اصلاح ديني

الوجه الآخر للجمال البلاغيّ المقدّس في كلام الله تعالى

كثيرة هي وجوه التّقديس الإلهيّ، التي لو تمعّنا في أساسها الإبستمولوجيّ، وفكّكنا عرى الترابط بين وجوهها، لبانَ لنا وجهٌ جديدٌ، لم يكن ليثبتَ وجوده لولا تخفّيه تحت رداء التّنزيه المحصّن، غيرِ القابل للتفتيشوهذا ما سنحاول أن نناقشه أو على الصحيح أنّ نلمح إليه في قضيّة من أهمّ القضايا المتّصلة بالفكر البلاغيّ العربيّ؛ وذلك في مسألة دعوى الإعجاز البلاغيّ عند المتكلّمين، في القرآن الكريم بين الخصام الجمالي والمادّيّ.

المنطلق العقلي:

لقد قدّم الفكر الاعتزاليّ وجهةَ نظرٍ بلاغيّة(تخليصيّة) بديعةً، بقوله بالصَّرْفَة. على خلاف الأشاعرة والشيعة وبقيّة الفرق الإسلاميّة الكلاميّة الذين ذهبوا إلى عدم المعارضة دليلاً على العجز والإعجاز البلاغيَّينِ.

فالخلاف بين المعتزلة وغيرهم خلافٌ في نوع الإعجاز؛ إذ تذهب معظم الفرق الإسلاميّة إلى أنَّ الإعجاز في القرآن بلاغيّ (إضافة إلى الإعجازين الغيبيّ والإخباريّ)، وذهبَ بعضُ المعتزلة إلى نفْيِ الإعجاز البلاغيّ.

وما غابَ عن الفِرَق الأخرى وعن الفكر النقديّ أنَّ هذا المذهبَ ينسجم مع الرؤية الاعتزاليّة في التّوحيد والتّنزيه؛ فالصّرفة تعني أنَّ الإعجاز يعود لله وليس لكلامه المخلوق، وإنْ نالَه بسببِ قدرتِه وإرادتِه. والأهمّ أن تغليب الصَّرْفِ على البلاغة ينسجم مع تغليب العقل والثقافة على المعهود الجماليّ النقليّ.

المنطلق البلاغيّ:

لقد ذهب معظم الفكر البيانيّ الكلاميّ إلى القول بالإعجاز البلاغيّ النظميّ. وزعموا أنّ العرب عجزوا عن مجاراته بلاغيّاً، وأنّهم نكصوا عن التصدي للتحدي القرآنيّ المقرِّع، لكنّهم تجاهلوا أنّ خصومَ الدعوة المحمديّة هُزموا في جميع الجوانب القرآنيّة العقليّة والثقافيّة والمادّيّة. أمّا الجانب البلاغيّ، فقد تصدوا له وفق العُرف البلاغيّ المتَّبع والمعهود؛ وذلك لأنَّ قريشاً كانت قد قدّمت وجهة نظرها في ردودٍ كثيرة ومتنوّعة (وقد أغفل المتكلمون البيانيّون ذلك لولا أنّ القرآن الكريم نفسَه قد سجّل هذه الردود وبيّنها: وأهمّها أربعة: المجنون، والمسحور، والافتراء، وأساطير الأوّلين).

وهذه ردودٌ يستحيل معها المعارضةُ؛ لأنَّ شرط المعارضة التسليمُ بتقديم المُعارَض أو قبولَه محلّاً للخصام البلاغيّ. ولذلك، فقد سعى ظاهر النصّ القرآنيّ إلى جرّهم إلى المعارضة، وهو يعلم يقيناً أنّهم لن يتجرّؤوا على فعل ذلك؛ إذ لو فعلوا لكان في فعلهم وحده دليل بلاغيّ على فضل الأوّل(من دون النظر في وجوه المعارضة والموازنة)، وهذا عُرفٌ بلاغيٌّ مسلَّم به.

حتّى إنّ الباقلّانيّ- رحمه الله- ذكر وجوهاً من عدم معارضتهم وأجملها في ثلاثة أمور:

١- فمنهم من يستهين به؛ فيجعل ذلك سبباً لترك الإتيان بمثله.

٢-ومنهم من زعم أنه مفترى؛ فلا يأتي بمثله.

٣- ومنهم من يزعم أنّه دارس، وأنه أساطير الأولين.

بل إنّ الباقلّانيّ نفسه رفض أن يسمّيَ السجع القرآنيّ سجعاً، وسمّاه فواصلَ. وأعطى فرقاً واهياً وعباراتٍ عاطفيّةً فارغةً للتّفريق بين السجع والفواصل، لكنْ لماذا رفض تسميته سجعاً؟ لأنَّ هذا سيجعل الإعجاز البلاغيّ الأعلى يعارضُ البديعَ البلاغيّ البشريّ الأدنى، وهو التّصور نفسُه الذي بنى عليه خصومُ القرآن رفضَهم معارضته. وقد ذكر لنا القرآنُ الكريم ردّهم (لو نشاء لقلنا مثله)، فتمحّل الباقلّانيّ وحاول تعليلَ ذلك بما ينسجم ورؤياه. لكنّ النصّ القرآنيّ يكشف في هذه الآية عن لهجة استعلائيّة سُخريّة، لا تخلو من نبرة “تقريعيّة” للرسول الكريم من جهة خصومه: ﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلّا أساطير الأوّلين﴾ (الأنفال/31)؛ لقد نقل لنا القرآنُ رؤيتَهم على نحوٍ دقيق. لكنّ الباقلّانيّ يخجل أن يرى ما لم يخجل منه القرآن. وما خجله على القرآن، وإنّما ذاك دفاع عن هواه البيانيّ.

ويظهر أهمّ إشكالات الرؤية البلاغيّة الإعجازيّة التي لم يتطرّق له أحد فيما أحسبُ، من خلال التّفاوت بين الحمولة النظريّة وتطبيقاتها البلاغيّة وشواهدها القرآنيّة؛ إذ نجد بوناً شاسعاً بين تنظيرهم للإعجاز (حين يقولون بالمفارقة التّامّة مسمّى وشواهد بين النظم القرآني ونظم العرب) وتطبيقاته وأدلّته في آيات القرآن الكريم وسوره التي يتّخذونها شواهد بلاغيّة على رؤيتهم، حيث نجد أنّهم يعودون إلى التّسميات البلاغيّة ذاتها، مع قولهم بالمفارقة التّامّة. وهذا إشكال منهجيّ يضعف من قوّة دعائم نظريّتهم.

ولذلك كانت معارضة القرآن الكريم بعد عصر نزوله وبعد أن طبق الآفاق؛ أي بعد أن صار أنموذجاً بلاغيّاً. في حين أنَّ الأوّلين رفضوا المعارضةَ، لرفضهم أن يكون بمستوى معهودهم البلاغيّ الجماليّ. وكلّ مَن قال بالإعجاز البلاغيّ كان في العصور التي ساد فيها الإسلامُ، وأصبح النصُّ القرآنيُّ النصَّ المقدَّسَ.

الأساس الإبستمولوجيّ للإعلاء البلاغيّ (الوجه الآخر للقمر):

حقيقةُ الأمر أنّ تصويرَ الإعجاز البلاغيّ القرآنيّ (على الرغم من نظمه البديع) على أنّه تحدّ إلهيّ لبلاغة العرب، هو انتقاصٌ من الجلالة الإلهيّة وليس تقديساً؛ لأنّ الفصاحة مفهوم شكليّ لغويّ، لا يرتقي إلى التّصور الصحيح لمفهوم الجلالة الإلهيّ. وعليه؛ يمكن أن يكونَ الإعجازُ إعجازَ سَلْبٍ (كما هي الصَّرْفة) وليس إعجازَ مباراة (كما في الفكر البلاغيّ، وقد استخدم الباقلّاني مفهوم “مباراة“[ص23])؛ وذلك لأنّك حين تريد أنْ تبيّن عجزَ تلميذٍ لديك، فإنّك تتحدّاه أن يفعلَ، دون أن تدخل معه في معارضة ومباراة؛ كأن تتحدّاه إن كان قادراً على الحلّ. وليس على مَن منكما يحلّ أفضل أو أسرع. وهذا هو المفهوم الدقيق للإعجاز، وليس كما فهمه العقل البيانيّ أو أراد تثبيته..

ولكنْ لماذا يصرُّ العقل البيانيّ وفكره البلاغيّ على هذه الرؤية الإعجازيّة البلاغيّة؟

لأنّ هذا الفكر ينطلق من تنزيه اللغةِ العربيةِ ووجوهَها البلاغيّةَ على ما سواها من لغات العالم(الثَّقلين)؛ أي على أيّ لغةٍ بالمفهوم السيمالوجيّ (على أيّ وسيلة تعبير: حتّى الإلهام، والوحي بلغته الإشاريّة أو الرمزيّة). وسبيل أصحاب هذا الفكر إلى ذلك بأنْ يجعلوا معجزةَ الإسلام وأداةَ الله ووسيلتَه الأخيرةَ في رسالته الأخيرة.

لأنّ وجوه الإعجاز الأخرى في القرآن (الغيب والإخبار) لا تحمل هويةً تخصّ العرب، بل لا تحمل هويةً بشريةً محددةً. وهذا حال معجزات الأمم السابقة (السحر والطب)؛ هي معجزاتٌ تحمل صبغةً مادّيّة، فيزيائيّة وكيميائيّة؛ أي ذات عمومية كونيّة تعود لعناصر قِدَم العالم (فهي تنتمي للعقل الفلسفيّ لا البيانيّ) وهذا ما حاولتْ أن تتجاوزه نظريّةُ الإعجاز البلاغيّ؛ أرادتْ أن تجعله إعجازاً عربيّاً خالصاً، يتمثّل في لغة العرب وبيانهم البلاغيّ. فهو في ظاهره إعجاز للنظم القرآني. لكنّه في جوهره إعجاز للغة العرب، اتّخذتْ من الله وسيلةً لتمكين قداستَها وتنزيهَها على لغات العالمين (الأنس والجنّ)، وعلى كافّة وسائل التعبير الكونيّة، بشريّةً كانت أو إلهيّةً. فهي وسيلة الله الفضلى للتعبير. واللهُ سببُ تمكين قداستها لا سببُ قداستها.

إذن: لقد اتّخذ الفكرُ البيانيُّ نظريّةَ الإعجاز البلاغيّ وسيلةً لجعل لغتهم مقدّسةً، لا العكس.

والأهمّ من ذلك أنّ هذا البعد أو الأساس الإبستمولوجيّ الذي يتقعّد الرويّة البلاغيّة العربيّة ويشكّل لها أرضيّتها النظريّة ومنطلقها التطبيقيّ، حتّى جاء الإمام عبد القاهر الجرجانيّ وحوّلها إلى نظريّة بلاغيّة عربيّة محدّدة المعالم، وربطها بعرى الفكر المقدّس، هذا الأساس الذي قام عليه هذا الفكر الجماليّ يثبت أنّ الفكر العربيّ لم يكن فكراً يعادي الفلسفة أو يجهلها، بل هو فكر يقوم على أسس فلسفيّة متينة ومؤثّرة في رؤيته الكونيّة للحياة. لكنّه فكر اتّخذ من بنيته الذهنيّة أسسها الفلسفيّة الخاصّة بتكوينها ونظامها البنيويّين. فهو فكر فلسفيّ بل متقدّم في نهجه الفلسفيّ وإنّ تسمّى أو تمظهر بمظاهر أخرى تبدو للذين لا يستطيعون أن يروا فلسفة خارج أسوار الفكر الفلسفيّ الإغريقي، تبدو لهم على أنّه يجهل الفلسفة وينكرها ويستنكر نهجها. علماً أنّنا من دون تمعّن أو تكلّف نظر نستطيع أن نرى بوضوح أنّ الفكر الفلسفيّ الإغريقيّ- والذي لم يكنّ أوّل التاريخ الفلسفيّ للفكر البشريّ- كان حقلاً عامّاً مختلطاً بالفكر الجماليّ والدينيّ وابنَ قضايا هذين الحقلين ومسائلهما الفكريّة. وهذا يعطينا دليلاً أو يضع بين يدينا علامة سيميائيّة واضحة على أنّ مؤسّسي الفكر البلاغيّ الجماليّ خاصّة والفكر الثقافيّ عامّة عند العرب كانوا أصحاب رؤى فلسفيّة مؤسّسة تأسيساً علميّاً متيناً، وكانت لديهم أدواتهم الفلسفيّة التي تَبِيْنُ عن مقدرةٍ ومهارةٍ في التحكّم الإبستمولوجيّ في صناعة الفكر والثقافة العربيّين؛ ففكرهم البيانيّ(الذي ضلّ في توصيفه الجابريّ وتاه عن ركائزه الفلسفيّة العميقة على الرغم من فضله في هذا المضمار) كان فكراً مؤسّساً تأسيساً فلسفيّاً، حتّى لو لم يكن ينحو منحى أصحاب الفكر البرهانيّ الذي فتنَ صاحب مشروع نقد العقل العربيّ(وهذا ليس مجال نقاشه).

هيثم علي الصديان

مؤسسة مؤمنون بلاحدود ـ موقع حزب الحداثة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate