قراءة في كتاب “المرأة والمشروع الحداثي في فكر الطاهر الحداد”
صدر كتاب “المرأة والمشروع الحداثي في فكر الطاهر الحداد” لصاحبته آمنة الرميلي الوسلاتي، في طبعته الأولى سنة 2012 عن دار صامد للنشر والتوزيع بصفاقس. وصاحبة هذا الكتاب أستاذة جامعيّة مبرّزة بكلية الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة، تركّزت بحوثها الأكاديميّة على مجالات فكريّة وأدبيّة، بالإضافة إلى كتابتها الرواية والقصّة والمقال النقدي.
يشتمل هذا الكتاب على مئتي صفحة، وتتوزّع مباحثه على بابين كبيرين متساويين تقريبًا، إذ يشغل كل منهما نصف الكتاب تقريبًا. تصدّرت هذا البحث مقدّمة للأستاذة رجاء بن سلامة موسومة بـ”الطاهر الحدّاد ونفض الغبار عنه وأنتيقون صانعة قبره”. وقد اعتبرت في هذا التصدير أنّه لا غرابة في الانكباب اليوم على الذاكرة الوطنيّة “وأن تنسج آمنة الرميلي هذا الكتاب الجامع بين شتات أفكار الطاهر الحدّاد وكتاباته عبر فرضيّة تبيّن علاقة فكر الرّجل بانطلاق مسارات التعلمن التي شهدها المجتمع التونسي قبل الاستقلال؛ أي في الثلث الأوّل من القرن العشرين”.
رأت الأستاذة رجاء بن سلامة أنّ للحدّاد منهجًا فريدًا طريفًا في التعامل مع التراث في أخطر تجلّياته، وهي النصّ المقدّس، والشريعة المستمدّة منه؛ فالحدّاد في نظرها لم يعتبر الشّريعة مجموعة من الأحكام الثابتة، بل اعتبرها طريقًا، واعتمد منهج التمييز بين ما أتى به الإسلام وما جاء من أجله. وتحتجّ في هذا السّياق بقول الطّاهر الحدّاد: “بعبارة أدقّ وأوضح أريد أن أقول: يجب أن نعتبر الفرق الكبير البيّن بين ما أتى به الإسلام وجاء من أجله، وهو جوهره ومعناه فيبقى خالدًا بخلوده كعقيدة التوحيد، ومكارم الأخلاق، وإقامة قسطاس العدل والمساواة بين الناس، وما هو في معنى هذه الأصول، وبين ما وجده من الأحوال العارضة للبشريّة والتقنيات الراسخة في الجاهليّة قبله دون أن تكون غرضًا من أغراضه. فما يضع لها من الأحكام إقرارًا لها أو تعديلاً فيها باقٍ ما بقيت هي، فإذا ما ذهبت ذهبت أحكامها معها، وليس في ذهابهما جميعًا ما يضير الإسلام، وذلك كمسائل العبيد والإماء وتعدّد الزوجات ونحوهما، ممّا لا يمكن اعتباره حتى جزءًا من الإسلام”.
وما هو لافت للنظر في نظر رجاء بن سلامة أنّها تتجاوز لحظة الطّاهر الحدّاد لتستفيد منها في لحظتها هي التي تعيش في هذا الزمن، لذلك فهي، وإن قدّرت من الناحية العلميّة والتاريخية الاستدلال على أنّ الطاهر الحدّاد أسهم في علمنة المجتمع التونسي أو في الوعي بها، فهي ترى أنّه في اللحظة الراهنة وفي علاقته بالقرآن على صعيد تفسيره يقدّم لنا حلّاً خارج ثنائيّة علماني إسلامي “فهو يمكّننا من تجاوز هذه الحرب التي قسمت المجتمع التونسي بعد الثورة وقبلها إلى نصفين متنازعين؛ إنّه لا يترك الشريعة ولا يبطلها، بل يحوّل اتجاهها ومعناها”.
وفي مقدّمة هذا الكتاب، تتحدّث آمنة الرميلي عن سيرة الطّاهر الحدّاد الذي ترك وراءه مشروعًا حداثيًا ضخمًا قوامه تحرّر المرأة والرّجل من كلّ صنوف الاضطهاد والدونيّة وإهدار الكرامة. وتقف الباحثة على الجانبين اللذين ميّزا الشخصيّة العلميّة للحدّاد؛ فأمّا الجانب الأوّل فيتمثّل في اهتمامه بالمسألة النقابيّة وبحقوق العمّال، إذ انخرط في حركة محمّد علي الحامي النقابيّة ودافع عنها وأرّخ لها بكتابه “العمّال التونسيّون وظهور الحركة النقابيّة” (1927)، وأمّا الجانب الثاني فيتجلّى في كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”. ويدلّ على إدراكه أنّ “المجتمع الذي تستعبد فيه الأمّ والأخت والزوجة والابنة هو مجتمع غير جدير بالحياة، وأكّدت له تجربته القضائيّة، حيث كان يشتغل في القضاء الشرعي ويباشر عن قرب قضايا الطّلاق والزواج والعنف الأسري ومشاكل تعدّد الزّوجات، أنّ المرأة في تونس تعاني الكثير من صنوف التمييز والتهميش وتغصب على ألوان من القهر داخل النظام الأسري القائم…”
وتتساءل الباحثة عن الخطورة الكامنة في مشروع الطّاهر الحدّاد، حتى يجابه بمثل ما جوبه به، ومن أمثلة هذه المجابهة كتاب ألّفه الشيخ الزيتوني إبراهيم بن مراد وسمه بـ”الحداد على امرأة الحدّاد”. وتجيب عن ذلك بأنّ الحدّاد حاول زحزحة ثوابت الرؤية الدينيّة المحافظة، وهو ما لم يقبله رموز المؤسسة الدينية سابقًا ولاحقًا.
والواضح أنّ القوى المعارضة لمشروع الحدّاد لم تنقرض من البلاد التونسيّة، وهذا ما جعل الباحثة تذكر ما حدث في شهر ماي من سنة 2012 حين وقع الاعتداء على قبر الطاهر الحدّاد بوضع طلاء أسود طمس كلّ ما كان مكتوبًا على القبر من معلومات وتواريخ وجمل تأبينيّة.
إنّ الإشكاليّة الأساسيّة لهذا الكتاب تدور على دراسة الردود على كتاب الطاهر الحدّاد “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”، وهي ردود متنوّعة تتضمّن كتبًا مفردة ومقالات صحفية وقصائد شعرية وبلاغات ومحاضرات ومذكّرات ورسائل.
وفي الباب الأوّل من هذا الكتاب “ملامح المشروع الحداثي في تونس إلى حدود الثلث الأوّل من القرن العشرين”، بيّنت الباحثة أنّها ستحاول مقاربة مجموعة من الإشكاليات من خلال ثلاثة مستويات يتمثّل أوّلها في تبيان أنّ فكر الطاهر الحدّاد ليس ظاهرة خاصّة، وإنّما هو امتداد مكثّف أو مركّز لخطّ فكريّ واجتماعي بدأ يشقّ المجتمع التونسي في بداية تحديثه ويبحث لنفسه عن موقع مغاير لما هو سائد وفعّال في الوقت نفسه. أمّا المستوى الثاني، فيقوم على “رصد خصوصيّات تلك المرحلة التي تميّزت بصراع حادّ بين القديم والجديد”. وفي المستوى الثالث، ستحاول الباحثة بيان خصوصيات فكر الحدّاد التي تميّزه عن نظرائه.
ولمّا كانت أطروحات الحدّاد متنزّلة في سياق تاريخي مخصوص خصّصت صاحبة الكتاب الفصل الأوّل لمجالات التحديث إلى حدود ثلاثينيات القرن العشرين؛ ففي ذلك الزمن بدأ المجتمع العربي الإسلامي يعيش بوادر حداثته تحت تأثير الحداثة الغربيّة وبتوجيه منها في أغلب الأحيان.
وتوقفت الباحثة في هذا السياق عند أهمّ التواريخ التي أسهمت، في نظرها، في إرساء قيم حديثة، أو في تحرير بعض المؤسسات والمفاهيم من السلطة المهيمن عليها دينيًا، على غرار تأسيس المدرسة الصادقيّة بأمر من خير الدين سنة 1875م، وتأسيس الخلدونية سنة 1896م، وإصلاح التعليم الزيتوني سنة 1912م، وزيارة محمد عبده الثانية لتونس سنة 1903م. وقد تطرّقت الباحثة في هذا الفصل الأوّل إلى المجال السياسي، باعتباره أحد مجالات التحديث لافتة الانتباه إلى أنّه قبل ظهور كتاب علي عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم” برزت لدى بعض المثقّفين في تونس مقالات تتطرّق إلى نزع القداسة عن السلطة، وتدعو إلى تعويض السلطة التي تستمدّ قوّتها من تقديس الناس لها، سلطة القانون، ومن الأمثلة على ذلك مقال الطاهر الحدّاد “الحاكم المعبود” الصادر بتاريخ 26 أوت 1923م في جريدة الأمّة في عددها الرابع والأربعين.
وفي المجال الاجتماعي، ذكّرت الباحثة بأحداث رئيسة في الحركة النسائيّة التي طالبت بتحديث وضع المرأة، من ذلك أنّه خلال سنة 1924 انعقدت ندوة في “المنبر الحر بالشرقي عقدها الحزب الاشتراكي، واعتلت يومئذ المنصّة موظّفة مسلمة سافرة تدعى منوبية الورتاني خطبت في الجمهور مطالبة بحقوق المرأة المسلمة ملحّة على ضرورة رفع الحجاب عنها وترقية مستواها الفكري والأخلاقي والاجتماعي بالتربية والتعليم. وفي يناير 1929م اعتلت حبيبة المنشاري سافرة منبر جمعية الرقي (L’essor) وألقت مسامرة في جمع غفير من الرجال والنساء.
يبرز هذان الحدثان والمقالات المناصرة لهما خلال الفترة الممتدّة بين سنتي 1924م و1928م، في رأي الباحثة، مدى تهيء المجتمع التونسي لأن تقع مراجعة بعض الأحكام الخاصّة بحجاب المرأة، ومدى استعداد المجتمع التونسي، لأن تحرّر العلاقة داخله بين الرجل والمرأة، وأن تقنّن خارج الأحكام الفقهية، وذلك بتأكيد أنّ المساواة هي مطلب العصر”.
ويبدو أنّ هذا الاستنتاج يحتاج إلى التنسيب وإلى مزيد الدرس، لأنّه يقوم على أمثلة قليلة جدًّا لا تسمح باستخلاص نتائج عامّة تهمّ كلّ المجتمع التونسي في تلك الفترة.
وقد ركّزت صاحبة الكتاب في الفصل الثاني على الخصومات الفكرية في الثلث الأوّل من القرن العشرين التي تعكس حدّة الصّراع بين القديم والجديد، وارتأت في هذا الصّدد التوقّف عند الخصومة الأدبية التي أثارها ظهور كتاب “الخيال الشعري عند العرب” لأبي القاسم الشابي.
وفي الفصل الثالث، سعت الباحثة من الباب الأوّل فيه إلى النظر في مشروع الطاهر الحداد الحداثي العلماني في الفكر والمجتمع، فحاولت تعريف العلمانية في مستهلّ الفصل وبيّنت أنّ الخروج بالمفهوم من حدوده الاصطلاحية إلى آفاقه الثقافية الاجتماعية يؤدّي إلى اعتبار العلمانية حركة تنفصل بموجبها قطاعات من المجتمع ومن الثقافة عن سلطة المؤسسات والرموز الدينية، مثل فصل الدين عن الدولة في النظم اللائكية أو تحرير التعليم من المواد الدينية.
وترى الباحثة أنّ العلمنة ليست ظاهرة خاصّة بالحضارة الغربية، وأنّها حسب محمد أركون “لا يمكن أن تكون غائبة تمامًا عن التجربة التاريخية لأيّة جماعة بشرية حتى ولو تجلّت أحيانا في صورة ضعيفة وغير مؤكّدة”. انطلقت الباحثة من هذا الرّأي لتبحث في علمانية فكر الحداد اعتمادًا على مستويين هما مرجعيّات فكرة العلمانية وتجلّيات العلمانية في كتاباته. وفي هذا السياق، تطرّقت الرميلي إلى تحرّر الحدّاد من الإلزاميّة الدينية وشموليتها، ومن ذلك خلوّ كتابه “العمّال التونسيون وظهور الحركة النقابية” من البسملة، وهو ما أثار حفيظة القوى الدينية في تونس فصرّحوا بتشكيكهم في عقيدته الدينية فأجابهم قائلاً: “إنّي لست ممّن يعتقدون بوجوب ردّ كل الشؤون الدنيوية إلى الدّين، وطبيعة الأشياء لا تأبى عليّ هذا الرّأي”.
وتفسّر الباحثة هذا الموقف عند الحدّاد وعند من يشاطرونه هذا الرّأي “بأنّ الحداثة فرضت حركة تحرّر قطاعات مختلفة من الهيمنة الدينية كالتعليم والأدب والسياسة من ناحية، وخلقت قطاعات أخرى لا علاقة لها بالدين، بل قامت هذه القطاعات على مبدإ القطيعة مع الدّين، مثل العمل النقابي”. ويبدو أنّ الطاهر الحدّاد كان منتبهًا إلى هذه النوعية من القطاعات، لذلك قال: “يوجد في الأشياء الدنيوية التي نحتاجها ما ليس يرجع إلى الإسلام أو المسيحية أو غيرها، بل هو أممي عام يجمع كافة العناصر وعامة الأديان”.
ولمّا كان الحدّاد من الدّاعين إلى نزع القداسة عن الماضي وإلى التعامل العقلاني المتحرّر معه، دعا كذلك إلى الطّريقة نفسها في التعامل مع رموز الدّين، إن في مستوى التعليم الزيتوني أو في مستوى الإنتاج الذي تروّجه المؤسسة الدينية.
وبناءً على هذا، بيّن الحدّاد العقم المعرفي في برامج الجامع الأعظم وعمليّات الإقصاء التي تمارس على الشيوخ من ذوي النزعة التصحيحية المعقلنة. وسعى الحدّاد إلى نزع القداسة عن علماء المؤسسات الدينية أيضًا، ورفض الوصاية الفكرية التي يمارسونها على مؤسسات المجتمع.
لحمادي ذويب.
مؤسسة مؤمنون بلاحدود-موقع حزب الحداثة