السياق السياسي لبداية عصر الاصلاح الديني في انكلترا
حكم هنري الثامن ملك إنجلترا طيلة 36 عاماً منذ 1509 وحتّى 1547، وقد شهد عهده بداية عصر النهضة الإنجليزية وكذلك الإصلاح البروتستانتي، لكنّ شهرة الملك تأتي بالأساس من حياته العاطفية الصاخبة، وليس من إنجازاته السياسية أو من ثقافته الاستثنائية في ذلك الزمان وحبه للكتب.
فقد اشتهر هنري الثاني بالتالي بزواجه من 6 نساء، أعدم اثنتين منهنّ في ظروفٍ غامضة، وطلّق اثنتين -على عكس الشريعة الكاثوليكية- ثمّ امتلاكه عدداً آخر من العشيقات لا يعرف عددهنّ. وغالباً ما كانت علاقاته بالنساء تتشكّل من خلال عاطفته بلا شكّ، لكنّ أمراً سياسياً أيضاً كان حاضراً، فقد كان هنري الثامن مهووساً بأمرين: سعيه المستميت لتحقيق الوحدة السياسية في البلاد وإنجاب وريث ذكر، إذ كان يعتقد أنّ النساء لا يمكن لهنّ الحكم، رغم أنّه أنجب ابنتين، ستحكمان إنجلترا من بعده على عكس رغبته.
ومن الغريب كذلك أنّ هذين الأمرين الذين سيطرا عليه -إضافةً بالطبع لمشاعره العاطفية تجاه النساء- قد أدّت إلى انفصاله عن كنيسة روما، وعن سلطة البابا الدينية.
العرش يؤول إلى هنري الثامن بالصدفة!
كثيرةٌ هي الصُّدف، لكنّ هذه الصدفة استثنائية، فقد كان هنري الثامن الابن الأصغر لوالده هنري السابع، كان ولي العهد هو أخوه الأكبر آرثر، الذي رُتِّب له زواج سياسي من كاثرين ابنة فرناندو الثاني وإيزابيلا الأولى من إسبانيا.
رتِّب الزواج لآرثر وهو في سنّ الخامسة عشرة، كانت كل المؤشرات تقول إنّ آرثر سيصبح ملكاً بعد وفاة والده هنري السابع، ولهذا فقد تمّ تربية وتجهيز أخيه هنري للحياة الكنسيّة، كان هذا عرفاً أحياناً أن يتم إعداد أخي ولي العهد لحياةٍ كنيسة لكي لا يكون تهديداً لأخيه في الصراع على السلطة.
لكنّ القدر لم يُمهل آرثر، وتوفي وهو في الخامسة عشرة، وبينما كان هنري قد أتقن اللغة اللاتينية والفرنسية والإسبانية -بسبب التربية العالية التي نالها تأهيلاً له للحياة الكنيسة- كانت حياته على موعدٍ آخر مع القدر، بوفاة أخيه آرثر عام 1502!
أصبح هنري ولياً للعهد، لكنّه كان محاطاً بقيودٍ كثيرة، فقد كان زواج أخيه آرثر من كاثرين زواجاً سياسياً بين إنجلترا وإسبانيا، وكما ورث هنري من أخيه آرثر ولاية عهد إنجلترا ورث كذلك عنه زوجته!
يعتبر زواج الأخ من أرملة أخيه محرماً في الشريعة المسيحية، ولهذا فهو يتطلّب “مرسوماً بابوياً” يتيح لهنري الزواج من أرملة أخيه!
تكفّلت أمّ كاثرين -إيزابيلا الأولى- بإصدار هذا المرسوم، وقد أصدره البابا يوليوس الثاني، وبعد سنةٍ وشهرين من وفاة آرثر، وجدت كاثرين نفسها زوجةً لأخيه هنري، وقد أقسمت أنّ زواجها من آرثر لم يكتمل أبداً!
أصبح هنري ملكاً على إنجلترا عام 1509، وأصبح اسمه هنري الثاني.
هنري الثامن “المدافع عن الإيمان” أم عدوّ البابا؟
مع ظهور الإصلاح البروتستانتي وقائده مارتن لوثر الذي هاجم الكنيسة الكاثوليكية وممارسات بابا روما، رفض هنري الثامن ملك إنجلترا تيار الإصلاح البروتستانتي، مقدماً ولاءه لبابا روما، الذي منحه بدوره لقب “المدافع عن الإيمان”، لكنّ العلاقة الودودة تلك لم تدُم بين البابا وبين هنري الثامن، ففي عام 1527 ستبدأ العلاقة بالتفتُّت شيئاً فشيئاً.
بعدما تسلم هنري مقاليد الحكم عام 1509 عندما كان عمره 17 عاماً، تزوّج بعدها بـ6 أسابيع فقد كاثرين أرملة أخيه آرثر، وابنة ملك وملكة إسبانيا، فيرديناند وإيزابيلا.
منذ لحظة زفافه، كان هنري الثامن -كغيره من الملوك- مولعاً باستمرار سلالته. إلا أنّ الطفل الوحيد الذي ظل على قيد الحياة من زوجته كاثرين -وبعد محاولاتٍ عديدة من الحمل والولادة- كانت ابنتهما ماري، التي ولدت في شهر فبراير/شباط 1516.
ظلّت كاثرين إلى جانب هنري طيلة 23 عاماً، ويعتبرها البعض المرأة الوحيدة التي وقع في غرامها. فقد كانت زوجةً مثاليةً في جميع نواحي الحياة بخلاف ناحيةٍ واحدة: فشلها في منحه وريثاً.
في تلك الأثناء أقام هنري علاقة غرامية عابرة وخارج إطار الزواج مع إحدى وصيفات كاثرين. وفي عام 1515، نُقلت الوصيفة سراً إلى ريف إيسيكس حيث أنجبت هنري فيتزوري، وهو الابن الوحيد غير الشرعي الذي اعترف به هنري الثامن.
لكن لم يمر وقتٌ طويل حتّى بدأ هنري يحبّ آن بولين، وهي وصيفةٌ أخرى من وصيفات الملكة كاثرين.
رفضت آن بولين أن تكون مجرّد عشيقة للملك، وهكذا، طلب هنري الثامن عام 1527 موافقة البابا على إبطال زواجه من كاثرين محتجاً بأنّ زواجه من كاثرين باطل، لأنّ زواجها من أخيه آرثر كان زواجاً كاملاً (أي مارسا الحبّ)، لكن كاثرين أصرت على إنكار ذلك.
رفض البابا طلب هنري بالموافقة على تطليق كاثرين. للأمر بعدٌ سياسي طبعاً، ففي هذه الأثناء اجتاحت جيوش شارلكان -إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة- روما، ليهرب البابا من نفقٍ سريّ إلى قلعة سانت أنجلو الإيطالية.
كان شارلكان أحد أقرباء كاثرين زوجة هنري الثامن، وكانت موافقة البابا على الطلاق ستعطي شارلكان سبباً آخر يستغله ضد البابا.
لكنّ هنري لم يكن صبوراً، فبعد فشل المفاوضات التي قام بها وزيره مع البابا، طلّق الملك كاثرين معارضاً إرادة البابا، رأس الكنيسة الكاثوليكيّة. ورداً على موقف هنري الثامن قرّر البابا كليمنت السابع توقيع قرار “الحرمان الكنسي” على ملك إنجلترا، وقد تعمّقت بذلك القطيعة بين إنجلترا وروما وكنيستها الكاثوليكية.
وفي عام 1534 مرّر البرلمان الإنجليزي قراراً يجعل الملك هنري الثامن على رأس كنيسة إنجلترا الأنجليكية. وهكذا أمر الملك بمصادرة كلّ أملاك الأديرة والممتلكات الكاثوليكية في إنجلترا -والتي كانت تبلغ خمس أراضي إنجلترا- وأعاد توسيعها على حاشيته.
وهكذا، انقلب “المدافع عن الإيمان” إلى أحد الأشخاص الذين سيسرّعون وتيرة “الإصلاح الديني” في بريطانيا.
نال هنري الثامن ملك إنجلترا ما أراده في النهاية، فقد طلّق كاثرين وتزوّج آن بولين عام 1533. وقد توفيت كاثرين عام 1536 في قلعة كامبلتون حاملةً لقب “أميرة” وليس “ملكة”.
آن بولين.. قصة عشق تنتهي بالإعدام!
قضت آن بولين وأختها ماري جزءاً من طفولتهما في البلاط الفرنسي. ثم عادت ماري إلى إنجلترا في عام 1520 تقريباً، وحظيت بعلاقة غرامية عابرة مع هنري.
صار هنري متيماً بها، لكنها رفضت عرض الملك أن تصبح عشيقته، وطلبت منه أن تكون زوجته الملكة. بعدما رفض البابا إصدار مرسوم بالطلاق، قرّر هنري الثامن قطع ارتباطه بالبابا وفصل كنيسة إنجلترا عن تبعيتها للبابا، وهكذا كانت قصة الحب تلك سبباً في تغيير التاريخ في إنجلترا.
كان أحد أسباب تسرُّع هنري الثامن بالانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية هو علمه بحمل آن بولين، فأراد أن تكون زوجته الشرعية حتّى يكون ابنها ملكاً شرعياً. تزوج هنري آن بولين في شهر يناير/كانون الثاني 1533، لكنّها أنجبت طفلتهما الأولى إليزابيث، في سبتمبر/أيلول من العام نفسه.
تمسك هنري بالأمل في أن تمنحه آن بولين وريثاً ذكراً، لكنّها بعد سلسلةٍ من حالات الولادة التي يموتُ فيها الجنين لم تمنحه وريثاً ذكراً، وفقد هنري الثامن اهتمامه بمعشوقته التي فكّ ارتباط دولته بالبابا بسببها.
كان لهنري الثامن كعادته علاقات عابرة مع عشيقات أخريات، حاولت آن بولين أن تطرد إحدى عشيقاته، وبعد سلسلةٍ من التوترات بينها وبين هنري اتهمها الملك بالزنا والخيانة، وتمكن من إبطال الزواج عبر إعدامها!
أُعدمت آن بولين عام 1536 عقاباً على التهم الموجهة إليها من قبل الملك، والذي أنهى زواجه بها قبل يومين فقط من إعدامها، لتنتهي بذلك إحدى أعجب قصص الحب في التاريخ. وبالطبع يعتقد مؤرخون كثيرون أن هنري لفق تلك التهم لآن بولين.
هوس الابن الذّكر.. زوجات هنري الأخريات!
كان هنري الثامن مهووساً بإنجاب وريث ذكر، كما كان مهووساً بعلاقاته المتعددة كذلك، وغير معروف ما إذا كان هوسه بإنجاب وريث ذكر هو السبب في هوسه بعلاقاتٍ متعددة مع النساء.
فبعد أيامٍ قليلة من إعدام معشوقته وزوجته السابقة آن بولين تزوّج هنري الثامن للمرة الثالثة -فضلاً عن العشيقات- وكانت زوجته هذه المرة جين سيمور، وهي إحدى وصيفات زوجته الأولى كاثرين وزوجته الثانية آن بولين.
كانت جين من بنات عمومة آن بولين، ويبدو أنّ اهتمام هنري الثامن بجين قد ظهر لبولين في أواخر أيامها، وفي عام 1537، أنجبت جين إدوارد السادس، وريث عرش هنري الثامن ملك إنجلترا، لكنّ جين ماتت بعد ذلك بأسابيع نتيجة لمضاعفات في الولادة. وبناءً على رغبة الملك، دُفنت جين في كنيسة سانت جورج إلى جانبه.
هل تتوقّف رغبة الملك في علاقاتٍ عديدة وعشيقاتٍ جُدد بعدما أنجب وريثاً ذكراً؟ لا. ولكنّه ظلّ أعزب طيلة عامين بعد وفاة جين، حتّى تزوّج زواجاً مصلحياً سريعاً من أخت دوق كليفز في ألمانيا، واسامها آن.
عندما وصلت آن إلى إنجلترا عام 1540 لم يعجب هنري شكلها، حاول إيقاف الزواج، لكن الترتيبات كانت قد قطعت شوطاً كبيراً وتزوجا. بعد 6 أشهر فقط من زواجهما وافقت آن على الطلاق مقابل تسويةٍ سخية، وعاشت بقية حياتها بصفة “أخت الملك”.
في نفس العام، تزوّج هنري من كاثرين هاورد، وهي إحدى وصيفات زوجته السابقة. كانت كاثرين في التاسعة عشرة فقط من عمرها حين تزوجها هنري الثامن وكان هو في التاسعة والأربعين.
يقال إنّ هنري أحبّ آن وغمرها بالهدايا الكثيرة، إلا أنّه بعد أقل من عامٍ واحد على زواجهما انتشرت الشائعات بخيانتها، وأعدمت كاثرين بتهمة الزنا والخيانة عام 1542.
لكنّ حظّ هنري كان جميلاً أيضاً في آخر حياته، فقد تزوج للمرة السادسة من كاثرين بار، عام 1543.
كانت كاثرين امرأة متعلمة وذكيّة، وقد استطاعت تجنُّب مصير زوجاته السابقات، وجلبت السلام والاستقرار إلى البلاط، بينما في الوقت نفسه أدت دور زوجة الأب العطوفة الحانية لأبناء هنري الآخرين. وقد أقنعت هنري الثامن بإعادة ابنتيه ماري وإليزابيث إلى ترتيبهما في خلافته، ومارست دور الوصية أثناء غياب هنري في الحرب مع فرنسا.
توفي هنري الثامن عام 1547، وقد لحقته كاثرين عام 1548. وقد تولى ابنه الشرعي الوحيد إدوارد السادس الحكم من بعده، وكان في التاسعة فقط من عمره. وقد توفي وعمره 15 عاماً لتخلفه أخته ماري الأولى من زوجة هنري الأولى “كاثرين الإسبانية”، وقد حكمت طيلة 5 سنوات، ثمّ خلفتها أختها غير الشقيقة إليزابيث الأولى، والتي أمّها هي آن بولين.
وقد حكمت إليزابيث طيلة 45 عاماً، واشتهر عهدها بالازدهار والاستقرار، وقد كانت آخر ملوك عائلة تيودور الحاكمة.