الخطاب التربوي القائم على الإلغاء.. هل يولد العنف؟(٢).
انتقاص الاعتراف بالمؤنث أو المذكر يخفِّض الفعاليّة العامّة للحياة الإنسانية، ويُعيد إنتاج التأخّر والتخلف الاجتماعيين بشكلٍ مستمر.
جملة بهذا العيار، وغيرها الكثير من الجمل، تؤكّد على الوعي الجمعي ورواسبه، وترسّخ وتكرّس الفكر الذكوري، وتحذف نصف المجتمع، وذلك مردّه فقط لانعدام الدقة والانتباه. لاشك أنّ المجتمعات تطفو فوق اللغة؛ فاللغة من تمنح الإنسان بُعده التواصلي، ولكن هذا التواصل نفسه مرهون بالكيفية التي تتشكل من خلاله اللغة، لتشكّل فضاء العلاقة، فنحن لا يمكن أن نقول أفكاراً جديدة بلغة قديمة، ما أرمي إليه: أنّ اللغة تتشكّل داخل فضاء حسّي عام، فهي لا يمكن أن تنتقل من ضفّة إلى أخرى، إلّا إذا أسّست لحساسيّة متجاوزة، تنطوي على قطع إبستيمولوجي.
خطورة تكريس الصور النمطية
تلعب الكيفيّة التّي يتلقّى الطفلُ بها العالم، دوراً حاسماً في بناء فاعليّته، لذا يتوجّب النّظر إلى هذه الكيفيّة بإمعان وتمعّن؛ لأنّها ستكون مسؤولة عن مستقبل وعيه الاجتماعي والإنساني، وتتشكّل هذه الكيفيّة من الدّلالات التّي يتلقاها الطفل، والمتَضمَّنة في الخطاب أيّاً كان شكله. فقد نبّه علماء الاجتماع إلى خطورة الدور الذي يلعبه خطاب الصورة في مرحلة التعليم الأساسي، وما لذلك من تأثير على تكوّن التوجّهات الفكريّة للنّشء، والتي قد يصعب تغييرها في المستقبل، إذ إنّ الصّور النمطيّة تكرّس وعياً نمطيّاً، لا يمكن النّظر فيه إلى المرأة والرجل، إلّا ضمن الرواسب الثقافية المؤسَّسة في اللاوعي الاجتماعي، فتأخذ الصور حينها مدلولات نهائيّة، تُشَكّل حدود رؤية الفرد للآخر وللعالم.
الخطاب القائم على التفريق بين الجنسين يشكل بيئة خصبة لخطاب الإلغاء الذي لا يُنتِج سوى العنف.
في كتاب العربية لغتي للصف الثاني الأساسي الصادر عن وزارة التربية السورية لعام 2016/2017، ذُكر في المقدّمة “هذا كتاب العربية لغتي نقدّمه لتلاميذنا، معتمدين في تأليفه آخر ما توصّلت له النظريات الحديثة في تعلّم اللغات، مع الحفاظ على خصوصيتنا في تعليم اللغة العربية وتمكينها، والتّي تجاوزت كل التعقيدات المناقضة لمبادئ التربية الحديثة”. وبالنّظر إلى المحتوى من حيث المعايير المعرفية والمهاريّة، نلمس نقلة نوعيّة مقارنةً بالمناهج السابقة، ولكن عند تحليل خطاب اللغة والصورة، نصطدم بالتناقض الصارخ بين ما جاء في المقدمة باعتمادهم على مبادئ التربية الحديثة، والتي يجب أن يكون من ضمنها مساواة كلا الجنسين اجتماعياً، وبين ما نجده في خطاب اللغة والصورة من تغييب كامل لدور المرأة، ليخيّم على كامل الكتاب الواقع الذكوري؛ حيث إن وُجِدَت المرأة فهي خلفيّة لا أكثر من ذلك.
من المفترض على مفهوم الإنسان ألاّ يحمل تمايزاّ جنسياً؛ إذ إنّه ينطوي على المؤنث والمذكّر بالتساوي، ففي انتقاص الاعتراف بأي طرف منهما سواءً أكان متعمّداً أم غير متعمّد، سيخفِّض الفعاليّة العامّة للحياة الإنسانية، وهذا من شأنه أن يُعيد إنتاج التأخّر والتخلف الاجتماعيين بشكلٍ مستمر، وذلك ليس فقط من خلال حرمان المجتمع من إمكانات هائلة تتوفّر عليها الأنوثة؛ بل أيضاً من خلال عدم التجانس والتنافر الذي يسود المجتمع، ممّا يجعله بيئة خصبة لخطاب الإلغاء، الذي لا يُنتِج سوى العنف.
لأ دونيس غزالة.
حفريات- موقع حزب الحداثة.