيجية «دمج الدين في المجال العام» لــــ «آيزغروبر وساغر»: وهي تدمج الدين في إطار أوسع من المشاريع والالتزامات التي يعنى بها الناس.ولأن الدين كذلك فإن المصلحة الدينية إذا حظيت بحصانة دستورية، فإن ذلك نابع من كونها جزءاً يستحق معاملة متساوية مع التزامات مغايرة. «يجب ألا يعامل الأشخاص بشكل غير متساو بناء على الأسس الروحية لالتزاماتهم العميقة».

وقد وضع الكاتبان ثلاثة معايير من أجل تجنب السؤال الذي يطرح نفسه عما هو جدير بالحماية بين الهويات والاعتقادات:

المعيار الأول: العرضة للتمييز، فإذا تعرضت أقلية للتمييز عدّ هذا خرقاً للحيادية الليبرالية، ومثال ذلك منح المسيحيين إعفاء من قانون منع الكحول وعدم منح نفس الإعفاء للأمريكيين الأصوليين ممن يتناولون مخدر البيوت، وهو تمييز ضد هذه الأقلية.

المعيار الثاني: عمق الالتزامات، وهو يقوي استراتيجية الدمج بمواجهته لسؤال عن أي الالتزامات غير الدينية التي تقع مع الالتزامات الدينية في الإطار الشامل هي بارزة أخلاقياً، حيث يمكن قياسها بالدين ويفسرانها بوصفها بأنها التزامات جادة وروحية وأخلاقية، ومثال ذلك إعفاء ذوي النزعة السلمية من الخدمة العسكرية؛ لأنهم يمتلكون اعتقاداً راسخاً شبيهاً بالاعتقاد الديني في قوته وتمكنه من وجدان صاحبه.

المعيار الثالث: الجمعية القريبة، ويعني اتصاف بنى جمعية معينة بخصائص الخصوصية والتعبير والاستقلالية الترابطية، فإذا كانت العلاقات بين الأعضاء من جهة، وبينهم وبين القادة من جهة أخرى علاقات حميمية حق لهذه البنى بعض الاستثناءات من بعض القوانين.

«النشاط الديني يسقط بشكل متمايز التصرف الخاص ضمن المجال العام ويتضمن علاقات خاصة ملحوظة مقيدة بالعقد ومعوضة بالدولارات. الزعماء الدينيون مستشارون أخلاقيون ومقربون وأصدقاء وأدلاء روحيون، ولا تستطيع الدولة أن تنص بروتوكولاً غير تمييزي يحدد خيار جماعة حول الشخص الذي يتولى المسؤولية الخاصة لأفرادها مثلما لا تستطيع أن تنص بروتوكولاً لاختيار طبيب نفسي أو جار في المنزل يأتمنه الشخص على آماله ومخاوفه جوانب الممارسة الدينية بمأمن على نحو غير مثير للجدل من وصول بعض أوامر الدولة، وهي آمنة جداً لأنها خاصة بطرق عامة سهلة للتمييز وليس لأنها دينية».

ما يستنتج من هذا الاقتباس أن حقوق الجمعيات الدينية لا يشتق من الحرية الدينية، وإنما من سمات الروابط والخصوصية.

ويواجه هذا المعيار اعتراضاً فحواه أنه ربما يصلح في اتخاذه سمة العلاقات الحميمة بين أعضاء الجمعيات القريبة معياراً لإعفاءات معينة لهذه الجمعيات، ولكنه لا يصلح لمنظمات كبيرة وهرمية تذوي فيها حميمية العلاقات.

3- الاستراتيجية الثالثة هي: «تضييق الدين» لــــ تايلور وماكلور

لا يذيب تايلور و ماكلور الدين ضمن تفضيلات واعتقادات ينظمها تصنيف واسع غير محدد عصي على التعريف، وإنما يربطان حرية الدين بالسعي للغايات المركزية غير التافهة، وصاحب الحق في تمييزها عن التوافه هو الفرد نفسه.

فلا تذويب للدين كما يفعل دوركين ولا تعميم للدين كما يفعل ساغر وايزغروبر، حيث يصبح تصنيفاً ضبابياً غير متناسق من التزامات ومشاريع توسم من دون معيار نهائي بالأهمية. وهما يستخدمان معيار التصنيفية، حيث يسمح تضييق الدين بتوسيع الحماية للالتزامات الأخلاقية المتجذرة في تصنيفية الضمير، وهي التزامات يعثران عليها في ثنايا الحياة العادية مثل قناعة النباتي بخطأ استهلاك اللحوم والمواجهة المفاجئة مع الفناء والخلود عند موت شخص عزيز، وما يتشارك فيه المثالان أن النباتي والمفجوع بموت عزيز يتصرفان بنزاهة هي بتعريفهما لها: الانسجام بين تصورات الشخص لواجباته وتصرفاه الفعلية.

وبناء على ما سبق، يخلصان إلى نتيجة أن المواطنين ذوي الاعتقادات العلمانية الضميرية التي تضفي معنى على الحياة يملكون حقاً إلى حد معين بالنظر إليهم بعين الاعتبار للإعفاء من قوانين معينة.

ولكن من السهل اتهام هذه الاستراتيجية بالضيق البالغ؛ لأن ثمة طقوساً لا تمثل التزاماً ضميرياً لدى الفرد، وإنما تأخذ أهميتها من رمزية الانتماء إلى مجتمع الفرد وتعبيرها عن إخلاصه لقيم هذا المجتمع وعلاقاته.

رابعاً- الليبرالية وحيادية الدولة

لحيادية الدولة استراتيجيات ثلاث:

الاستراتيجية الأولى: استراتيجية دوركين الموسومة بــــــــ «الاستقلالية الأخلاقية»، وهي تبرر عدم اعتراف الدولة بدين رسمي بالاستقلالية الأخلاقية؛ فليست الدولة محايدة لأي تفضيل لقيم معينة هيمنت في سياق معين وعبر سيرورة تاريخية معينة وإنما هي حيادية؛ لأن ثمة حقاً لا يتنازل عنه هو حق الفرد ألا تفرض عليه تقييمات أخلاقية لا يقبلها.

«إذا أصررنا على أنه لا يوجد دين محدد يمكن معاملته بشكل خاص في السياسة، فلا يمكن أن نعامل الدين نفسه بوصفه خاصاً في السياسة… إذن علينا ألا نعامل الحرية الدينية بوصفها فريدة، إنها إحدى نتائج الحق الأكثر عمومية فقط للاستقلالية الأخلاقية في القضايا الجوهرية».

حيادية دوركين حيادية مقيدة؛ لأنها مشتقة من قيمة الاستقلالية الأخلاقية للفرد، وقد مثل دوركين على حياديته المقيدة برأيه حول الإجهاض.

«أي حكومة تمنع الإجهاض تلزم نفسها بتفسير جدلي لقداسة الحياة، ومن ثم تحد الحرية بوضع موقف ديني جوهري واحد على حساب المواقف الأخرى».

إن كل ما هو جدلي قائم على مبدأ ديني يقع ضمن المحظورات التي لا يجوز للدولة التدخل فيها. وبناء عليه، فإن الاستقلالية الأخلاقية التي تمثل تسويغ حيادية الدولة لدى دوركين تقتضي امتناع الدولة عن دعم أي رؤية حول الخير الجنسي أو الموت الرحيم أو الإجهاض.

ويشتق من استراتيجية دوركين أن الدين ليس موضعاً لتدخل الدولة عندما يكون معبراً عن أخلاقية شخصية، وهو ما يلزم عنه أن الدين الذي لا يكون كذلك يمكن للدولة أن تتدخل فيه دعماً أو غير دعم.

والحقيقة أن الدين -عموماً- ليس فقط نظاماً من الأخلاقيات الشخصية، فالمتدين الذي يعد الإجهاض جريمة يتبنى الموقف اتباعاً للعدالة كما يراها، فلا تبرير لتفضيل حق المرأة في الإجهاض على حق الجنين في الحياة. وبذلك تبدو استراتيجية دوركين التي تتوخى الحيادية ليست حيادية؛ لأنه يتخذ مسبقا موقفا حول ما يصفه بأنه قضيا دينية.

الاستراتيجية الثانية هي الانتقاص المدني التي وضعها إيزغروبر وساغر

يعتمد هذان المنظران على نظرية تعبيرية للقانون والدولة، وفحوى الاستراتيجية التعبيرية هذه أن على الدولة أن تمتنع عن أي إجراء تعبيري كفيل بخلق تصور ذهني لمراقب موضوعي بأن الحكومة ليست بمنجى من التحيز لدين ما. واشتراط تأويل الإجراء من طرف مراقب موضوعي مخرج للتأويلات الذاتية ومؤكد على موضوعية المعنى المعتمد على السياق.

إن الدين سبب للانقسام الاجتماعي، والمحظور على الدولة هو التأييد الرسمي لعلامات بارزة على الانقسام الاجتماعي.

الاستراتيجية الثالثة: «الاختلاف الجوهري» لــــ كونغ

وتقوم على أن ثمة خلافاً جوهرياً حول الخير، فهو لا يمكن أن ينسج في فرضية تنال الموافقة عليها من الجميع باختيار عقلاني. إن رؤية كونغ رؤية إبستمولوجية لا إمبيريقية؛ بمعنى أنها لا تعتمد على ما يمكن أن يظهر من خلاف حول قيم الخير، وإنما على الخلاف الضروري الذي يجعل قيم الخير غير قابلة للمشاركة معرفياً.

وهو خلاف لا يشبه الخلاف حول قيم العدالة؛ لأن الأفراد في تأويل كونغ لليبرالية الرولزية السياسية يتشاركون مجموعة من القيم السياسية الليبرالية كالحرية والمساواة والإنصاف. ويؤكد كونغ أن الخلاف حول العدالة لا يقوم على الأسس نفسها التي يقوم عليها الخلاف حول الخير؛ لأن ثمة احتمالاً كبيراً أن يكون هذا الخلاف جوهرياً بطريقة تجعله ينحدر على طول الطريق.

ويوضح كونغ فكرته هذه بمثال عن شخصيتين افتراضيتين هما سارة ومايك يختلفان في موقفهما من استخدام المخدرات بغرض الترفيه، فبينما ترى سارة انطلاقاً من مفهوم معين للأخلاقية أن استخدام المخدرات لا يمثل انتهاكاً أخلاقياً؛ لأنه لا يؤثر على الآخرين وهو مفهوم للأخلاقية يجعلها تنطبق فقط على تصنيف ما يدين به المرء للآخرين. يعتقد مايك أن هذا الاستخدام للمخدرات غير أخلاقي؛ لأنه يفرط بمسؤولية كلفنا الله بها تجاه حياتنا، وفي هذه الحالة إذا اعتمدت الدولة على أفكار مايك فسوف تخلع ثوب حياديتها تجاه سارة.

وفي هذا المثال تتضح صعوبة الفصل في المفاهيم حول الخير، وهو ما تفترق به عن المفاهيم حول العدالة التي يمكن أن يتشارك بها الناس في سعيهم للتعاون؛ ولأن الدين يتشارك مع الخير في عمق وصعوبة الخلاف حوله، فإن هذا تبرير لتعميم عدم اعتراف الدولة بدين رسمي. وما ذكرناه آنفاً من تبرير ابستمولوجي يتضح أكثر في اعتراف كونغ بإمكانية اتفاق الناس حول قيم معينة للخير مثل اتفاقهم على أن حياة الإدمان ليست حياة صالحة، إذا ما قورنت بحياة هادئة مع عائلة وأصدقاء. ولكنه يقول إن الليبرالية السياسية لا يجوز أن تحبس نفسها في أفكار فعلية للمواطنين؛ لأن اتفاقاً أيضاً يمكن أن يتحقق بين أناس حول قيم غير عادلة. ومن هنا يأتي إصراره على التبرير المعرفي الذي لا يعتمد على الخلاف الفعلي، وإنما على الخلاف الضروري حول الخير.

المشكلة في منطق كونغ الذي يبحث عن اتفاق على قيم العدالة كقضية للعلاقات الشخصية بين الأشخاص الأحرار والمتساوين هي:

من المخول بتصنيف القضايا المرتبطة بالعلاقات الشخصية؟ وهل يمكن اتخاذ قرار بتصنيف قضية ما على أنها مرتبطة بالعلاقات الشخصية من دون الاستناد إلى الأسئلة الجوهرية التي يرفض كونغ العودة إليها؟

هذه هي المشكلة التي تطلق عليها سيسيل لابورد مشكلة الاختصاص القضائي. وتضرب عليها مثالاً عن طريق الاستعانة بشخصيتي كونغ الافتراضيتين مايك وسارة. فإذا اختلفت سارة مع مايك حول الإجهاض في الثلث الأول، حيث تعتقد سارة أن الأولوية في الحقوق هي للمرأة على الطفل، بينما يعتقد مايك أن الجنين شخص والإجهاض مكافئ لجريمة القتل، فإن خلافاً كهذا لا تستطيع الدولة أن تحسم فيه بصورة حيادية؛ لأنها ستضطر إلى العودة إلى تحديد جوهري لمكانة الجنين. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فثمة مشكلة أخرى تتمثل في موضع رسم الحد الفاصل بين المجالين العام والخاص، أو بتعبير آخر بين الصواب الذي يهتم به المجال العام أو العقل العمومي، وبين الخير الذي يعنى به المجال الخاص أو العقل الخصوصي. فلا ينفع منظري الحيادية الليبرالية القول إن الصواب والخير تصنيفات بدهية للمنطق الأخلاقي؛ لأن هذه التصنيفات قد تحولت واتخذت مواقع مختلفة وباتت محل اختلافات جوهرية عبر الزمن.

خامساً- الليبرالية والعلمانية

هل يجب على الدولة الليبرالية أن تكون علمانية؟

هل يعني عدم اعتراف الدولة بدين رسمي أم إن تأييد الدولة للدين ممنوع مطلقاً؟

يمكن اشتقاقاً مما سبق عن نظرية دوركين الأخلاقية ونظرية ايزغروبر وساغر السوسيولوجية ونظرية كونغ المعرفية، تحديد ثلاثة مكونات للعلمانية التي يمكن أن تحملها معها ليبرالية متجاوزة للثقافات:

1- الدولة القابلة للتبرير: وهي تنتقي سمة من سمات الدين وهي كونه غير متاح، فعندما لا يكون منطق ما قابلاً للوصول إلى العموم، فلا يجوز لمسؤولي الدولة اللواذ به لتبرير إكراه الدولة المشروع.

مثال ذلك موضوع الانتحار بمساعدة الغير الذي يمكن تقديم سببين لمنعه:

الأول: أن الحياة هبة من الله لا يحق لأحد إنهاؤها حتى لو كان صاحبها.

والثاني: أن المريض الذي يطلب الانتحار لا يوثق بتوازن تفكيره وحالته هذه.

إن السبب الأول يمثل تبريراً غير قابل للوصول؛ لاحتوائه عبارة: «الحياة هبة من الله». أما الثاني، فهو قابل للوصول إلى العقل العمومي الذي يمكن تعريفه بأنه العقل الجماعي للعوام الديمقراطيين.

وهؤلاء العوام الموصوفون بالديمقراطيين ليسوا موصوفين بها من باب تقريظي؛ وإنما لأن الأسباب القابلة للوصول إليهم قد لا تكون مقنعة لبعضهم، ولكن المهم ليس تأييدهم، وإنما اقتناعهم بأنها أسباب مفهومة ومنطقية، ويتيح المجال الديمقراطي انتقاد هذا السبب، وهي ممارسة تداولية ديمقراطية تساهم في خلقها الأسباب المنطقية.

إن الإكراه باسم أسباب منطقية غير مفهومة مختلف عن الإكراه باسم أسباب لا تتفق معها، ولكنك تستطيع فهمهما وانتقادها. ولكن قابلية الوصول في الحقيقة تمثل شرطاً لازماً غير كاف؛ لأن مشروعية القوانين الليبرالية لا تستمد من الأسباب المنطقية ذات القابلية للوصول، وإنما تحتاج إلى أن تكون متسقة مع القيم الجوهرية لليبرالية. هذا من جهة ومن جهة ثانية، فليست كل وجهات النظر الدينية غير قابلة للوصول؛ لأن العديد من هذه الأفكار يمكن فصلها عن مصدرها العقدي والأخذ فقط بمحتواها السياسي والأخلاقي. فالأسباب التي لا تعتمد صلاحيتها على تصريحات حول إرادة الله متاحة ضمن التقليد الإسلامي للمنطق التشريعي وعملية النقد العقلاني مركزية في الإسلام غير الأصولي. وقد عبر هابرماس عن هذه الفكرة بقوله: «الرؤى الدينية يمكن ترجمتها من مصطلحات مجتمع ديني محدد إلى لغة قابلة للوصول إليها بشكل أصيل».

هذا فضلاً عن حقيقة لا ينكرها إلا مكابر، وهي أن قدراً كبيراً من اللغة العلمانية هي لغة دينية معلمنة؛ فنظريات الحقوق الأساسية كالملكية والعدالة ذات جذر مسيحي. والكثير من المفاهيم المتبناة في المجتمعات الديمقراطية الليبرالية متأثرة بالدين؛ فمثلاً لمفهوم الحرب العادلة أصول دينية وتبريرات علمانية وكذلك الزواج والكرامة الإنسانية.

لا توصف الأفكار بناء على ما سبق أنها علمانية؛ لأنها انتقلت من سطح إبستمولوجي إلى آخر، وإنما لأنها تقبل الوصول إلى العقل العمومي لمواطنين حقيقيين.

2- الدولة الشاملة: المرتبطة بسمة أخرى من سمات الدين وهي كونه ضعيفاً

إن الاعتراف الرسمي من الدولة بدين قد لا ينتهك الحقوق الأساسية للحرية الدينية، وقد لا يمنع من القدرة على تقديم تبريرات قابلة للوصول إلى غير أتباع هذا الدين من مثل التبريرات المستندة إلى الاستمرارية التاريخية أو التقليد الوطني. وقد لا ينتهك المتطلب الليبرالي بمعاملة كل المواطنين بحيادية معاملة محترمة؛ لأن التواصلات غير الحيادية لا تعبر بالضرورة عن عدم احترام. ولكن عندما تكون هوية اجتماعية علامة على الضعف والهيمنة، فلا يجب أن تقر وتعزز رمزياً من طرف الدولة. وهذا يعني أن الدين هنا لا يقصد به الاعتقاد ولا التجربة الشخصية، وإنما هو هوية مشابهة بنيوية للعرق مثلاً؛ أي إنه هنا يعبر عن هوية خارجية لا عن اعتقاد داخلي. ولذلك، فإن الحيادية تتطلب عدم تعزيز رموز دينية، وبالمثل عدم تعزيز رموز ذات بنى مشابهة للدين في كونها خطوط صدع اجتماعي.

فالثقافة يمكن أن تمثل تعبيراً عن هيمنة وضعف، ومثال ذلك موقف المؤيدين لحظر المآذن في سويسرا، فهؤلاء لا ينفعهم تبريرهم القائم على أن المآذن ليست مركزية في دين المسلمين؛ لأن مجرد منعها يبعث برسالة إلى المسلمين أنهم خارج حدود المجتمع، كما لا ينفع في التبرير ادعاء أن التفوق على المسلمين تفوق ثقافي لا ديني؛ لأن الصلبان المسموحة هنا والمآذن المحظورة ستعيد إلى الذاكرة ارتباط الليبرالية والعلمانية بالمسيحية وستخلق تراتباً هرمياً بين المواطنين من الديانتين.

ويمكن إجمال محددات كون الرموز الدينية علة للضعف والتهميش في أربعة محددات:

– أن هذه الرموز لا تعتمد على التأويل الدلالي للدين، وإنما على تأويل لمعناها الاجتماعي.

– أن هذه الرموز ليست معتمدة على قوة علاقة الشخص بالدين، فصحيح أن نسبة ليست بالقليلة من المسلمين في سويسرا لا تربطهم بدينهم علاقة قوية، ولكن حظر المآذن يوحي بنوع من الانتقاص لهم كمواطنين.

– أنها كأي رموز تؤول اجتماعياً بالاعتماد على السياق، فيمكن للصليب أن يمثل رمزاً دالاً على التهميش في مدارس يؤمها طلاب من ديانات مختلفة، ولكنه لا يعبر عن مثل هذا التهميش إذا وجد في معرض أو ساحة عامة.

– أن علة كونها سبباً للتهميش تعتمد على الرمز ذاته؛ فالرموز المختلفة يمكن أن يكون لها تأويلات مختلفة في مواضع مختلفة.

إن الإقصاء الذي تمثله الرموز يفضي إلى نتيجة لافتة، وهي أن القيمة المعيارية المرتبطة بالعلمانية ليست فصل الدين عن الدولة، وإنما هي شمولية كل الهويات؛ فالدين ليس عامل صدع في كل مكان، وقد عبر عن ذلك الأنثروبولوجي مايكل لمآبيك خلال بحثه الميداني في مدغشقر:

«ضمن الكثير من المتحدثين باللغة الملغاشية في مايوت وفي شمال غرب إفريقيا، كان الدين خلال الربع الأخير من القرن العشرين شاملاً. لاحظ الناس أن الله كان نفسه في كل مكان، ومن ثم فلم يكن مهماً كثيراً أي الطرق استخدمها الشخص للوصول إليه… في بعض العائلات، يكون أحد الأبناء ملتزماً بتقليد مستمد من الأسلاف، وآخر بالمسيحية، وآخر بالإسلام».

والديمقراطية في السنغال مرتبطة بهوية دينية لا تحط من قدر أفراد الأقلية؛ لأنها أوّلت اللائكية الفرنسية التي تشكلت بها بما يجعلها متوافقة مع الانخراط في السلطة الاجتماعية والثقافية للجماعات الصوفية. وقد أثبتت هذه الديمقراطية أن الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطية، وأن العلمانية لا يجوز أن تختزل في النموذج الأمريكي الفرنسي للفصل الصارم بين الدولة والدين.

3- الدولة المحدودة المرتبطة بسمة من سمات الدين، وهو كونه شاملاً

من نافل القول إن القوانين الليبرالية في معظمها حصيلة صراع ضد السلطات الدينية التقليدية، وأن مبدأ ثابتاً من مبادئ التقليد الليبرالي هو مبدأ الضرر الذي صاغه جون ستيوارت مل، والذي يقضي أن الدولة الليبرالية دولة لا تتدخل بالطرق التي يعيش بها الأفراد حياتهم ما لم يضروا بالآخرين. فعندما ترتبط ممارسة ما بأخلاقيات شاملة لا يجب أن تفرض كرهاً على الأفراد.

يمكن الاستنتاج من هذا -بسهولة- أن الدين إذا لم يكن مفهوماً شاملاً للخير، فإن توصياته يمكن أن تفرض من طرف الدولة. ومن أجل ضبط أكبر للمقصود بالتدخل في حياة الفرد وانتهاكها يمكن القول:

تكون حرية الفرد الواقعة في قلب الليبرالية منتهكة، إذا كان:

– القانون مسوغاً عن طريق رؤية شاملة للعالم.

– إذا كان مبرراً بأيّ صورة، ولكنه يحد من حرية الفرد على العيش بنزاهة.

والحريات المرتبطة بالنزاهة هي الحريات الجوهرية لممارسة المواطنين قدراتهم الأخلاقية الجوهرية، وهي حريات ذات بروز أخلاقي؛ لأنها ذات صلة وثيقة بالقدرات الأخلاقية الأساسية للأفراد وبقدرتهم على إجراء تقييمات قوية لسيرورة حياتهم.

إن تقييد حريات لا ترتبط بالنزاهة ومن دون استناد الدولة إلى افتراض أن ثمة طريقة واحدة لعيش حياة خيرة ليس سلوكاً كفيلاً بنفي صفة العلمانية عن الدولة؛ وبيان ذلك أن منع بيع اللحم المذبوح بطريقة الذبح الحلال -بالمفهوم الإسلامي- أو لا يمثل انتهاكاً من طرف الدولة للعلمانية، فإذا أزيل السبب المتمثل في ما يتسبب به الذبح الحلال من آلام للحيوانات، فلن يبقى لدى المعترضين على الذبح الحلال حجة لمواجهة منع بيع اللحم غير المذبوح بطريقة حلال؛ لأن إجبارهم على أكل اللحم المذبوح بهذه الطريقة لا ينتهك حرياتهم المتعلقة بالنزاهة، ولا يجبرهم على ما هو غير مقبول أخلاقياً بالنسبة إليهم.

يمكن استنتاجاً من كل ما سبق عن علاقة الدولة الليبرالية بالعلمانية، أن نخلص إلى أن دولة تعترف بدين واحد يمكن أن تكون ليبرالية شرعية إذا حققت شروطاً ثلاثة:

1- -توفير أسباب ممكن الوصول إليها لتبرير تصرفاتها.

2- احترام حريات الأفراد الشخصية وعدم انتهاكها.

3- ضمان المواطنة المتساوية وعدم الانتقاص من أيّ مكون.

ولا يعني وجود اعتراضات من علمانيين في دولة كهذه نزع صفتها الليبرالية؛ لأن الليبرالية السياسية نظرية ثنائية:

– فهي من حيث كونها عقيدة دستورية تقدم للعقل العمومي محتوى مكوناً من تبريرات للمعايير الليبرالية الأساسية.

– ومن جهة أخرى، وهو المهم هنا، تقدم إطار عمل للتشاورات المنطقية بين المواطنين، وهو إطار يمثل إنصافاً إجرائياً قادراً على تقديم حلول للخلافات المنطقية حول العدالة التي قد تنشب بين المواطنين.

وتوضح سيسيل لابورد هذه الخلاصة بجدول من عمودين:

في أحدهما سمات دولة علمانية، وفي الآخر سمات دولة دينية، وتثبت أن كلا الدولتين ليبراليتان.

دولة «علمانيا»

دولة «قدسية»

الدولة غير دينية بشكل صارم. الرموز والرسائل الدينية رسمياً ممنوعة في المجال العام. الدولة ليست معادية للدين من حيث المبدأ، والمواطنون المتدينون مهما كانوا ليسوا ضحايا بأيّ شكل للإقصاء المدني أو الانتقاص.

تعترف الدولة رمزياً بدين واحد، ولكن بطريقة لا تنتهك المواطنة المتساوية لغير الأتباع.

كل القوانين لها تبرير غير ديني.

بعض القوانين متأثرة بالدين، لكن تبريرها ممكن الوصول، وهي لا تنتهك الحرية الشخصية لغير الأتباع.

هناك قوانين مشروعة حول الإجهاض والموت الرحيم والممارسات الأخرى في أخلاقيات علم الأحياء.

هناك قوانين صارمة حول الإجهاض والموت الرحيم والممارسات الأخرى في أخلاقيات علم الأحياء.

دولة «علمانيا»

دولة «قدسية»

المدارس علمانية. التعليم الديني متروك للأهل.

هناك مدى واسع للتقديم لكل من التعليم العلماني والديني ضمن المدارس.

المعايير المضادة للتمييز تقيد استقلالية الجماعات الدينية.

تتمتع الجماعات الدينية بحقوق واسعة للاستقلالية الجماعية باسم حرية التنظيم.

لا يوجد إعفاءات خاصة أو تكييفات للمواطنين المتدينين، لكنهم لا يعانون من تمييز غير عادل.

هناك كثير من الإعفاءات والتكييفات للسلوك الديني فردياً وجماعياً.

جدول 1: نموذج افتراضي لدولتين ليبراليتين علمانية ودينية

ومن الواضح أن الدولتين تقيمان مؤسساتهما وسياساتهما على مفاهيم مشروعة للخير، وكلتاهما تعتمدان على تفسيرات منطقية للمثل الثلاثة للدولة القابلة للتبرير والدولة المحدودة والدولة الشاملة.

وما يجعل المتدينين في «علمانيا» متسامحين مع قوانين تكافح التمييز في مؤسساتهم الدينية، وما يجعل العلمانيين في «قدسية» متسامحين مع قوانين التأثير الديني لبعض التشريعات ليس قدرة القوانين على تقديم أسباب قابلة للوصول، ولكن وجود صناعة قرار تلبي معيار الإنصاف الديمقراطي؛ بمعنى أن كل المواطنين انخرطوا في تشاور ديمقراطي عادل وشامل.

لمناف الحمد.

مؤسسة مؤمنون بلاحدودـ موقع حزب الحداثة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate