الوحي بين كلام الله وكلام العرب.
نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، لكنه ليس بكلام البشر، هذا هو اعتقاد كل مسلم. لكن ما معنى أن يكون القرآن عربي اللسان وكلام الله في آن واحد؟ هل معنى ذلك أن يعتمد اللسان العربي في فهم وتفسير القرآن وحصر معانيه في حدود ما تتيحه قواعد اللسان العربي دون أدنى إضافة؟ أم لابد من استحضار ذلك البعد الإلهي لكلام الله الذي يقتضي تجاوز قواعد اللسان العربي، بل وتجاوز حدود المنطق الذي يحكم الفهم الإنساني؟
ولرفع هذا الالتباس بين كلام الله والكلام المبني وفق قواعد اللسان العربي، لا بد أن نستحضر بعض المستويات الضرورية التي ينبغي من خلالها التعامل مع أية عبارة كيفما كانت طبيعتها، فالعبارة إما أن تنتمي إلى اللغة الصورية كما هو الحال بالنسبة للعلوم الرياضية والمنطقية، أو تكون طبيعية كما هو الحال بالنسبة للغات الطبيعية، أو تكون روحية كما هو الحال بالنسبة للنصوص الدينية والعرفانية بصفة عامة. وكل عبارة من هذه العبارات إلا ولها خصائصها ومميزاتها. فالنظر إلى القرآن الكريم من جهة فهمه بناء على قواعد اللسان العربي فقط للإمساك بدلالاته ومعانيه هو بكل تأكيد تغييب لطبيعته الإلهية. ولا ينبغي الوقوف عند حدود هذه القواعد؛ لأن من شأن ذلك أنسنة هذا النص وحصره ضمن مدركات البشر التصورية، عندما يتماهى الخطاب الإلهي بالخطاب الإنساني. وأخطر ما في هذا الأمر، هو النظر إلى القرآن من زاوية ضيقة من خلال إحالة فهم معاني القرآن على قواميس العرب ومعاجمهم وسياقهم التاريخي والثقافي، وبالتالي جعله نصا مماثلا لأي نص بشري. وهذا فيه مس خطير بسمو وقدسية هذا الكلام، وتنزيه للذات الإلهية التي صدر عنها.
إن مقولة “كلام الله” غير قابلة للفهم ومن المستحيل استيعابها بناء على المقتضيات العقلية المنطقية والمعرفية المتداولة، وكل محاولة في هذا الاتجاه ستصطدم لا محالة بالتناقض. وهذا ما يفرض مقاربتها وإدراكها إدراكا خاصا. فطبيعة الذات الإلهية التي تقوم عند أغلب المذاهب الإسلامية على المباينة والتنزيه وعدم قياس الغائب على الشاهد، سيجعلها بالضرورة خارج أي إدراك عقلي. ولن يكون هنالك حينئذ سوى طريق واحد وحيد للتفاعل مع هذه المقولة وهو الإدراك الروحي الذوقي.
ولقد كان الدافع الأساسي عند البلاغيين العرب للدفاع عن سمو الخطاب الإلهي ممثلا في القرآن هو ما دونوه في الإعجاز القرآني، الذي حاولوا من خلاله الدفاع عن تفرد وتميز النص القرآني بخصائص لا يمكن أن تحضر في أي كلام بشري كيفما كانت مستويات بلاغة وفصاحة صاحبه. وكان مذهبهم في ذلك مذهبا بلاغيا، وكأن الإعجاز القرآني هو إعجاز بلاغي صرف، حيث يتم على أساس المقارنة بين بيان وفصاحة الخطاب القرآني وما توفر لدى العرب من أساليب بلاغية من خلال النصوص المتوفرة، سواء أكانت شعرا أم نثرا. والواقع أن مسلك البلاغيين العرب هو مسلك خاطئ من أساسه فمبدأ التنزيه يفرض أن لا يقارن كلام الله بأي خطاب آخر ولا أن يقاس بأي معيار أو قياس بشري؛ لأنه من حيث المبدأ سيكون كل ذلك قاصرا، وهذا كله سيصب في النهاية باعتباره محاولة لإخضاع البيان القرآني لقواعد البيان العربي، حيث يصبح القرآن في هذا المستوى مثله مثل أي نص تسري عليه تلك القواعد من دون أي اسثتناء. أضف إلى ذلك أن إشكالية كلام الله كانت من أبرز الإشكاليات الاعتقادية التي خاض فيها المتكلمون، وافترق بشأنها المسلمون إلى مذاهب كثيرة، ونتجت عنها كذلك فتن كثيرة أصابت الكثيرين حتى رموا بالكفر والإلحاد أو الشرك. فمحاولة إدراك كلام الله وتصوره كفعل وكخاصية للذات الإلهية محير للغاية. فبأي معنى يمكن إذن فهم كلام الله. لا تعنيني في هذه المقالة المختصرة الخوض في النقاش الذي خاض فيه المتكلمون، والذي كانت تحكمه اعتبارات معرفية سياسية واعتقادية خاصة بذلك العصر الذي ظهر فيه علم الكلام، بل الذي يعنيني هو النص القرآني كخطاب إلهي موجه للعالمين بما يعني ذلك من اختلاف المتلقين من حيث مستوياتهم الإدراكية وأمزجتهم وثقافاتهم وسياقاتهم التاريخية والحضارية والمعرفية. وأمام هذه الحالة من المستحيل توحيد المعاني والأفهام وتنميطها وحصرها في اتجاه واحد، وهو التحدي الذي واجهه القرآن من خلال تعدد التأويلات منذ وفاة الرسول. فالرغبة في حصر وتحديد دلالات النص القرآني كانت سياسية بالأساس، وستظل كذلك، لأنها لا تستحضر أبدا البعد الروحي في التفاعل مع النص القرآني. ولأن هذا البعد الروحي للقرآن بوصفه خطابا إلهيا يتسع لما لا يمكن أن يدركه البشر مهما كانت مستوياتهم الإدراكية والمعرفية. فلا يمكن بأي حال من الأحوال حصر هذا الخطاب في حدود إمكانيات الفهم البشري ولا في حدود مقتضيات اللسان العربي أو أي لسان آخر. ولقد تمت محاربة العديد من التأويلات والتفسيرات عبر التاريخ على اعتبارها ذات طبيعة باطنية، والكل يعلم أن الباطنية كمفهوم ارتبط ظهوره أساسا بفريق سياسي. وكان المستند في ذلك هو ضبط معاني ودلالات النص القرآني من منطلق توحيد الأفهام وصونا للاعتقادات التي يعتبرها البعض جوهر الدين، ومناط الدعوة الإلهية.
إن التسامح ينبغي النظر إليه أولا كقيمة ذات بعد روحي تتمثل في القبول والاعتراف بالتأويلات التي تصدر عن المسلمين في كيفية تلقيهم للخطاب الإلهي قبل أن تكون فضيلة أخلاقية اجتماعية او سياسية. ولقد عرف تاريخ المسلمين تضييقا كبيرا على التأويلات المتعددة للنص القرآني، وكان ذلك سببا مباشرا للعنف العقدي والديني الذي ظهر في المجتمع الإسلامي؛ وذلك منذ مرحلة مبكرة حيث كان مصدره الأساسي هو فرض فهم واحد للنص القرآني على الجميع، وهو ما انخرط فيه المفسرون والفقهاء. وبعد ذلك تم فرضه بالقوة فيما سمي بعقيدة أهل السنة والجماعة. إن اللاتسامح والعنف ليسا مصدرهما الوحي أو كلام الله، وإنما ذلك التأويل البشري للنص القرآني الذي يراد له أن يكون له اتجاه واحد يتطابق مع إرادة إنسانية مرتبطة بشروط معينة لفئة معينة في لحظة ما من لحظات التاريخ. وهذا يقصي تماما روحانية وعالمية وكونية النص القرآني، والذي يستوجب التفاعل معه كنص لا زمني.
إن الطبيعة الروحية للقرآن تفرض استحضار ذلك البعد الذوقي الخاص للذات في تلقيها وإدراكها لمعاني القرآن. فكل ذات تتلقى القرآن وفق وضعها الفكري الوجداني الخاص، وكل ذات تعتقد في قرارة نفسها أنها بصدد تلاوة كلام الله؛ فهي لا يمكنها أن تتفاعل مع هذا الخطاب إلا على نحو خاص وفريد. لا بد إذن من استحضار هذا البعد الروحي الذي يجعل من القرآن من المستحيل تلقيه عند المؤمن إلا باعتباره وحيا أي بالاستناد إلى ذلك الجانب الروحي الكامن في الذات، والذي يتميز عن كل حاسة وعن كل اعتبار عقلي أو غريزي. ونحن لسنا ملزمين بمعرفة ما يحس به كل مؤمن عند تلاوته للقرآن ولا الأخذ بما يدركه ويفهمه من القرآن، وليس من حقنا كذلك الحكم على فهمه الخاص للقرآن؛ لأن كل ذلك بمثابة تجربة ذوقية خاصة وذاتية. ومن الظلم أن نحرم الناس من التفاعل مع كلام الله بطريقتهم الخاصة، وبالتالي إخضاعهم للرقابة والسلطة فيما يعتقدون. وبالفعل، فإن النص القرآني قد ألهم الكثيرين، بعضهم دون فهمه وتفسيره للقرآن وكثير من الناس احتفظوا لأنفسهم بتجربتهم الخاصة مع كلام الله، في تدبر ومناجاة، سواء أكان ذلك في جوف الليل أو واضحة النهار. فتلك اللذة التي تصدر عن تامل خاشع هي التي تشد المومن لتلاوة القرآن دون ملل. بعيدا عن عيون ترقبهم أو لها سلطة للنفاذ إلى ضمائرهم بحثا عما يحسون به وبما يشعرون، إن القرآن يوفر إذن بوصفه كلاما إلهيا علاقة مباشرة بين المؤمن وربه، يتم فيها تحيين تلك الصلة بين الإنسان وخالقه، بين الفاني والمطلق بين الزمني واللازمني.
إن الحديث عن الروح يستدعي الحديث عن بعد آخر من أبعاد الطبيعة الإنسانية الذي غالبا ما لا يتم الانتباه إليه، والذي يعتبر بمثابة أساس الدين ومبدأ الاعتقاد. فتفسير الظاهرة الدينية بما يرتبط بها من طقوس تقتضي بالضرورة استحضار هذا البعد الروحي، وبما أن القرآن باعتباره كلاما لله لا بد من التعامل معه باعتباره عنصرا أساسيا يجد مبرر وجوده بناء على هذا البعد الخاص. ومن المعلوم أن الحديث عن هذا البعد قد يطرح العديد من الأسئلة حول وجوده من عدمه وما هي خصوصياته.
إن القرآن نبع لا ينضب من المعاني الروحانية يدركها المؤمنون كل على قدر إيمانه وطاقته، وتبقى هذه المعاني خاصة بكل شخص كتعبير عن تجربة فريدة وذاتية، إنه تنزيل متجدد ودائم.
وفي الختام يمكن القول إن كلام الله أكبر بكثير من أن يسعه مذهب أو اعتقاد أو أي اجتهاد. وبالتالي فلا يمكن لأي كان أن يحجر على الناس ويفرض عليهم فهمه الخاص لكلام الله ويلزمهم به؛ لأنه خطاب إلهي مفتوح على كل التأويلات، ومعانيه ذوقية روحية بالأساس قبل أن تكون عقلية منطقية أو ثقافية اجتماعية أو علمية، وهي عصية على التنميط والتقعيد فهو بمثابة نص عابر للذوات، وللأزمنة والثقافات. ويعبر عن شكل من أشكال حضور المطلق واللانهائي فيما هو محدود. وفهمه وإدراكه سعي للتسامي للتماهي مع المطلق من خلال جملة من العبارات هي أثر للمتعال (اسم الجلالة) المتعالي (le transcendantal).
لمحمد اوبلوهو.
مؤسسة مؤمنون بلا حدود- موقع حزب الحداثة.