الاصلاح الديني: المصطلح والمفاهيم
2015 / 2 / 2
ربما، وبدون أن يكون هذا قصدهم، حملت رياح توقيعات تمرد المصرية، كافة القضايا التي مزقت كيان الشعوب في المنطقة إلى الميادين وفي قبضة الجماهير العريضة: من اطروحات الاسلام السياسي اليمينية، الاقصاء الشامل والممنهج لكافة القوى والتيارات الإجتماعية وخطل إدعاءاتها في فرض دين الجماعة وفشل رؤيتها المدوي.
عندما خرجت الملايين للميادين والساحات العربية، لم ترتفع أي شعارات دينية او تطرح ما سوف يصبح لاحقاً، مع فشل النخب المدنية في تقديم رؤية مقنعة، شعارات الاسلام السياسي. طرحت الاحداث في الميادين قضية الإصلاح السياسي إلى الصدارة، وهناك اتفاق كبير من مختلف التيارات على اهمية ارتبط الاصلاح السياسي بالاصلاح الديني. تبلور هذا في ضرورة إنتزاع الإسلام من أيدي الجماعات التي جيرت الإسلام لصالحها، والتي حاولت فرض تصورها الخاص على كافة المسلمين والمواطنين. من بين ضباب سنوات الصراع الدامي لفرض هذا التصور الذي كاد أن يودي بقيم، اخلاق ومباديء المجتمعات الاسلامية، ظهر جلياً الفهم العصري والمتطور لمفاهيم المواطنة، الدين والاخلاق.
مصطلح الإصلاح الديني Reformation
دخل هذا المصطلح في التداول لوصف الحركات الدينية التي اجتاحت أوربة في القرن السادس عشر. كانت كلها تدعو إلى إصلاح الكنيسة، وتخليصها من الشوائب والممارسات الخاطئة، بتمسكها بحقها وحدها في تفسير أحكام الدين وتطبيقاتها على النحو الذي تراه، ومنع الآخرين من هذا الحق، ولاسيما قضايا الإيمان، وممارسة الأسرار المقدسة، وسيطرة الكنيسة على تربية الأفراد والتزامهم حيالها، واحتكارها منح صكوك الغفران. تمخضت حركة الاصلاح عن ظهور ما يعرف بالكنائس الإنجيلية.
برغم أن العوامل الدينية احتلت المكانة الأولى في اسبابها، لأنها كانت السبب الرئيسي في احتجاج المحتجين ودعاة الإصلاح، لكن كان ورائها تطور المجتمعات الاوربية، ودخولها مرحلة “الثورة البرجوازية”. أخذت المدن في الاتساع بسبب رواج التجارة والصناعة، وظهور طبقة متوسطة (برجوازية) من أصحاب الثروات الساعين إلى التخلص من سيطرة الإقطاع وأصحاب الأراضي ومن خلفهم الكنيسة، وعملها على تحرير الفلاحون وأقنان الأرض لاستيعابهم في الصناعات كعمل ماجور.
ساعدت الطباعة التي ظهرت في منتصف القرن الخامس عشر، في ترويج الثقافة المحلية والكتب ولاسيما الكتاب المقدس الذي غدا بين أيدي الجمهور، كذلك كان للأحكام التي تصدرها المحاكم الكنسية بحق دعاة الإصلاح ووسمهم بالهرطقة ورميهم بالحرمان، دورٌ كبيرٌ في إثارة فضول الجماهير ودفعهم إلى الاستماع إلى أقوالهم وحججهم أو قراءة كتبهم لمعرفة أرائهم. ترافق مع صعود البرجوازية ظهور النزعة القومية، وقادت لتغذية روح التمرد على سلطة الامبراطور والبابا، للاستقلال بشؤونهم المالية وبناء قوات مسلحة خاصة بهم.
بنيت اللوثرية على عدم وجود واسطة بين الله والإنسان، ولاترى لزوماً لصكوك الغفران من أجل ذلك. وتتلخص قضاياها في مبادئ أساسية أهمها أن الكتاب المقدس وحده مصدر أصول الإيمان المسيحي، وهو كاف ليدل المؤمن على الله، أما الخلاص فعمل فردي ومجاني ينعم الله به على المؤمن، فكل مؤمن كاهن بذاته وهو مسؤول أمام الله مسؤولية مباشرة، أما الكنيسة بتعاليمها ورجالها وباباواتها فليست بالضرورة وسيطاً بين الإنسان وربه وليس لها أي سلطان. كان رموز الاصلاح اللوثريون، الكلفينية والانغليكانية، التي ادت لقيام سلطات دينية مختلفة من البروتستانية والكنيسة الانغليكانية الانجليزية. (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=1222&m=1).
مصطلحي الاصلاح والتجديد الديني
يتم استعمال مصطلحي الاصلاح الديني والتجديد الديني في الفضاء الاعلامي والفكري بمعنى واحد. قدم الكاتب ورجل الدين السوريّ، رياض درار، قراءة محكمة ومفصلة عن المعاني المختلفة لاستعمال المصطلحين “لا بدَّ في البدء من توضيح الفارق بين الإصلاح الدينيّ والتجديد الدينيّ. فالأول، بالمعنى اللوثريّ، يسعى إلى القراءة الحَرفيّة للنصوص بلا تأويل، ومن ثَمّ يسعى إلى إقامة الدولة الدينيّة. أمّا الثاني فيتطلّع إلى إصلاحٍ فقهيّ يتجاوز مصطلحاتٍ وأحكامًا قام عليها تيّارُ الإسلام السياسيّ، الذي راح يؤسّس لفقه الدولة على قواعدَ ليست من صلب الدين وإنّما مستندة إلى ظروف نشأة الدولة الإسلاميّةِ الأولى”.
اذن التجديد هو لمعالجة ما يلحق الدينَ من “انحرافٍ عن الجادّة”، أي ما يتصل من تفسيرات النص المقدس “القرآن الكريم”، وهو محكم كنص، ومفتوح للقراءة. النص المنقول ” السنة النبوية” هو اقوال الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وجمعه بشر حسب معطيات علمية وعملية متوافقة مع عصرها. “كل التفسيرات فهو من صنع البشر أو بفعل تطوّر الحياة ـ وهذا يحتاج إلى تجديدِ أمر الدين. والحديث النبويُّ واضحٌ في هذا المنحى: “يأتي على رأس كلِّ مائة عامٍ من يجدّدُ أمر دينكم.”
يعتبر رياض درار أن النصّ يرجع إلى أصله الخام، وأن الفكر الفقهيّ هو تطهير مستمرٌّ للنصِّ، وتفنيدٌ لكلّ ما يتعارض مع الشرع والعقل على السواء، أو يتخلّف عنهما، أو يجمّد النصّ جمودًا يُفقده فاعليّته وتأثيره. وأن على الرغم من كون القرآن معصومًا “لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه”، فإنّه كلمات، وللكلمات إيحاءاتٌ لا يمكن أن تتوقّفَ عند صورةٍ واحدة، بل تتوسّع حركيّتها بتوسّع الممارسة الحياتيّةِ في المجتمع، فتكون لها امتداداتُها واستعمالاتُها المتجدّدة. لذلك فإنّ تفسيرَ الآيات يجب أن يُستوحى من واقعنا المعيش، في حركتنا اليوميّة، وفي امتداد الحركة الإنسانيّة وصراعاتها. لذلك فإنّ القضيّة إصلاح الاجتهاد الدينيِّ؛ وهذا يكون بالتعمّق في النصِّ، وفي امتداده، حتى يكونَ للحياة كلّها. وهذا مصدرُ التجديد، ومعنى من معاني العلمانيّة الذي يرتبط باستيعاب الحداثة. (رياض درار :العلمانيّة والتجديد الدينيّ، http://adabmag.com/node/520).
تناولت قضية الاصلاح الديني من حيث تطورها التاريخي وقضاياها النظرية، في فصول متعددة من كتابي عن الرؤية، وبعد حظرهما بواسطة جهاز الامن السوداني، لخصتهما في “الرؤية السودانية_ كتابين ملخصين في كتاب” في https://independent.academia.edu/AmrAbbas3، عبر الصفحات (105-124). استعمل مصطلح الإصلاح الدينيّ، في هذا المقالات، لتحديد العلاقات المتشابكة بين الدين كمعطى عقائدي ايماني، والسياسة كمعطى يهتم بحياة البشر ويتطور حسب حاجياتهم الحياتية والمعاشية.
من وجه نظر القوى المدنية فقد حددت قضايا اساسية تعتبر مدخلاً لأي إصلاح سياسي ومن ضمنها الديني. ولخصت هذه القضايا في مفهوم المساواة، مبدأ المواطنة، حزمة من الإجراءات لإعادة تأسيس وتطوير المجتمع المدني، تطوير التعليم الأساسي والعالي، معالجة الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية واخيراً بناء دولة القانون. (كريم الصياد: خطاب الرئيس في الأزهر.. الإصلاح الديني أم الإصلاح الاجتماعي؟ http://elbadil.com/2015/01/11 خطاب-الرئيس-في-الأزهر-الإصلاح-الديني.
تاريخ الاصلاح الديني
ارتبطت دعوات الاصلاح الديني في المنطقة، بالتطور الاقتصادي الاجتماعي من جهة، التطور الموازي الهائل في اوربا والاحتكاك الذي حدث سواء الثقافي، كما حدث مع البعثات الدراسية لاوربا في عصر محمد علي، ولاحقاً الاستعمار المباشر. ارتبطت دعوات الاصلاح أيضاً بالإصلاح السياسي والثقافي. كان الاحتكاك بالعالم الاوربي هو الذي حفز شعور الطلائع بأزمة المسلمين، تخلفهم عن الحضارة والتقنية الغربية وارجعها البعض إلى أن واقع المسلمين المتخلف يعود إلى حالة الجمود والركود في الحياة الاجتماعية والدينية.
ارتبط هذا التطور بالاتجاهات التحديثية لمحمد على باشا واتجاهاته الامبراطورية، القضاء على المماليك، بناء جيش حديث باسطول ومصانع حربية، نشوء طبقة من المتعلمين الدارسين فى فرنسا، أنشأء المدارس ليخلق طبقة من الأفندية يديرون دولاب الدولة بديلاً عن الشيوخ التراثيين كما كان الحال من قبل فى الدولتين المملوكية والعثمانية. عملية التحديث أدّت الى تهميش الأزهر وإنشاء تعليم مدنى بعيدا عنه، إلّا أن حركة التحديث ما لبث أن وصلت أصداؤها للأزهر متأخرة بعض الشىء. )أحمد صبحى منصور: تطبيق مبادىء الشريعة الاسلامية يستلزم إصلاح الأزهر:( 2 ) لمحة تاريخية عن اصلاح الأزهر (الحوار المتمدن-العدد: 4173).
هذه البيئة هي التي افرزت دعاة الاصلاح الديني من مثل دعوة الحركة الوهابية بالسعودية محمد احمد المهدي السودانية ، كما افرزت دعاة اصلاح الخطاب الديني الشيخ محمد عبده، جمال الدين الأفغاني، رشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم. في حين اختار البعض التوجه نحو تبني نظريات الغرب العلمانية، فصل الدين عن الدولة والدولة المدنية والتي كانت اساس الحكم في العديد من الدول (مصر، لبنان، سوريا، ليبيا، السودان وغيرها)، ساد اتجاهان في المنادين بالاصلاح الديني: الاصلاح الفقهي والفكري.
رغم تناولنا الفقه والفكر الاسلامي، باعتبارهما مجالين متمايزين، لكل منهما مجال تأثبر لكنهما في الحقيقة مجالان متبادلا التأثير والتتفاعل. يشترك الموضوعان انهما نتاج تطور دراسة اللغة العربية. وقد رصد الاستاذ طه ابراهيم هذه العلاقة، “فما الذي يحدد قوانين اللغة: إنها تتم بالنقل، وإنها نقل متواتر وعليه إجماع، وعند تحقق هذه الشروط تصبح اللغة صالحة لكل زمان ومكان”. تقارب وتجاور علماء اللغة وعلماء الفقه العرب، بل واشتراك معظمهم في الأخذ بالعلمين، أفرز أن تنتقل قوانين اللغة لتصبح هي الحاكمة في علم الفقه.
يقوم الكاتب بسياحة طويلة في تأريخ تطور اللغة ويرى أن أصول وقواعد علم أصول الفقه قد اخذت كافة قوانينها من حقل اللغة ” إن أصول وقواعد علم اصول الفقه، وهو علم يقوم اساساً على أن مصدر المعرفة هو النقل وفي إطار النقل فأن معيار صلاحية النص للتطبيق هو وروده بسند قطعي ودلالة قطعية وليس تصديق الواقع له أو قدرته على حل إشكالات الواقع وتوتراته أو تفسير ظواهره او قدرته على التحطم وتطوير الواقع بغرض استخدامة لمصلحة الانسان وتقدمة” (طه ابراهيم: مساهمة فى حل ازمة العقل العربى المسلم: اصول بديلة للفقة والفكر، دار عزة للنشر والتوزيع، الخرطوم، السودان، 2002 ).
سيقود هذا د. محمد عابد الجابري وهو بصدد نقد العقل العربي إلى تخصيص جزء كامل من اربعه اجزاء، لتناول تاثير “البيان”، أي اللغة على البنية المعرفية. ويرى أن الجسر بين قوانين اللغة، والمنظور الفقهي القانوني، كان الامام الشافعي. وحدد الشافعي “الاصول” انطلاقاً من ترتيب درجات البيان القرآني، ووضع الاساس ل”قوانين تفسير الخطاب” – والقرآن اعلى مستوياته- من فحص اساليب التعبير في لسان العرب. من درجات البيان هذه يستخلص الشافعي ثلاثه “اصول” هي: الكتاب والسنة والاجماع ثم يضيف “اصلاً” رابعا هو القياس. ويمكن ارجاعها لأصلين: النص ” الكتاب والسنة”، والاجتهاد “اجتهاد الجماعة (الاجماع) واجتهاد الفرد (القياس).
اهمية هذه العلاقة بين اللغة والفقه ومن ثم تأثيرهما على مجمل الفكر الاسلامي وتياراته، دفعت الجابري لتخصيص اخر فصل في الكتابة لدعوته لاعادة التأسيس من اجل عصر تدوين جديد، للتحرر من فكر الماضي الذي تأسس في عصر ماض، ومن الفكر الغربي المنقطعة عن اصول تحققها (د. محمد عابد الجابري: بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، 2008، بيروت، لبنان)
التجارب المعاصرة للاصلاح الديني
كل التجارب المعاصرة للاصلاح الديني، والتي سوف استعرضها هنا، انطلقت من عالمية الاسلام كدين، ومن ثم اعتبرت تفسيرها الخاص عالمية ايضاً. وكما سوف نرى فقد ارتبط كل تفسير، بطبيعة المجتمع الذي نشأت فيها وتأثرت بها وانحصرت في محيطها الجغرافي المحدود، وإن اثرت بطبيعة الحال في المحيط الاسلامي الواسع بدرجة او اخرى.
كانت اكبر حركات الاصلاح الديني، الوهابية والمهدية نتاجاً للمواجهة مع الاخر” الخلافة الإسلامية التي كانت تحت حكم العثمانيين”، وبذلك تعتبر “حركات وطنية” قامت ونشأت في مجال جغرافي محدد، وإن طرحت نفسها كدعوة عالمية اسلامية. طرحت الحركة الوهابية برنامجا لإصلاح وضع المسلمين ينبني على مبدأ العودة إلى تعاليم النص القرآني والتقليد السني، أي إصلاح وضع الإسلام. من إعادةِ تعريف التوحيد ومعنى الشركِ، ومواجهةِ الشرك المتمثّل في الكهانةِ والسحر وتقديس القبور ونبذِ الخرافات. فكفّرت المخالفين (كالمتصوّفة والمتشيّعة)، واتهمتْ جماعاتٍ من أهل التجديد بالمروق من الدين، وأغلقتْ بابَ الاجتهاد والتأويل، وحاربت القيمَ الوافدة في التعليم والصناعةِ والبناء باعتبارها من منجزاتِ الغرب المسيحيّ أو من مظاهر فلسفتهم الماديّة. (رياض درار: مرجع سابق).
واجهت المهدية في السودان، نفس المحتل التركي، وتوفرت شروط موضوعية من الاستبداد وسوء الإدارة من القوى الحاكمة، ثم السخط وتناقض مصالح فئات واسعة من الشعب مع السلطة (أهمها الشعب المرهق بالضرائب والإذلال، الإدارة الأهلية الواقعة بين مطرقة المركزية الشديدة وسندان الضرائب الباهظة المطلوب جمعها، الطرق الصوفية المهمشة، الطبقة التجارية المحرومة من التمدد داخلياً وخارجياً). لم تكن الثورة المهدية منعزلة عن المقاومة التي أبدتها فئات متنوعة من الشعب للحكم التركي، لكن لم تكتمل شروط الثورة إلا مع الإمام محمد أحمد المهدي بتوفر كافه الشروط التي تقود شعب ما إلى الثورة، فكيف استطاعت الفكرة المهدية أن تقدم القيادة الملهمة والجماعة المؤمنة التي استطاعت انجاز الثورة؟
واجه الإمام المهدي نفس الموقف الذي أدى لقيام كافة مدارس المقاومة الإسلامية من خوارج، شيعة، صوفية وغيرها على إثر بداية الحكم الأموي، وهو كيفية مواجهة نظام إسلامي بمقاومة إسلامية والانقلاب عليه، وتجاوز المجرى العام لكل الموروث السني الرسمي. ربما كان حال الأوائل أفضل حالاً؛ لأنهم كانوا أقرب للخلافة الراشدة، ولم تتأسس بعد المبررات الفقهية والتبريرات النصية. جاء جواب المهدي من داخل المنظومة الصوفية فقد تتلمذ على أبرز ممثلي الطرق الصوفية خاصة السمانية التي أعطته خريطة الطريق في السودان كانت الحركة المهدية تسير في نفس الاتجاه الرافض للبدع التي اعتبرت دخيلة على الإسلام وعلى تعاليمه. وقد دفعت الطرق الصوفية ومختلف المعتقدات الشعبية ثمنا لهذه الحركات الاسترجاعية، مما يفسر كون خصمها الأول الشرائح الشعبية ذاتها.
اعلنت المهدية أن غرضها هو إحياء الإسلام عن طريقة الالتزام بالكتاب والسنة، ورفع التفرق من تمذهب وتطرق، وأوضح أن دعوة الإمام المهدي مختلفة عن المهدية لدي الصوفية، الذي يقوم بدور أساسي في تدبير نظام الكون، كما أن دعوته مختلفة عن المهدية التي ينتظرها الشيعة الذين ينتظرون الإمام الثاني عشر أن يرجع، فيقوم بالدور المنحدر إليه من سيدنا علي بن أبي طالب (رَّضِيَ الله عَنْهُ). ومما يباعد بينه وبين المفاهيم الشيعية انه جعل المكانة الثانية بعده لغير أولي قرباه.
رغم أن إلغاء المذاهب واعتماد مذهب واحد مما أخذ على المهدية، فقد كان الموقف من التراث بمجمله متطوراً في إن الإتباع لا يمنع التجديد:” قال المهدي في منشور بتأريخ 1302هـ (1885م) مشيراً إلى تبرير حكم من أحكامه بأن المصلحة هي التي اقتضته، ذاكراً أن مراعاة المصلحة هي التي جعلت بعض الآيات تنسخ آيات أخرى”. وقال أيضا الآتي: “وارفعوا حوائجكم إلى بالصدق مع الإقبال، ولا تعرضوا لي بنصوصكم وبعلومكم على المتقدمين، فلكل وقت ومقام حال، ولكل زمان وأوان رجال”.
لقد اثرت الحركات التي تطرح نفسها عالمية، في كيفية تمظهر علاقة السودان بالاسلام، كما كانت قد ادت الآليات التي تمت بها اسلمة السودان في اعطاء التجربة السودانية ملامحها الخاصة، وبالتالي فرضها منظوراً معيناً في قضايا الاصلاح الديني المطروحة على الساحة السياسية السودانية. ومن هذا المنظور سوف اختم مقالاتي (4-4) بتناول الكيفية التي استطاعت بها اضخم تجارب بناء الرؤية في دول اسلامية “ماليزيا واندونيسيا”، معالجة العلاقة الشائكة بين الاسلام والسياسة، الديمقراطية وغيرها.
الاصلاح السياسي والديني
لم تخضع مفاهيم الاسلام السياسي – بكافة تكويناته- للمراجعة والاصلاح في قاعات الحوار او التلفزيونات، ولكن دارت المعركة في ميادين الثورات العربية وخاصة مصر، والتي خرجت من عباءة تنظيمها كافة المتطرفين والتكفيريين. حسمتها الشعوب في الميادين من واقع الممارسة العملية وتجاربها المريرة مع هذه التيارات. وسوف يوديء بنا تطور هذه الحركة الفكرية العارمة –عاجلاً او آجلاً- أن تُتُرجَمَ هذه المفاهيم إلى واقع القوانين، مدونات السلوك المجتمعي، المناهج الدراسية وكتابات المفكرين والمثقفين. إن العالم الإسلامي يضع اقدامه على عتبة الاصلاح الديني المطلوب، واستكمال مسيرة الرواد كجزء اساسي من الإصلاح السياسي، الإقتصادي والإجتماعي.
اطروحات التجديد مستمرة في العالم العربي، لكنها اخذت منحى متسارعاً بعد 11 سبتمبر 2001. ركزت الاصلاحات آنذاك على تغيير المناهج، وبعض التوجهات العامة، لكنها لم تطرح رؤية واضحة او برامج عمل لكيفية انجاز أي اصلاح. طرحت كل الثورات العربية مسائل الاصلاح الديني كجزء من الاصلاح السياسي العام، واصبح المصطلح شائعاً في حوارات النخب في كل مكان. وقادت النخبة المصرية، من واقع صراعها الدامي مع التيارات الدينية السياسية المتنوعة، هذا النقاش لمداه الاقصي. على مستوى القيادات السياسية، فقد طرحت افكار عامة حول الاصلاح الديني. ففي اعقاب هجمات سبتمبر تحدث العاهل الأردني الملك عبد الله والرئيس الباكستاني آنذاك برويز مشرف حول الصوت الحقيقي للإسلام والاعتدال المستنير، لكنها افتقدت أي برنامج عمل واضح.
ورغم أن الرئيس السيسي قدم خطاباً قوياً حول الاصلاح الديني في الأزهر بتاريخ 1/1/2015 بدا للبعض واعدًا بآمال الإصلاح الديني المبتغى في مصر والعالم العربي، تلك الآمال التي تعلقت بهدف الخلاص من الإسلام السياسي، أو سلطة الفقهاء على العقول، أو الرقابة الدينية، أو تناقض الصورة الحالية من الإسلام مع قيم الحداثة ومبادئها.. إلخ. لكن هناك تساؤلات جادة حول كنه هذا الإصلاح الذي يرومون، ولا عن كيفية تطبيقه، ولا الجهة المنوط بها هذا التطبيق. لكنه اوضح أن هذا التغيير سيأخذ وقتا.
عمرو محمد عباس محجوب.