اصلاح ديني

لماذا فشلت حركة الإصلاح الديني في العالم العربي؟

تكاثرت الدعوات في السنوات الثلاث الفائتة لإصلاح الخطاب الديني في المنطقة، بعضها كان أكثر جرأة، ودعا لإطلاق حركة إصلاح ديني شاملة، وعدم الاكتفاء بمعالجة نص هنا أو إعادة صياغة وتفسير نص هناك، ولم تبق عاصمة عربية واحدة من دون أن تشهد شكلاً من أشكال هذا الجدل، وإن بحدود متفاوتة تبعاً لاختلاف السياق السياسي والأمني والتاريخي والثقافي لكل منها.

لكن هذه الدعوات ظلت في مجملها بمثابة “صرخة في واد سحيق”، إذ حتى في البلدان التي شهدت أجرأ الدعوات للإصلاح الديني، ومن على أرفع المنابر والمواقع الرسمية (مصر مثلاً)، لم نر حركة مراجعة وتصحيح للتراث الديني، واستنكفت أهم مرجعية دينية في العالم الإسلامي، الأزهر الشريف، عن القيام بدور ريادي على هذا المسار، وظلت محاولات إطلاق مشروعٍ لـ “الإصلاح الديني” مقتصرة على جهود فردية متفرقة، غالباً ما كانت تُعرّض أصحابها للضيق الشديد، ومن قبل أطراف متعددة، بمن فيها السلطات والمؤسسات الدينية الرسمية التي لا تكف عن الدعوة لإصلاح الخطاب الديني(؟!).

ثمة تفسيرات عديدة لقصور حركة الإصلاح الديني في العالم العربي، والإسلامي عموماً، بعضهم أرجع السبب إلى إغلاق باب “الاجتهاد” عند “أهل السنة والجماعة” الذين يشكلون السواد الأعظم من جموع المسلمين في العالم، بخلاف أتباع “آل البيت” الذين أبقوا على هذا الباب مفتوحاً إلى حد كبير … بعضهم الآخر، عزا السبب إلى تفشي ظاهرة الاستبداد في هذه الدول والمجتمعات، برغم عواصف “الربيع العربي” وثوراته المتتالية … بعضهم توقف عند ظاهرة انتشار “المد السلفي” في المجتمعات العربية، كنتيجة لموجات متعاقبة من عمليات “الأسلمة” التي تعرضت لها هذه المجتمعات منذ مختتم سبعينيات القرن الفائت، الأمر الذي جعل مهمة “الإصلاح الديني” ضرباً من المجازفة المكلفة على أصحابها، أياً كانت صفاتهم ومواقعهم.

لكن البحوث والدراسات التي تناولت أسباب الفشل في إطلاق مشروع شامل لـ”الإصلاح الديني”، لم تتوقف مطولاً عند سبب آخر يتقاطع مع الأسباب الأخرى، وإن كنا نعتبره جوهرياً في تشكيل الفشل وتكريسه، وأعني به سعي العديد من الأنظمة والحكومات العربية، للبحث عن “شرعية دينية” تعوض بها افتقارها لـ “الشرعية الديموقراطية”، “شرعية صناديق الاقتراع”، الأمر الذي فرض قيوداً صارمة على هذه الحكومات والمؤسسات الدينية التابعة لها، وقلّص من قدرتها على القيام بالدور المطلوب منها في قيادة هذه المهمة ودعمها.

لقد رأينا حكومات عربية “تتستر” بالدين والدفاع عنه، وتنافس حركات الإسلام السياسي والعنيف على احتكار تمثيل “الإسلام الصحيح”، واعتبار ذلك مبرراً لوجودها ومصدراً لشرعيتها، ورأينا أنظمة أخرى تتسابق في ما بينها في ادعاء “خدمة الأماكن المقدسة”، وثالثة تحتكر الفضاء الديني وتسبغ على نفسها صفة المرجعيتين الدينية والسياسية في البلاد.  في مثل هذه الظروف، لم يكن منتظراً أن تقوم هذه الحكومات والمؤسسات الدينية التي تتبعها، والتي تحولت إلى “أذرع أيديولوجية” للحكم والحكومات، بمهمة إصلاح الخطاب الديني والتصدي للأسس الفكرية والعقائدية لحركات التطرف الإسلامي العنيف التي انتشرت في المنطقة كـ “النبت الشيطاني” في السنوات الماضية.

رأينا مقاربات دينية تسعى في تبرئة الإسلام من أوزار ما تقوم به الجماعات الدينية المتطرفة، والتأكيد على أنها ليست من الإسلام في شيء، في حين لا يحتاج المرء لكثير عناء، ليكتشف أن هذه الحركات أسست لخطابها التكفيري، مستندة إلى موروث ضارب في جذور الخطاب والتجارب الإسلامية التاريخية المتعاقبة. لقد ارتأت المؤسسة الدينية الرسمية سلوك الطريق الأسهل في التعامل مع هذه الحركات بالتأكيد مراراً وتكرراً على أنها “ليست من الإسلام”، ولم تكلف نفسها عناء البحث والتنقيب في التراث والموروث، لتجفيف المنابع الفكرية والاعتقادية لهذه الظاهرة.

سبب ذلك، أن المؤسسات الدينية الرسمية تعتمد على الموروث ذاته، في تفسير وتبرير ظواهر الاستبداد، فهي التي طالما عملت على “شرعنة” ثالوث التمديد والتجديد والتوريث، غير المقدس، الذي هيمن على الحياة السياسية العربية طوال عشرياتٍ خمس من السنين، وهي التي قاومت محاولات الإصلاحيين والتنويريين العرب لتعبيد طريق الإصلاح الشامل سياسياً ودينياً وثقافياً واجتماعياً، وهي التي نهلت من “النص” و”التراث” كل ما يمكن أن يكون سلاحاً في مواجهة رياح التغيير والانتقال في العالم العربي.

خلاصة القول، أن معظم ـ إن لم نقل جميع ـ الأنظمة والحكومات العربية، عمدت إلى مقارعة حركات الإسلام والعنيف، من على ملاعب هذه الحركات، ولم تتقدم أي من هذه الحكومات خطوات جدية للأمام على طريق بناء “دولة المواطنة المدنية الحديثة”، لم يعمل أي منها وفقاً لمبدأ “حياد الدولة” وبقائها على مسافة واحدة من جميع مواطنيها بصرف النظر عن دياناتهم ومذاهبهم واعتقاداتهم، لم تسجل أي دولة خطوات جدية على طريق الفصل بين فضائي السياسة والدين، فكانت النتيجة أن القراءات الأكثر تطرفاً للإسلام، كانت لها اليد العليا، وكانت الأقوى والأفعل على هذه الملاعب، سيما بعد تهاوي المكانة الاجتماعية والنفوذ الجماهيري لمؤسسات الوعظ والإرشاد الرسمية، وتحول أئمة هذه المؤسسات إلى “فقهاء السلاطين”.

لن يكتب لحركة الإصلاح الديني في المنطقة العربية النجاح والتقدم في مسعاها، ما لم تشهد هذه المنطقة حركة إصلاح وتحديث سياسية واجتماعية وثقافية شاملة، وإلا تحوّل دعاة الإصلاح والتجديد للخطاب الديني إلى “مغامرين” و”ضحايا”، والإصلاح الديني في منطقتنا مرتبط أشد الارتباط بحركة الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي التي تضع في صدارة أولوياتها، بناء نظم سياسية مفتوحة، تعيد الاعتبار للحرية والتعددية الفكرية والدينية كقيم مؤسسة لمنظومة حقوق الإنسان، وتعمل على تفعيل مبدأ سيادة القانون، في دولة مدنية ديمقراطية، تفصل بين فضائي السياسة والدين، وهذه المهمة التي ظننا مع اندلاع ثورات الربيع العربي، أنها “يسيرة” بعض الشيء، تبدو اليوم أشد تعقيداً وأكثر صعوبة، في ظل النجاحات التي حققها نظم الاستبداد و”دوله العميقة” و”الثورات المضادة” التي شهدتها أكثر من دول ومجتمع عربيين.

لعريب الرنتاوي

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate