أخبارعالمية

زيارة بوتين لأذربيجان: مصالح ومخاوف بين طهران وموسكو بممر “زنغزور”

بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، تطورت العلاقات بين روسيا وإيران بشكل ملحوظ، حيث وصل التعاون بينهما إلى حد تقديم طهران تعاون عسكري غير مسبوق لروسيا، لكن نقاط تقاطع كثيرة تثير مخاوف كليهما تجاه الآخر، فخلال الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أذربيجان، أثيرت مخاوف إيران الجيوسياسية في القوقاز، خاصة بعد إعلان موسكو موقفها الداعم لفتح “ممر زنغزور” عبر الأراضي الأرمينية، والذي تسميه طهران “الممر الطوراني” و”ممر الناتو”.

وإلى جانب ما تثيره منطقة جنوب القوقاز من امتعاض إيراني تجاه روسيا التي اقتطعت منها هذه المنطقة، يشكل جنوب القوقاز مجالا حيويا تتقاطع فيه مصالح الدولتين. وعليه، جددت زيارة بوتين مخاوف إيران تجاه هذه المصالح، لاسيما بعد التحولات التي أحدثتها حربي 2020-2023 بين أذربيجان وأرمينيا، والتي غيرت الوضع الإقليمي القائم والمستقر منذ عقود، وقلبت موازين القوى لصالح باكو، مع احتمالية تعديل الخط الحدودي بين إيران وأرمينيا، بما يقطع آمال الأولى بالاتصال تجاريا بالدول الأوروبية عبر الثانية، وفق مراقبين.

بالتزامن مع زيارة بوتين العاصمة الأذربيجانية باكو بين يومي 18-19 آب/أغسطس الفائت، فقد كان الملف الاقتصادي وتعزيز التبادل التجاري على قمة طاولة النقاش بين البلدين، ومنها تأمين طرق التجارة بين موسكو وأذربيجان. وقد عرج علييف على مسألة تخصيص 120 مليون دولار لتعزيز نقل البضائع مع موسكو. فضلا عن إمكانية نقل 15 مليون طن من البضائع سنويا أو أكثر. أضاف علييف، في العام الماضي “تجاوز البلدان 4 مليارات دولار لحجم المبيعات بينهما، ولا يرغب أي منا التوقف عند هذا الحد”.

وجنبا إلى جنب مع الملفات الاقتصادية الحيوية، جاء الملف السياسي والخارجي، حيث عرض بوتين وساطته للسلام بين أذربيجان وأرمينيا، والوصول لترسيم الحدود بينهما، بما فيه تفعيل الطريق الواصل بين أذربيجان وإقليم ناختشيفان المحاذي لتركيا والمتمتع بالاستقلال الذاتي عبر جنوب أرمينيا. وهو ما يوفر اتصالا مستمرا لأنقرة في آسيا الوسطى والصين أيضا. وهو ما يراكم أوراق قوة مع موسكو التي تعد المنافس الإقليمي الأبرز لإيران، مع خصم من أوراق قوة طهران، على خلفية قطع اتصالها بحليفتها يريفان. وتاليا، قطع اتصالها بأوروبا عبرها.

دعم بوتين لممر “زنغزور” في أذربيجان

تتمتع أذربيجان بموقع استراتيجي تتقاطع خلاله عدد من مشاريع النقل الدولي، كمبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وممر “شمال جنوب”، بما فيه النقل الدولي عبر بحر قزوين. لذا، تحرص باكو على تحديث بنيتها التحتية بما يناسب دور مستقبلي محتمل كأحد الجهات الرئيسية لمشاريع النقل والتجارة الدولية. ومؤخرا، أنجزت قرابة 60 بالمئة من خط سككها الحديدية المفترضة كجزء من “الممر الأوسط”، وهو أحد مسارات “الحزام والطريق”، ويساهم بربطها بإقليم ناختشيفان، على اعتبار أن لندن وجهة “الممر الأوسط” النهائية. حيث يخطط للأخيرة أن يربط الصين بأوروبا عبر آسيا الوسطى وبحر قزوين والقوقاز وتركيا.

والممر الأذري وفق الوثيقة الثلاثية لإعلان وقف إطلاق النار بين أذربيجان وأرمينيا برعاية روسيا عام 2020، ليس الوحيد، حيث نصت الوثيقة على إنشاء ممرين تحت حماية روسية، ويوجد “ممر لاتشين” كطريق لاتصال أرمينيا بإقليم ناغورنو كراباخ، و”ممر زنغزور” لاتصال أذربيجان بناختشيفان عبر سيونيك جنوب أرمينيا. ما قد يؤدي لإزالة حدود الأخيرة المشتركة مع إيران، مع إلغاء حاجة باكو للجغرافية الإيرانية في اتصالها بإقليمها المحكوم ذاتيا. 

غدي قنديل، وهي باحثة دكتوراه متخصصة بالشؤون الآسيوية، قالت في تصريح لها لطالما عارضت طهران المخطط التركي-الأذربيجاني لاحتلال محافظة سينويك الأرمينية الجنوبية، حيث سيمكن ضمها للأراضي الأذربيجانية، من فتح “ممر زنغزور”، وبالتالي سيربط دولة أذربيجان مع إقليمها المنفصل عنها جغرافيا، موضحة أن ذلك سيكون بمثابة ممر بري استراتيجي للتجارة والطاقة يربط أوروبا عبر تركيا وصولا إلى ناختشيفان، أذربيجان، بحر قزوين، دول آسيا الوسطى، روسيا، الصين، ما يجعل منطقة القوقاز مرشحة بقوة لدخول مرحلة جديدة من المنافسة الدولية والإقليمية، وقد يكون روسيا وإيران قطبيها.

تضيف قنديل أنه على الرغم من مصالح إيران المتعددة مع روسيا، والتي بلغت مستوى استثنائي خلال السنوات الأخيرة لاسيما على الجانب العسكري، إلا أن زيارة الرئيس بوتين لأذربيجان تعّمق مخاوف إيران الجيوسياسية في القوقاز، ومن عودة روسيا للعب دور حيوي في منطقة جنوب القوقاز، بما يهدد أمنها ومصالحها على الحدود الشمالية.

مؤخرا، ونتيجة انشغالها بحربها المتعثرة في أوكرانيا، إلى جانب ما نالها من اتهامات بالانحياز إلى هذا الطرف أو ذلك من قبل كل من باكو ويريفان في كل مرة يتجدد فيها الصراع بينهما، تراجع نفوذ موسكو في المنطقة. ولعل ذلك أحد أسباب موسكو لعرض وساطته للسلام وترسيم الحدود، بهدف ضمان وتعزيز نفوذها عبر “ممر زنغزور” الذي يفترض وجود عسكري روسي كطرف محايد، لضمان الأمن والسلامة على الممر حال تفعيله.

روسيا تصعد التوترات بالقوقاز

لكن العناق والمظاهر البروتوكولية التي ظهرت في استقبال بوتين تخفيان خلفهما أمور أخرى، حسب “راديو أوروبا الحرة”، نظرا لجهود باكو بإبعاد روسيا عن السياسة الإقليمية التي انخرطت بها بعمق. معتقدة أن عملية حل نزاعها مع يريفان باتت مدخلا لنفوذ القوى الخارجية. لذا تتجه للعمل على معاهدة سلام مع أرمينيا وجها لوجه. ومؤخرا توافقت مع يريفان، خلال مفاوضاتهما للتوصل إلى المعاهدة المأمولة، على إزالة بند “ممر زنغزور” “الذي يتيح الفرصة لموطئ قدم جديد لروسيا”. 

بدورها، ترى يريفان أن إصرار “الكرملين” على فتح خطوط الاتصال المتفق عليها في الوثيقة الثلاثية، يصّعد التوترات في المنطقة، لاسيما “ممر زنغزور”. وتاليا لا يمكن النظر لطلب بوتين بفتح الممر إلا من زاوية ضمان وجود روسي في الممر، وهذا الأمر لا يتماشى، وفقا لـ “AZARNEW“، مع مصالح رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان الموالي للغرب.

مع ذلك، لم تفقد موسكو الأمل ببقاء هذا البند في الاتفاق النهائي بين الجانبين. “إذا استطعنا القيام بشيء حتى نتمكن من توقيع اتفاق سلام مع أذربيجان وأرمينيا، واستكمال ترسيم الحدود، وإلغاء حظر الخدمات اللوجستية والاقتصاد، فسنكون سعداء للغاية”، وفق ما ذكره بوتين لمضيفه الأذربيجاني.

ومن جانبها، لم تتخلص طهران من هواجسها تجاه الممر. حيث استدعت وزارة الخارجية الإيرانية السفير الروسي في طهران ردا على دعم موسكو الأخير للممر. ووفقا لموقع “إيران نوانس“، قال مساعد وزير الخارجية الإيراني إن طهران تعارض أي تغييرات في الحدود الجيوسياسية القائمة في المنطقة. وقبل ذلك، انشغلت العديد من المنافذ الإعلامية والبحثية الإيرانية بالحديث عن الممر خلال تناولها لزيارة بوتين، ما يشير لمخاوف إيرانية جدية حياله، مصحوبة بالقلق من ثقل روسي لتنفيذه، بهدف الحفاظ على نفوذ أطول وأوسع في المنطقة.

التجارة والاقتصاد والطاقة

بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وما تبعها من عقوبات غربية على موسكو أدت لوقف صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، وقعت باكو اتفاقا مع الاتحاد الأوروبي لتصدير المزيد من الغاز إلى الدول الأوروبية المتضررة من وقف صادرات الغاز الروسي إليها. وهو ما يعتقد بوتين بإمكانية مواءمته مع حاجة موسكو إلى تصدير الغاز، من خلال اتفاق مع باكو لنقل الغاز الروسي إلى أذربيجان لاستخدامه في تزويد السوق المحلية الأذربيجانية. ما يفضي بالتالي لزيادة حجم الغاز الأذربيجاني المصّدر إلى أوروبا.

في هذا السياق، ينوه المحلل السياسي الروسي ديمتري بريجع في “مركز الدراسات العربية الأوراسية”، إلى أن زيادة صادرات الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا، التي بلغت نحو 24 مليار متر مكعب عام 2024، تمثل أحد أبرز مصادر القلق الروسي. وأن زيارة بوتين إلى باكو جاءت بعد تراجع إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا بعد الحرب الأوكرانية، مرجحا أن بوتين وعلييف قد ناقش كل منهما إدارة هذه المسألة بما يخدم المصالح الروسية، وربما إقناع باكو بكيفية دعم مشروع مركز تصدير الغاز الطبيعي المزمع إنشاؤه في تركيا بالتعاون مع موسكو.

يحمل اللقاء الثاني للزعيمين خلال أربعة أشهر في طياته إصرار النظام الروسي الإفلات من القبضة الغربية في ظل تصاعد وتيرة الحرب الروسية الأوكرانية. لذا تكتسب الزيارة أهمية محورية على الصعيدين السياسي والاقتصادي، حسب غدي قنديل، باحثة دكتوراه متخصصة بالشؤون الآسيوية.

فسياسيا تأتي زيارة بوتين قبل أيام من زيارة مرتقبة للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى أرمينيا في ظل سعي “حلف الشمال الأطلسي” (الناتو) إلى إبعاد أرمينيا عن المحيط الأوراسي، بما فيه منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وإلحاقها بتحالفات وشراكات مع الغرب، مما يدفع روسيا لتوثيق علاقاتها مع أذربيجان، لإعادة تفعيل دورها في الوساطة بين أرمينيا وأذربيجان للتوصل لاتفاق سلام دائم يقوض الجهود الغربية بالتسلل إلى منطقة القوقاز.

أما على الصعيد الاقتصادي، تأتي الزيارة لتدعيم العلاقات التجارية بين البلدين التي تنمو بشكل متسارع، مع حجم استثمارات روسية متزايدة في أذربيجان، مما يشير لتوسيع الشراكة الاقتصادية بين البلدين خلال الفترة الحالية.

إلى جانب قضايا الطاقة، احتلت مسألة العضوية المحتملة لأذربيجان في مجموعة “بريكس” ومنظمة “شانغهاي” للتعاون مكانة مميزة في مناقشات الجانبين، حيث وجّه بوتين دعوة إلى علييف لحضور قمة بريكس المقبلة في قازان. وبعد يوم واحد من الزيارة، تقدمت أذربيجان بطلب الانضمام إلى مجموعة “بريكس”، والتي لاقت ترحيبا من موسكو. مما يسلط الضوء على استعداد باكو لإعادة تحديد أولويات سياستها الخارجية، دون أن يعني ذلك الاستعداد لقطع علاقاتها مع الغرب. حيث تحرص باكو على الإبحار بعناية في سياسة خارجية تحمي مصالحها الوطنية بعيدا عن الاصطفاف إلى جانب أي من روسيا أو الغرب في صراعهما المفتوح حاليا، نتيجة عبرة استخلصتها من تجربة جارتها جورجيا، التي خسرت إقليمي أبخازيا وأوسيتيا عام 2008، كنتيجة عدم قراءة دقيقة من قبل تبليسي لضوابط التنافس الغربي-الروسي.

ونظرا لضرورة البنى التحتية في تنشيط التجارة وإمدادات الطاقة، حضرت وبقوة في مباحثات الجانبين. فوفقا لبيانهما الصحفي المشترك، “إن تنفيذ مشروع “الشمال والجنوب” (INSTC) له أهمية استثنائية للعلاقات بين الدول، وكذلك للجهود المشتركة في الاستفادة من ممرات وطرق النقل الإقليمية”. أضاف علييف، “إن قطاعي السكك الحديدية والسيارات من (INSTC) قد تم تنفيذهما بالكامل ويعملان بنجاح في أذربيجان. ونقوم حاليا بتحديث قطاع السكك الحديدية لهذا الممر لزيادة قدرته الإنتاجية. مع دراسة إمكانية نقل قرابة 15 مليون طن من البضائع سنويا وإمكانية زيادتها إلى 30 مليون طن”.

بدوره، سلط بوتين الضوء على الخطط المشتركة للبلدين فيما يتعلق بتنفيذ (INSTC)، بما يسمح لهما بالوصول إلى شواطئ المحيط الهندي والاستفادة من التعاون في مجال النقل من أجل المنفعة والمصلحة المتبادلة.

ويربط (INSTC) الموانئ الروسية في بحر البلطيق والقطب الشمالي بموانئ الخليج العربي والمحيط الهندي. ويوفر ربط سككي من ميناء مورمانسك الروسي إلى ميناء بندر عباس الإيراني. ويحتوي على ثلاثة طرق رئيسية، بما في ذلك الطريق العابر لبحر قزوين، عبر موانئ أستراخان وأوليا ومحج قلعة في روسيا، وموانئ بندر أنزلي وأمير أباد ونوشهر في إيران. وثانيها، الطريق الشرقي عبر خط سككي يمر بكازاخستان وتركمانستان وإيران. وثالثها، الطريق الغربي من أستراخان إلى محطة أستارا عبر أذربيجان، وإلى إيران عبر خط “أستارا-رشت-قزوين”، وهو قيد الإنشاء.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate