الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري: حداثة ما بعد الإنسانية أكثر خطورة من أسلمة أوروبا(٣).
جذور الشعبوية
* العرب: الشعبوية، هذه الكلمة التي تعاني من غموض مزمن، كيف تعرّفها؟
ميشال أونفري: إنها كلمة تندرج تحت مفردات الصراع الذي يقوده أولئك الذين أسميهم مبيدات الشعب، وهي كلمة ابتكرها غراتشوسبابوف، وتعني هؤلاء الذين يخدرون الشعب، يهينونه، ينسونه، ويحتقرونه. كيف نفهم أنه في عام 2005 دعا رئيس الدولة الناس عن طريق الاستفتاء إلى الموافقة على المعاهدة الأوروبية ورفضها الشعب في أغلبيته بشدة ومع ذلك ألغت الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ نتائج الاستفتاء؟ إن مبيدات الشعب هذه هي التي تقول عن أولئك الذين يطالبون بالاهتمام بالشعب إنهم شعبويون.
* العرب: ما الذي يجعل الشعبوية ممكنة؟
ميشال أونفري: هو ازدراء الشعب. الأمر بسيط للغاية. وضع الجنرال ديغول دستورا جاء فيه أن رئيس الدولة المنتخب يطالبه الشعب بالنتائج باستمرار طوال فترة ولايته وعلى الرئيس أن يأخذ رأي الشعب بعين الاعتبار: خسارة الانتخابات التشريعية كانت تعني تغيير رئيس الحكومة والسياسة أو الاستقالة.
اخترع ميتران وشيراك طريقة التعايش بين الرئيس والحكومة وهو إحدى الأدوات المبيدة للشعب. كانت وكان هناك أيضا استفتاءات انتهزها ديغول فرصة لتأكيد رئيس الدولة في منصبه. ولما خسر ديغول استفتاء عام 1969، لم يترك السلطة فحسب، بل ترك السياسة أيضا. ولكن لما خسر شيراك استفتاءه عام 2005 لم يستقل وبقي في الحكم وأهدى له ساركوزي عام 2007 معاهدة لشبونة التي تلغي نتيجة الاستفتاء. بعد ذلك من يستطع احترام ميتران وشيراك وساركوزي ومن دعمهم مثل هولاند وماكرون وبيكريس؟ لا أحد.
* العرب: لقد بررت إنشاء “الجبهة الشعبية” بوجود “جبهة مبيدة”. هل هذا يعني أنك تدعو إلى “شعبوية يسارية”؟
ميشال أونفري: نعم فعلا. من ناحيتي، أنا لست خائفا من هذه الكلمة التي أعتبرها حملها كتقدير لي. فيليب سوليرس، الذي كان شيوعيا وماويا ومن أنصار إدوار بالادور رئيس الوزراء السابق، قال عني منتقدا بأنني “ممثل العوام”. لقد اعتقد أنه يهينني بذلك، ولا يعلم أن ذلك يمثل بالنسبة إلي وسام شرف، خاصة وأنه يأتي من أحد تلك المبيدات ادعاء رائع بالشهرة بالنسبة إلي، خاصة أنه يأتي من أحد مبيدات حي سانت جيرمان دي بري.
* العرب: لطالما ارتبطت الشعبوية باليمين المتطرف. ومع ذلك، نشهد اليوم ظهور شعبوية يسارية وحتى يسارية متطرفة. ما هي أسباب هذا التحوّل؟
ميشال أونفري: نشر الفتى اللامع الذي هو أيضا صديق لـ”الجبهة الشعبية” رافائيل دوان كتابا بعنوان “عندما اخترعت روما الشعبوية” لإظهار أن الشعبوية كانت موجودة بالفعل في روما. لذلك فهي بعيدة كل البعد عن أن تكون قضية اليمين المتطرف، ولكن غالبا ما تقرن باليمين المتطرف، لأغراض جدالية وتشويهية.
أولئك الذين كانوا يدعون شعبويين في روما في الحقيقة كانوا ملتصقين بالشعب ويؤمنون بشخصية الرجل القوي، بالخطيب القادر على كسب الجماهير بكلماته. كانت الشعبوية آنذاك صوت الضعفاء والبسطاء ضد طغيان الأقوياء. كان الوضع هكذا دائما. مما سبق نفهم أن المهيمنين الأقوياء أرادو دائما تشويه الكلمة وما تدل عليه معا.
* العرب: في ظل صعود الشعبوية في عدة دول أوروبية، هل تعتقد أن ظهور ترامب فرنسي أو أوروبي ممكن؟
ميشال أونفري: كل شيء ممكن في زمن الانحطاط وقد يحدث في سرعة البرق لما تتوقف البوصلة عن الاشتغال. التاريخ مصاب بالحمى ورجل العناية الإلهية غواية سهلة، يعتقد البعض أنه سيحل كل المشاكل في لمح البصر. هذه فكرة آتية من اليهودية – المسيحية: إنها تتبع نمط مجيء المسيح الذي سيحقق المجيء الثاني. أنا كملحد، بما في ذلك في المجال الاجتماعي، لا أؤمن بهذا النوع من الحلول. وغالبا ما يأتي الدم والدموع مكان ذلك الخلاص الموعود. بالتأكيد كانت هناك استثناءات تسمح بعدم اليأس النهائي. أفكر في الجنرال ديغول. لكن الفرنسيين انتهى بهم الأمر إلى طرده: العظمة لا يمكن أن تكون من اهتمامات تطلعات نفوس صغيرة.
* العرب: كيف تحلل ظاهرة إريك زمور؟
ميشال أونفري: إنه يعبّر عن عودة المكبوت في تاريخنا على مدى نصف قرن. عاد بقوة إلى السطح كل ما تم حظره وما كان من التابوهات منذ ما بعد مايو 68. لقد تحمل الفرنسيون كثيرا ولم يعودوا يطيقون ما يحصل. لقد فقدوا الثقة في رجال السياسة ويعرفون أن الدعاية هي التي باتت تصنع القانون وأن تجريم كل فكر حر يؤدي حتما إلى الموت الاجتماعي لكل مفكر حر. لقد ملوا من نتائج سياسة معاهدة ماستريخت الوخيمة التي تبدي مرة أنها يسارية ومرة أخرى يمينية بينما هي ليبرالية ويمينية، وأن الذين يديرونها يتبادلون على السلطة منذ 1983.
أما إريك زمور فهو يرى الواقع كما هو ويعبر عنه مستنكرا التجاوزات والغباء والأخطاء. كما يجادل، ويفكر ويحلل، ويضع استنتاجاته في منطق حضاري، بمعنى يفكر من منظور طويل الأمد. ومن ثمة فهو عودة للمكبوت تجسد طريقة أخرى للممارسة السياسية بعيدا عن العادات السياسوية المترسخة بما فيها طريقة مارين لوبان نفسها. يبقى أن جانبا آخر من الرجل لم يتضح إلى هذه الساعة هو ذلك المتعلق باقتراحات المرشح زمور وهذا ما يقرر الرغبة في الانضمام إليه أم لا من طرف الكثيرين لأن هذا يكون باقتراح الحلول لا بالمعاينات فقط.
لحميد زناز.
العرب- موقع حزب الحداثة.