حداثة و ديمقراطية

عودة الالتزام في الأدب باسم الديمقراطية.

تشهد الساحة الأدبية في فرنسا منذ أعوام عودة الالتزام، حيث صار الأدب وسيلة للمطالبة بالمساواة والعدالة والتنديد بالعنف الاجتماعي والعرقي والجنسي، وساهم بعض الكتاب في نشر الإشكاليات التي تشغل الرأي العامّ، فتحولت الثقافة إلى مادة لصراع أيديولوجي جديد على غرار “ثقافة الإلغاء” (culture Cancel) و”ثقافة اليقظة” (Woke culture) في الولايات المتحدة، والمقصود باليقظة هنا هو الوعي بالمشاكل المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والمساواة العرقية، وينطبق على كل فرد واعٍ بالمظالم والاضطهاد المسلَّط على الأقليات، ساعٍ بكل جهده إلى فضحها والتنديد بها. وقد أضفى هؤلاء الكتاب على الأثر الفني قيمة إيتيقية وبُعدا سياسيّا، في وقت تراجعت فيه صورة المثقف بالمعنى الكلاسيكي، وبدأ الحاجز الذي يفصل التزامات الكاتب الخاصة ينهار تحت وقع حركة مزدوجة تتسم بتسييس الخطاب من جهة وتحميل الأدب والفن مسؤولية من جهة أخرى.

هذا السعي إلى إعادة تسييس الخطاب الأدبي والفني منح العمل الفني قوة فاعلة، ولكنه عرّضه في الوقت نفسه للنقد، إذ صار الكاتب مسؤولا مباشرا عن عمله وما يحويه، يحاسب على مضمونه حتى بمفعول رجعيّ كما حصل لمارغريت ميتشيل في أميركا، ولغابرييل ماتزنيف في فرنسا، وبات الخوف من نشر مضامين مؤذية واحتمال إساءة الأعمال الفنية إلى بعض الحساسيات علامة على عودة الالتزام في الجدل الاجتماعي، حتى أن بعض دور النشر في أميركا أصبحت تعتمد على قراء يتعقّبون كل إهانة تجاه الأقليات، ولو غير متعمّدة، حيث تتولّى هذه المجموعات التي تُعرَف بالقرّاء الحسّاسين (sensitivity readers) تصيّد الكليشيهات الثقافية قبل النشر، وجارتْها الجامعات في تنبيه الطلبة إلى مضامين بعض المؤلفات الكلاسيكية التي قد تكون صادمة. ولئن حيّا عدد من النقاد هذا المسعى بدعوى أنه سيرفع الغبن عمن تمّت الإساءة إليهم، ويمنع تواصل ازدرائهم وتحقيرهم، فإن آخرين رأوا فيه شكلا جديدا من أشكال الرقابة، سيضيّق الخناق حتما على الكتاب، لأنه سيكون أشبه بـ”فارماكون” أدبيّ، يحمل من السّمّ قدر ما يحمل من ترياق.

وأيّا ما يكن الموقف، من الأعمال التخييلية أو غير التخييلية، ومن شبكات التحليل الموروثة عن الماركسية، فلا مناص من الإقرار بظهور مقاربات سياقية تفضل كتابة الواقع بكل تجلياته على الأصناف التجريدية للمعارك النظرية القديمة، فسياسات الأدب المعاصرة تحركها تساؤلات ملموسة عن الهويات الثقافية، التي تجسّمها أجساد تعترف بجروحها، وأعمال وُضعت كأجهزة تفتّح وانعتاق لكتّاب آثروا الالتحامَ بقضايا الفئات التي تُغتَصب حقوقها وأجسادها، والاستنادَ إلى علمي الاجتماع والأنثروبولوجيا أكثر من استنادهم إلى القوالب النظرية، والقَطعَ مع أيديولوجيا الاستقلالية الجمالية والالتزامِ الحزبي معًا. فقد اختار الجيل الجديد ألا يقتفي سيرة السابقين، فحاد عن صورة الكاتب الملتزم بمفهومه القديم أو الكاتب المنغلق على نفسه داخل برجه العاجيّ، ولم ينظر إلى الأدب كقوة تقدّم أو دراما لغوية، بل تبنّى رؤية براغماتية لأنماط انخراط الكاتب وقدرة خطابه على تغيير الواقع، رافضا الأنسنة المجردة و”عهد الشّكّ” الذي دعا إليه منظّرو الرواية الجديدة.

فمن مشاغل هذا الجيل لدى اليساريين المطالبة بالعدالة البيئية والاجتماعية والنضال ضد التعتيم التاريخي والجغرافي ورأب الصدع الذي أحدثته مرحلة ما بعد الكولونيالية والتحسيس بعنف الرأسمالية وتسليع العالم والاهتمام بقضايا الأقليات والدفاع عن المهاجرين، فيما تنحصر مشاغل اليمينيين في التعبير عن مخاوفهم مما يهدد الهوية القومية، كما يفعل ميشيل هويلبيك وإريك زيمّور وألان فلكنكراوت وروني كامو، ومساءلة الديمقراطية المعاصرة دون الطعن في مبادئها. وفي كلتا الحالتين، يعبر الكتاب عن الدور الديمقراطي للثقافة.

ولكن، ما هي الأسباب التي يقدّمونها عن الجدوى الديمقراطية للأدب حسب التصور الاجتماعي والسياسي الذي يسود منذ مطلع هذا القرن؟

إن اللجوء إلى الأدب في الجدل العام قديم قدم الأدب نفسه، إذ رافق تَصوّره الحديث مولدَ الديمقراطية الليبرالية، حيث كان ظهور فكرة الاستقلالية السياسية للمواطنين موازيا لاستقلالية الحكم الجمالي. فمن قضية دريفوس إلى حرب الجزائر، كان للرواية دور الكشف والهتك من أجل تحليل الحقل الاجتماعي وإسقاط الهيمنة الرمزية، سواء في الرواية الواقعية أم في وجهات النظر الفردية، وهذا البعد لا يزال حاضرا في عدّة أعمال معاصرة، مثل أعمال إدوار لويس الذي لا يتوانى في استعمال أنماط تحليل مبسطة، كما هو الشّأن في روايته السيرذاتية “مَن قتل أبي؟” حيث يحمّل السياسيين تدهور صحة أبيه “جاك شيراك وكزافيي برتران فتّتا أمعاءه… نيكولا ساركوزي وشريكه مارتن هيرش سحقا ظهره… بينما قام فرنسوا هولاند ومانويل فالس ومريم الخمري بخنقه”. وأردف في تغريدة موجّها كلامه إلى الرئيس ماكرون “أكتب كي أجعلكم تشعرون بالخجل. أكتب كي أمدّ بالأسلحة اللاتي والذين يقاومونكم”.

إن بُعد الاحتجاج وقوة الراديكالية اللذين يسمان هذا النوع من الأدب، يتبديان عادة في أشكال واقعية، سواء من خلال وصف سردي لمنطقة أو جهة أو لفئة من الفئات المجتمعية. وكما هو الشأن في أعمال بعض المتوجين بجائزة غونكور في الأعوام الأخيرة أمثال إريك فويار ونيكولا ماتيو وليلى سليماني، تطرح الرواية تأمل أصحابها في الأنماط المعاصرة للتفاوت الاجتماعي، ويُنطِق كثيرٌ من كتابها المهمَّشين والمُهمَلين والخارجين عن الدورة الاقتصادية والاجتماعية، كحال سكان ضواحي المدن الكبرى والمشرَّدين والعمّال الموسميّين وصغار الموظفين، ويستعرضون أوضاع تلك الفئات بشكل درامي بهدف تحليل عالم اقتصادي متوتر، وآليات العمل في عصر التصرف الليبرالي، والأزمات البيئية، وهشاشة أوضاع المناطق الداخلية، والتبعيات الاقتصادية التي ولّدتها العولمة.

لقد أفادت رواية العصر الديمقراطي في القرنين التاسع عشر والعشرين معارك التفتّح والتحرّر. أما الرواية المعاصرة، فبرغم افتقارها لقواعد تنظيرية، وعجزها عن تقديم حلول كبرى، فهي تواصل مهمّة التحذير ولفت الانتباه من خلال وضع علاقاتِ قوى وصراعٍ طبقيّ جديد فرضته النيوليبرالية. وفي وقت باتت فيه القوى الغربية تشعر أن هيمنتها المطلقة مهدّدة، وأن الثورة الراديكالية المباغتة التي تقلب الأوضاع لم تعد سوى حلم نوستالجي، يندرج هذا النقد الأدبي للمنظومة ضمن الجدل الديمقراطي ويَلقى احتجاجُ الكتاب تأييدا من المؤسسات، وخاصة المدرسة، في لعبة تبادل أدوار مقنّنة.

إلى جانب الأنموذج الإدراكي الذي يجعل من الأدب نمط وصول إلى الحقيقة العميقة للعلاقات والبنى في السرديات الحديثة، تمكن الإشارة إلى الوظيفة النقدية التي تحملها اللغة الأدبية نفسُها، وقد تبنّى بعض الكتاب الجدوى الديمقراطية لوظيفتها الانزياحية وتجريد الخطاب، فهم يؤمنون أنّ بالكتابة يفكّك الأدبُ السردية السياسية والخطابات الإعلامية ويَدحضها، كما يتبدى في نصوص كتاب يُحسبون على اليسار، أمثال نتالي كينتان وإيمانويل بيرير وسندرا لوكبير، وقد ساروا في ذلك على نهج شكلانية مارغريت دوراس، وما بعد حداثة جورج بيريك، فهم يتبنون التجريب اللغوي على نحو يخالف “كلمات القبيلة” بعبارة مالارمي، ويطمحون في الوقت نفسه إلى تغيير سياسي. هذا الموقف، المتناقض في الظاهر، نظّر له رولان بارت حين دعا إلى إيتيقا الشكل وسياسة التجريب الأدبي في الآن ذاته، ووجد من الكتاب من جسّد تنظيره مثل فيليب سولرس وبيير غيوطا، فهم لا يرون فارقا بين ضرورة بلوغ الديمقراطية وبين إنتاج جمالي لا يتهيّب صعوبة المقروئيّة إلى حدّ الغموض والتعمية، لأن الثورة الحق بالنسبة إليهم مدارها الكتابة، وهو الموقف الذي نجده اليوم في خطاب عدّة كتّاب. بهذا المعنى لم ير بعضهم مفارقة في اعتبار الشعرية أمرا سياسيا، كما صرّح الشاعر جان ميشيل إسبيتاليي، الذي عرّف الشعر بكونه جنسا “أدبيّا غير قابل للخضوع”.

لقد أدّى انفصالُ الأدب في القرن التاسع عشر عن الرهانات الأخلاقية والاجتماعية للفضاء المشترك، وإيثارُ بعض الكتاب ممارسة الفن للفن، وتحوّلُ إقصائهم الاجتماعي إلى نوع من المُلكية الرمزية في العالم، إلى عزلة قطعتهم عن المدينة، بالمفهوم الأفلاطوني للكلمة، فلم يعد الكاتب يساهم فيها إلا بممارسة سياسة الانفصال والانسحاب، وبعض الاستفزازات الخارجية. بيد أن الانغماس في اللغة بوصفها عالَما مكتفيًا بذاته، وقع تبنّيه سياسيا، وقد بيّن الفيلسوف جاك رانسيير أن الدور الجوهري للمقترح الجمالي يذكّر من جهة استقلاليته بغياب التحديد المسبق لما أسماه “تقطيع المُرهَف”، أي الطريقة التي نقسّم بها الزمن والفضاء وأنماط النشاط وأنواع المؤسسات، ويؤكد أن الأدب يواجه أوصافا للواقع مشروعة كلّها رغم كونها متناقضة تعمل لصالح الديمقراطية، وأن الاشتغال على الشكل يسمح بإدماج الواقع في تمثله الأدبي خارج التراتبيات التي تضع وجها لوجه الأشياء أو الأشخاص الذين يُفترض أنهم جديرون أو غير جديرين بالتمثّل؛ أما الاشتغال على الأسلوب، فهو ليس قيمة يحتكرها اليمين حسب التقاليد وقُربِ الكتّاب من السلطة، بل هو خاصية من خصائص اليسار الأدبي، إضافة إلى الاهتمام بمن لا صوت لهم.

ويلاحظ رانسيير أن النظريات المعرفية واللسانية للفعل السياسي للأدب، الموروثة عن الماضي، لا تزال حاضرة في الحقل المعاصر، ولكن هذا الحقل يشهد أيضا بروز أشكال أخرى لنشر الفضائل الديمقراطية للأدب، وإن كانت تلحّ على وظيفة الاندماج والربط، بدل الانعزال والنقد. ذلك أن استقلالية الأدب كانت قيمة تَحرُّر من السلط السياسية المستبدة وأنماط تنظيم العمل العمودية والمنظومات العائلية القسرية، ولكن في المجتمعات الليبرالية المعاصرة، التي تعرّض كل فرد إلى مخاطر العزلة والانفصال، صار المطلب السياسي الذي يمارس على الأدب وعلى الفن بوجه عامّ مطلب صِلة. هذا الانقلاب يساهم في فهم مستقبل الأدب المعاصر، وخطاب تدخله في المجتمع الذي يتوجه إليه، لأنه يكيف منعرجا نموذجيا يجعل الأدب تجربة ورؤية للعالم في الوقت ذاته، وأداة تحرر، فرديّ أولا، ثم اجتماعيّ بفضل عدوى القراءة.

 ولكن من العبث حصر السياسات المعاصرة للأدب، كما يقول مؤرخ الأفكار ألكسندر جيفن، فالتحاليل الإثنولوجية أو السوسيولوجية لظروف وخطابات تَملُّك الهويات والتحرر، وتسريد الهيمنة، ونشر التخفّي كنمط مقاومة وتفكيك مناهض لتسلط الخطابات، وكذلك ترويج أعمال يوتوبيا أو ديستوبيا، كلها تشترك في واقع جديد، وهو أن السياسات الأدبية اليوم، إذ تخلت عن كل هيمنة أبوية وكل خطاب فوقيّ، وأدانت ولا تزال عدم مشروعية من يحتكرون الكلمة، تدافع عن السلطة الفعلية للكتابة وعن القراءة الفردية بوصفها ممارسة حقيقية لحياة ديمقراطية تقوم على الاهتمام بتعدد أشكال الحياة وصدقية التعبير عنها، حتى يمكن التصدي لصعود الديماغوجيات والخطابات المتسلطة.

لأبو بكر العيادي.

الجديد- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate