أخلاقنا سبب تأخرنا.. ؟
نيتشه: «جوهر الأخلاق وقيمتها التي لا تقدر بثمن هي أنها إكراه طويل.»
يقول نيتشه: «ليست قيمنا إلا تأويلات أقحمناها في الأشياء.»
لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الفلسفة المعاصرة هي الفلسفة التي أوشكت فيها الميتافيزيقا، بوصفها ذاك البحث العقلي في ”الأصل” أن تلفظ أنفاسها الأخيرة؛ ذلك أن المرحلة المعاصرة هي فلسفة التقويض بامتياز (هايدغر، جاك دريدا…).
ويمثل ”نيتشه”، موضوع بحثنا، واحدا من أهم الفلاسفة الذين حاولوا الحد من سلطة الميتافيزيقا، حيث طرح مسألة ”الجنيالوجيا” كبديل عنها، والجنيالوجيا بمعناها الحرفي هي دراسة النشأة والتكوين، وذلك بغاية تحديد النسب وإثباته، وكذا الوقوف عند الأصل، حيث إن ”نيتشه” يشير إلى ذلك في كتابه ”جنيالوجيا الأخلاق”، حين يقول: «في حقيقة الأمر إن ما شغل قلبي يومئذ هو شيء أهم بكثير من أية فرضية، سواء كانت لي أو لغيري، حول أصل الأخلاق.
وانطلاقا من هذا التقديم نتساءل: ما هي مهمة الجنيالوجيا؟ وماهي مستوياتها؟ وما هو الفرق بين الأصل الجنيالوجي والميتافيزيقي ؟ وبأي معنى حاول ”نيتشه” تقويض الميتافيزيقا ؟هذا ما سنحاول الإجابة عنه في الآتي من الأسطر.
تمثل فلسفة ”نيتشه” إحدى الفلسفات التي أثرت على مجرى التاريخ، خاصة تاريخ الميتافيزيقا، حيث عمل على وضع حد لهذه الأخيرة، عبر تعويضها بما أسماه ”الجينيالوجيا”، بوصفها بحثا في النشأة والتكوين بغاية الوقوف عند أصل أخلاقنا.
إن الأمر إذن، هو محاولة الإلمام بأصل الأحكام الأخلاقية التي تكونت لدينا. في كتابه أسس الفكر الفلسفي، يستحضر ”عبد السلام بن عبد العالي” قولا ل [هايدغر] حول ”نيتشه” يقول فيه: «لا يعني الأصل هنا السؤال: من أين صدرت الأشياء ؟ بل أيضا كيف تكونت؟ إنه يعني الكيفية التي تكون عليه، فلا يدل الأصل أبدا على النشأة التاريخية التجريبية.»
وبذلك، فهذه الممارسة هي بعيدة كل البعد عن تحديد الأصل في بعده التاريخي، ولا تستهدف الوقوف من الأصول والبدايات موقف تمجيد؛ لأن ذلك سوف لن يبتعد بنا إلى أبعد من الميتافيزيقا التي تعتبر أن الأشياء في بداياتها كانت في أوج كمالها، فهي تنظر إلى هذا الأصل كما لو كان موطن حقيقة الأشياء.
غير أن الجنيالوجيا ليست بحثا عن مصدر أو أصل، يقول ”ميشيل فوكو”: «إذا أولى الجنيالوجي عنايته إلى عملية الإصغاء للتاريخ بدلا من الثقة والإيمان بالميتافيزيقا، فماذا يتعلم؟ إنه سيدرك أن وراء الأشياء ((شيء آخر))، لكنه ليس السر الجوهري الخالد لها، بل سر كونها بدون سر جوهري وكونها بدون ماهية، أو كون ماهياتها قد أنشئت شيئا فشيئا، انطلاقا من أشياء غريبة عنها (…) فما نلقاه عند البداية التاريخية للأشياء ليس هوية أصلها المحفوظ، إنما تبعثر أشياء أخرى، إننا نجد التعدد والتشتت.»
إن الجنيالوجيا إذن، تضع نفسها في مقابل الميتافيزيقا، إذ لما كانت غاية هذه الأخيرة، بمعنى ما، هو استعادة جذور الهوية، فإن التاريخ الجنيالوجي يروم القضاء عليها. إنها كما يقول بنعبد العالي، تاريخ مضاد لنظيره الميتافيزيقي، يقول: «فبينما يتوخى هذا – التاريخ الميتافيزيقي – إثبات الوحدات وإقامة الهويات والوقوف عند الماهيات الخالدة، ترمي تلك إلى هدم الموحد وتقويض الهوية. فهي لا تأخذ على عاتقها رصد المنشأ الوحيد الذي صدرنا عنه والموطن الأصلي الذي تعدنا الميتافيزيقا بالرجوع إليه، إنما تسعى لإظهار الانفصالات التي تخترقنا. الجنيالوجيا لا تقيم الأسس، لا تؤسس، بل على العكس من ذلك، إنها تقلق ما تعتقده الميتافيزيقا ساكنا، وتفتت ما تظنه موحدا، وتظهر التنوع فيما يبدو منسجما.»
إن مهمة الجنيالوجيا هي تقويض المبادئ والماهيات الخالدة بهدم الموحد وتفتيت الهوية، هذه الهوية التي كانت وراء بناء هذا التاريخ الميتافيزيقي، أو تاريخ الأوهام إن صح التعبير؛ فالجنيالوجي بهذا المعنى لا يؤمن لا بالماهيات الخالدة، الثابتة ولا بالمبادئ المؤسسة ولا بالغائيات الميتافيزيقية، فهو عبر قضائه على فكرة المصدر الأصلي الميتافيزيقية يلغي فكرة الغاية والنهاية.
يقول ”عبد السلام بنعبد العالي”: «فبينما تحاول الميتافيزيقا أن تذيب الحدث في حركة مستمرة تهدف نحو غاية بعينها، فإن الجنيالوجيا ترصد الحدث فيما يجعل منه فريدا. والحدث ليس في نظرها إلا سلسلة علائق قوى لا تتبع هدفا بعينه، ولا تخضع لآلية بعينها، وإنما لصدف الصراع.»
هكذا تغدو الجنيالوجيا بعيدة عن أي بحث حول الأصول وكذلك عن فلسفة في التاريخ، فهي ليست تبحث عن البداية لكونها ليست بحثا عن غاية ونهاية، بل إنها حسب تعبير ”فوكو”: «تعيد بناء مختلف المنظومات الفاعلة، لا القوة المهيمنة لمعنى ما، بل التفاعل الخاضع للصدف بين عدة قوى.»[فالجينيالوجيا لا تنظر إلى الميتافيزيقا بوصفها معرفة، كما أن همها ليس هو تاريخ الحقيقة، إنما هو تاريخ إرادات الحقيقة.
يقول ”فتحي المسكيني” في مقدمة ترجمته لكتاب ”في جنيالوجيا الأخلاق”: «في كل مرة ينبغي أن ننصت إلى السؤال المتواري خلف قلم نيتشه: كيف نفكر قبل ظهور الكهان على الأرض؟ كيف نعيد للحيوان البشري قدرته ”الحربية” على الحرية البدائية الصلفة والمتهورة ؟ تلك التي أصبحت فجأة في خطر منذ ظهور الكاهن واختراع معجم ”العبودية” (خير، شر، أخلاق، خطيئة، محبة، ثواب، عقاب، ..)»
لقد بلغ الإنسان، في تقدير نيتشه، درجة ثقافية بالغة السمو عندما تمكن من نبذ الأفكار الخرافية، فهو لم يعد يؤمن، على سبيل المثال، بالخطيئة الأصلية، بل إنه أصبح يمقت حتى الحديث عن خلود النفس. لكن عليه، بعد أن بلغ هذه الدرجة من التحرر، أن يسعى جاهدا إلى قهر الميتافيزيقا، عبر الرجوع إلى الوراء؛ لأنه عليه أن يدرك التبريرات التاريخية والنفسانية للتأملات الميتافيزيقية. فيعتبر ”نيتشه” أن من يقولون بكون الميتافيزيقا خطأ هم في تزايد مستمر.
إن هذا الرجوع إلى الوراء هو بمعنى ما العودة إلى الأصل، والوقوف عند الأسس، فنيتشه لم يقتصر فقط على اتهام الميتافيزيقا من الخارج أو من أعلى، كما يفعل البعض حسب تقديره، إنما سعى إلى الوقوف عند أصولها لخلخلتها وتقويضها.
يقول نيتشه: «بفضل ريبة خاصة بي، أقر بها كرها لا طوعا، إذ هي تتعلق بالأخلاق، بكل ما احتفي به على الأرض إلى حد الآن بوصفه أخلاقا، – ريبة دبت في حياتي على نحو مبكر وبشكل طارئ، ولا مرد له، في تناقض مع البيئة والسن والقدوة والمنشأ، حيث أكاد أن أملك الحق في أن أسميها [مبدئي] ”القبلي”، – كان لا بد أن يتوقف ظني وفضولي في الوقت المناسب عن هذا السؤال: أي أصل هو في الحقيقة أصل الخير والشر لدينا؟»
إن الجنيالوجيا، على عكس الميتافيزيقا التي يحلو لها أن تعتقد في كون الأشياء كانت في بداياتها الأولى كاملة، ترى أن وراء كل الأشياء شيئا آخر، لكنه ليس بحقيقتها الخالدة. إنها بذلك ضد الأصل بمعناه الميتافيزيقي، «ذلك الأصل الذي يكون سابقا على السقطة والجسد والعالم والزمن.» لكن أين يكمن الفرق بين الأصلين الجنيالوجي والميتافيزيقي؟
يراد بالأصل الميتافيزيقي، ذاك الأصل الذي كرسته الميتافيزيقا. أما الأصل الجنيالوجي، فهو مضاد للأول، ويراد به ما تسعى الجنيالوجيا إلى إقامته.
فالأصل الأول-الميتافيزيقي-، كما يقول بنعبد العالي، هو ”أول”، فهو اللحظة التي تحددت فيها الخصائص، وتعينت فيها الهوية، ففيها اتخذت الأشياء صورتها التي كانت سباقة على كل شيء من أعراض وغيرها، وهي اللحظة التي تكون فيها الأمور قد تمت وحصلت، ومن ثم يتحدد أساس كل ما سيتم ويحصل. إنه موطن حقيقة الأشياء؛ أي ما يجعلها على ما هي عليه، وما يجعل معرفتها وإدراك حقيقتها أمرا ممكنا.
أما الأصل الثاني الذي يأتي في مقابل الأصل الميتافيزيقي، فهو المرتبط بالجنيالوجيا، التي تعمل على العناية بالتاريخ عوض التصديق بأوهام وخرافات الميتافيزيقا، وذلك لتكشف على أن الماهيات لا تكون في لحظة معينة بل إنها تتشكل شيئا فشيئا؛ وذلك انطلاقا من أشياء غريبة عنها، فضلا عن كون ما نعثر عليه في البدء ليس حقيقة الأشياء، كما أنه ليس الأصل الذي يؤسس، ولا الهوية التي تحفظ وتصون، إنما التبعثر والتشتت.
فإذا كان التاريخ الميتافيزيقي يحاول دائما أن يذيب الحدث الفريد في حركة مستمرة، لها نقطة تصدر عنها، وغاية تتوخى بلوغها. فإن الجنيالوجيا، على عكس ذلك، ترصد الحدث فيما يجعل منه فريدا. فما يقوم به التاريخ التطوري، هو وقوف عند حالة محددة، وتأويل معين لإضفاء صفة الغاية والهدف عليه، حيث لا يعدو التاريخ كونه انتشارا لهذا الأصل صوب الغاية التي حددت سلفا. على عكس الجنيالوجيا التي ليست إثباتا لأصل مطلق انبثقت عنه الأشياء، ولا وقوفا عند غاية محددة، إنما هي محاولة لإعادة تأويل غير منقطعة، فهي ليست بحثا عن معنى أول إنما إثباتا للأولويات والأسبقيات التي منحت لمعنى على آخر. إنها تقف عند الأصل لكنها لا تكتفي بذلك بل سرعان ما تقوم بفضحه، وتثبت أنه ليس إلا فرعا.
– مستويات الجنيالوجيا:
يتمثل عمل الجنيالوجي، حسب تقسيم بعض الباحثين، في ثلاث مستويات:
– يتجلى المستوى الأول في تشخيص الأعراض من خلال تأويل العلامات والدلالات بحسب القوى التي أسهمت في إنتاجها، وهو بذلك أقرب إلى السيميولوجي، باعتباره ينظر إلى القيم وكأنها علامات ورموز، وذلك بغاية فضح العملية التي يتم بها خلق المثل العليا، وذلك يظهر من قول ”نيتشه” «إن الحكم الاخلاقي لا ينبغي أن يؤخذ في حرفيته؛ لأنه لن يكون حينئذ ذا معنى، وعلى العكس من ذلك، إذا أخذ كوسمولوجيا فيغدو غنيا بالدلالات؛ فالأخلاق ليست إلا لغة ورموزا.
– أما المستوى الثاني، فيتمثل في النمذجة، وذلك يتم عبر تأويل القوى إما بوصفها فاعلة أو منفعلة.
– بينما يتجلى الثالث من المستويات في رد الأعراض التي قمنا بتشخيصها، والنماذج التي قمنا باستخلاصها إلى الأصول التفاضلية والتراتبات القيمية وتحديد كيفية ظهورها، فهنا نتساءل أو يتساءل الجنيالوجي عن الطريقة التي تظهر بها هذه التفاضلات القيمية وظروف اختفائها؟
هكذا فاالجنيالوجيا لا تكتفي بالوقوف عند النشأة، ولا تكتفي كذلك بالوصف والتشخيص، إنما تتساءل حول الكيفية التي تظهر بها التفاضلات والتفاوتات وكيفية زوالها واختفائها. إنها لا تقف عند حدود رصد الهويات ونشأتها، إنما تنشغل بمتابعة واقتفاء أثر تولد القيم، فالكيفية التي تتولد بها هذه القيم تتوقف على العنصر التفاضلي الذي يتم لموجبه تقسيم العالم بموضوعاته ورموزه إلى تعارضات متفاوتة. فعند الجنيالوجي، الحديث عن المعاني والقيم ما هو إلا حديث عن الهيمنة والتسلط؛ ذلك أن كل شيء هو لعبة إرادات، خاضعة لصدف الصراع.
ولعل ما يقوم به الجنيالوجي بهذا الصدد، على عكس الميتافيزيقي، هو الـتأويل، حيث يدخل في معارك وحروب تأويلية مستمرة ولا يخوض مشروع بحث سلمي عن المعنى. فبمجرد الحديث عن المعنى لديه، يأخذ في البحث عن استراتيجيات الهيمنة، ذلك أنه يرى أن التاريخ ما هو إلا حلبة صراع، فليس فيه إلا التسلط والقوة. وبالتالي، فهو ليس تقدما لعقل كوني، إنما لعبة انتقال من سيطرة إلى أخرى.
إن الجنيالوجيا هي التعرية والكشف عن فكرة الاصل الذي تقوم عليه القيم، حيث لم يتوان ”نيتشه” في التساؤل عن ملابسات نشأة الأخلاق والظروف التي ظهرت في إطارها قصد تشريحها. إنها استراتيجية نقد تستهدف ما ورثناه من أخلاق بوصفها سما ومرضا.
إن الأخلاق التي نحملها بين جنبينا هي التي ستؤدي بنا وبالإنسانية كلها إلى العدم، إنها عقبة في وجه البشرية، ولعل ذلك هو ما جعل نيتشه يتوق إلى ما وراء الأخلاق؛ أي أن نعيش ما وراء الأخلاق فليست الحياة هي العيش بين هذا التصنيف (خير وشر)، إنما في التحرر منه.
وفي حديثه عن أخلاق العبيد وأخلاق السادة، يعتبر ”نيتشه”، أن هذه الأخلاق تتولد عن الحقد الذي يكنه العبيد للأسياد، حيث إن أخلاق السادة تولد من تأكيد الذات، على عكس أخلاق العبيد التي تولد من رفض كل ما هو مختلف عنها، فالسيد أو النبيل هو شخص شجاع وصادق وأمين، على عكس العبد الذي يتسم بالجبن والخبث وافتقاره الأمانة والصراحة. وتبعا لذلك، لا يتساءل الأول عن السعادة لكونه يعيشها فعلا، في حين أن السعادة لدى الثاني تتمثل في الخمول والراحة والامتناع عن العمل.
إن النبلاء بحكم نشاطاتهم المتعددة سرعان ما ينسون الإساءات التي توجه لهم، ولا يحتفظون بها. ويعتبر ”نيتشه” أن أخلاق العبيد هي التي تولد نفورنا من الإنسان.
إن الفصل بين القوة والإرادة هو شيء غير ممكن، وهو خاطئ مهما تمادى العبيد في قلب القيم؛ فالعبيد يجعلون من العجز طيبة، ومن الانصياع طاعة، ومن الجبن صبرا، فيزعمون أن الله اصطفاهم وهم في اختبار، وكلما اختبرهم أكثر كانوا أكثر قربا إليه، وما يواسيهم هو يوم الحساب. فالضعفاء هم أيضا يريدون أن يكونوا أسيادا أقوياء، فيتصورون أنهم سيصلون إلى ملك ما في يوم من الأيام، وهذا ما يسخر منه ”نيتشه”.
لقد عمل نيتشه إذن على الحفر في أصل الأخلاق، فاعتبر أن حياتنا الحقيقية إنما توجد وراء الأخلاق لا في انحصارنا بين الخير والشر، أو الخطيئة والثواب؛ أي ما يسميه نيتشه بمعجم ”العبودية”. فالحياة ليست في أن نخضع لهذا التصنيف، إنما في التحرر منه لكونه يمثل عائقا أمام أي تقدم، ويؤدي بنا إلى العدم. وهو بذلك يضرب عرض الحائط كل ما جاء مع ”كانط”، فينعته بالمشعوذ والكاهن، على اعتبار أن الكاهن أو رجل الدين هو فقط من يريدنا أن نقتنع دينيا لا عقليا، وهو بذلك لا يختلف عن ”كانط” الذي يقول أن الواجب، واجب.. وكأنه يقول أن ”الحرام بين والحلال بين” وهذا ما أراد نيتشه تحرير الإنسانية منه لكونه يشكل سما ومرضا، إنه قيد.
لحسن بوجات.
مؤسسة مؤمنون بلا حدود- موقع حزب الحداثة.