ثقافة

ورقة عن إشكاليات الحداثة والمشروع الثقافي الحداثي العربي

سعد محمد رحيم

.الأسئلة هي نقاط ٍٍدلالة.. هي مشارط تشريح.. هي عوامل خلخلة، واعادة تنظيم، واعادة بناء.. والحداثة تبدأ مع طرح الأسئلة وتبقى محافظة على حيويتها بذلك. ان إنتاج السؤال يعني نسف المقولب والراسخ والأكيد ليعيد كل شيء إنتاج ذاته من جديد، أو يعاد إنتاجه من قبل الوعي من جديد، فالحداثة تشتغل في مصنع الأسئلة.. السؤال هو محركها و شرط وجودها.. فالحداثة هي حداثة السؤال.. جرأة السؤال.. مديات السؤال. وكل ثقافة تكف عن طرح الأسئلة على نفسها و على الآخر، تموت. 
ثمة أسئلة تحرِّض..ثمة أسئلة تشكك.. ثمة أسئلة تراوغ..ثمة أسئلة تشاكس.. ثمة أسئلة تدين.. ثمة أسئلة تحفز أسئلة أخرى.. ثمة أسئلة تتضمن إجاباتها في ما وراء بنيتها السطحية.. ثمة منظومة من أسئلة تعزز منظومة من مفاهيم و أفكار و علاقات.. أقصد/ نظرية. 
السؤال هو وسيلة إنتاج المشروع الفكري والحضاري، و منجزات الحضارة ما هي الا إجابات كبرى عن أسئلة العقل و التاريخ. و الحضارات تراجعت يوم توقفت عن طرح الأسئلة، أو راحت تقمع الأسئلة أو تموهها أو تتجاهلها، فمع قمع السؤال يكبح التطور ويشوه ويضلل.وتاريخ العبودية هو تاريخ قمع الأسئلة. 
أن الخوف من الأسئلة يعلن عن هشاشة الموقف و ركود الذهن و ضعف الثقة بالنفس. والسؤال دال على شخصية العقل وحيويته ومدياته و غاياته و حريته و عمقه. ولا يمكن لشبكة متوالدة من الأسئلة أن تكون خاطئة … ان المسار الحر للأسئلة تصحح نفسها بنفسها، والوصول الى الإجابة / الحقيقة لا يحصل الا بعد اجتياز وعورة الأسئلة. 
ينفتح الخطاب على الخطابات الأخرى ( السابقة و المجاورة و اللاحقة ) بالأسئلة.. الأسئلة المكشوفة.. الأسئلة السرية.. الأسئلة التي قيلت، والأسئلة التي تم السكوت عنها. والخطاب الذي يعرض نفسه للقراءة يفجر إمكانات الأسئلة. 
الخطاب الملغوم بالأسئلة لايمكن ابداً أن يكون خطاب تواطؤ. 

-2-

سؤال الحداثة بدءاً هو سؤال الحرية، ولذا فهو مفتاح أفق آخر.. انه قد لا ينطلق من افتراض وجود حساسية مغايرة و فكرة مختلفة، وانما يقصد ايجاد مثل هذه الحساسية، وطرح مثل هذا الفكر، فهو يتحسس شروط الولادة الناضجة، أو الممكن إنضاجها – ويقوم بدور القابلة.. فهو إذاً سؤال المستقبل أيضا. 
تبدأ الحداثة مع الوعي النقدي.. أي مع القدرة على صياغة السؤال، والجرأة في طرحه، والسؤال في هذه الحال، يكون شيئا حيا، نافذا، وفاعلا، له قابلية التوليد الذاتي و الإخصاب، و يعمل كمعيار، وكمراقب. 
والآن عن أية حداثة نتكلم؟ عن حداثة الموضة أم الإزاحة الكبيرة أم الهزة العنيفة المدمرة التي تترك العالم أنقاضا و تتطلب البديل؟ (2) هل الحداثة بديل؟ أم هي تعويض عن غياب البديل ولماذا البديل أصلا؟ هل الحداثة نزوع الى التمرد؟ التمرد على أي الأشياء؟ على الموروث أم على الراهن أم على كليهما معا؟ هل الحداثة مقولة الحرية، ام هي نتاج سلطة الضرورة؟ هل هي شروع واع محدد الوسائل والممكنات مع وضوح الغاية، أم هي الدخول في حقل الاحتمالات مع ما يخبأه هذا الحقل من الغام ومتاهات ومفاجآت وأباطيل و وعود و رهانات ؟ 
ماذا نفهم من الحداثة؟ أهي حداثة الآخر؟ سلطة ثقافته المتغلغلة بين تلافيف فكرنا؟ أم هي حداثتنا المعلّمة بعد استيعاب حداثة الآخر؟ أين يحدث الاتصال ولماذا و كيف و متى؟و أين يحدث الانفصال؟ و لماذا وكيف و متى؟ و في عالم متشابك متخم بالتناقضات و ا لصراعات كيف يمكن ان نواجه الذات من دون أن نسأل عن الآخر؟ 
كيف يمكن أن نتعرف على الذات من غير ان نتعرف على الآخر؟ 
هل استطعنا أن نحدد عتبة تحولنا نحو النهضة / الحداثة مع تأشير الترسيمة المعرفية الجديدة التي تختلف عن أو تعاكس او تتجاوز الترسيمة المعرفية القديمة؟ وقبل ذلك أين يمكننا أن نؤشر عتبة الحداثة الغربية؟ عند عصر النهضة بعد القرون الوسطى أم مع الإصلاح الديني في القرن السادس عشر أم مع عصر الأنوار في القرنين السابع عشر والثامن عشر أم مع الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر أم مع عصر الصدمة التي أصابت العقل والضمير الغربيين في الحرب الكونية الأولى في العقد الثاني من القرن الماضي؟ لنتساءل بالمقابل، اين يمكن تأشير عتبة حداثتنا؟ أ مع دخول نابليون مصر أواخر القرن الثامن عشر، ام مع عهد محمد علي باشا الذي حكم مصر في العقود الأولى من القرن التاسع عشر ,ام مع عودة رواد الفكر الأوائل الذين درسوا في الغرب في القرن التاسع عشر. ام مع صدمة الاستعمار في العقود الأولى من القرن العشرين أم مع عهد الاستقلال الذي بقي مبتورا في أغلب بلداننا العربية بعد الحرب العالمية الثانية؟ 

-3-
هل الحداثة نظرية / أيديولوجيا/ نسق فكري منظم؟ ام هي منهج ( او مجموعة مناهج ) فكري وحضاري و جملة شروط موضوعية تفرض نمطاً مغايراً من الإنتاج الثقافي / المعرفي وتتطلب أشكالا مؤسساتية منظمة علميا وتقنيا بإدارة كفوءة فعالة وآليات عمل متكاملة دينامية. وجغرافية علاقات فنية وإنتاجية و اجتماعية متوافقة مع روح العصر، والمستقبل؟ 
أين تبدأ ثورة الحداثة؟ في المجتمع والاقتصاد وتفاعلاتهما وتحولاتهما وانعكاساتهما، أم في الثقافة؟ وفي الثقافة أين تبدأ؟ في الخطاب الشعري والسردي ام في الخطاب المعرفي / الفلسفي؟ أم في حقل اللغة؟ في تحرير اللغة وتفجيرها وزعزعة قوالبها البلاغية العتيقة؟ أ هنا تبدأ الحداثة أم في الرؤى ولأفكار؟ أم في هذه الأشياء كلها في آن معا؟ أهي حداثة لغة الأدب وتقنيات الفن ومناهج الفلسفة والعلم، أم هي تحديث للعقلية اولا ومواجهة التابوات / المحظورات والمؤسسات التي تنتمي لأنماط متخلفة من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية؟ ألا تحتاج هذه الحداثة الى المؤسسة الضد التي ينبغي أن تواجه المؤسسات العريقة السائدة؟ 
هل الحداثة خيار فكري أم خيار سياسي؟ و ان كان خيارا سياسيا هل هي خيار انتلجنسيا الحداثة أم خيار مؤسسة ما، أم هي خيار الآخر / الٌمصِّدر لحداثة العصر / الغرب؟ 

-4- 
من غير نضج الشروط الاجتماعية – التاريخية، ومن غير التطور الملائم لقوى الإنتاج التي تنهض بمشروع الحداثة، ومن غير صعود القوى الاجتماعية التي تتبنى تاريخيا هذا المشروع هل يمكن التحدث عن ثقافة حداثية. أو بصيغة أخرى، هل بإمكان الحداثة الثقافية أن تسبق الحداثة الاجتماعية والمؤسساتية والاقتصادية؟ الىأي مدى يفرض إطارنا التاريخي الراهن مسألة الحداثة وكيف يؤشر أبعادها ويمهد أرضيتها ويفرض شكلها؟ هل نبغي حداثة انقطاع مع الواقع /المرجع ومع الوجود /التاريخ ام بمقدورنا ان نخلق تمفصلا حيويا معهما؟ هل ننسف مع الحداثة موروثنا العميق والعريض كله؟ هل نحرق باسمها آلاف المخطوطات، ونحطم عشرات الاف اللقى الاثرية وندفع الى بحر الظلمات جهود أسلافنا في حقول المعرفة والفن والعلم الأبداع. ألا يعني هذا موتنا الحضاري والثقافي؟ ما المطلوب حقا؟ اعادة قراءة لتراثنا ام قراءة مستمرة لنتاج فكر الغرب و مواكبته؟ ام قراءتهما معا بإيجاد طريقة أو طرق اخرى اكثر حيوية وجدوى في عملية القراءة؟ الم نغامر بدءاً بولوج منطقة الحداثة تحت تأثير قراءتنا لمنتجات ا لحداثة الغربية؟ هل قرأنا نتاجات الحداثة حقا؟ أي هل مارسنا فعل قراءة عميقة لهذه النتاجات؟هل كانت قراءتنا علمية ودقيقة وفعالة؟ هل فهمنا و تمثلنا وتفاعلنا مع هذه النتاجات؟ وما أنتجناه نحن تحت هذه اليافطة العتيدة المسماة بالحداثة هل أفرز مميزات خاصة بنا؟ هل حدد اتجاها؟ هل بنى ما هو مختلف و متجاوز و مؤثر؟أو على الأقل هل هيأ أرضية خصبة مولدة و منتجة لما هو مختلف و متجاوز ومؤثر؟ أبا مكاننا بعد القراءة أن يكون لنا تمثيلنا الخاص بنا لمجمل الحداثة الغربية استيعابا واعادة انتاج و معرفة.. أي إعادة انتاج الغرب من خلال المعرفة وتجسيده اخراً في مشروع حداثي عربي / ند ومقابل؟ ا أيمكن ان نبدع تمثيلنا الخاص للغرب في مشروع ثقافي خاص مع تمثيلنا لأنفسنا؟اولسنا حتى هذه اللحظة ننتج معرفتنا بأنفسنا تحت تأثير وسطوة و سيطرة وسلطة معرفة الغرب بنا؟ هل الحداثة مشكلة نص أدبي وكاتب يحاول إبداع هذا النص – والقول يشمل أشكال الفنون كلها-ام هي أطروحة تاريخ، ومشروع حياة ومقترح حضارة؟ 
هل بالمستطاع إكساب الحداثة معنى شفافاً وحقيقياً و منسجماً مع سياقنا التاريخي /الحضاري، وشروط ومعطيات وضعنا في العالم المعاصر؟ 

-5-

اذا لم يكن بإمكان الحداثة ولا برغبتها استعارة المعايير التي تسترشد بها من عصر آخر لأنها ملزمة باستخراج معياريتها من ذاتها.. بحسب ها برماس الذي يتحدث بطبيعة الحال عن الحداثة الغربية و يستلهم هيجل الذي معه كان على الحداثة، عبر النقد الذاتي ان تجد ضماناتها الخاصة 3 . فان من حقنا أن نتساءل في ما إذا كانت حداثتنا قد أفرزت واستخرجت وحددت معاييرها من ذاتها و كونت آليات النقد الذاتي التي تمنحها الضمانة والقوة والمشروعية التاريخية؟ 
أ نبقى نستقبل منتجات حداثة الآخر من غير معايير نمتلكها أم علينا امتلاك معاييرنا لنستوعب الحداثة الهابة باتجاهنا؟ حسنا أية معايير؟ من أين نأتي بها؟ أمن الماضي؟ أ أتصمد معايير ماضينا أمام العاصفة؟ أ نشكل معاييرنا في الحاضر؟كيف؟ أنتمثل روح الماضي وضرورات الحاضر؟وماذا بشأن المستقبل؟وعالم اليوم معني بالمستقبل اكثر من أي وقت مضى مذ وجد الإنسان على ظهر الكوكب.. هل سيقدم لنا المستقبل العون؟ ولكن أنعرف شيئا عن مستقبلنا.. هل باستطاعتنا استقراؤه و تحديد احتمالاته واتجاهاته؟ 
أين تكمن أزمة حداثتنا الثقافية؟ أ في عسر إنتاج النص / الخطاب الذي يسبغ القوة والضمانة والمشروعية على الثقافة، ام في تصلب و إخفاق المؤسسات المتبنية لمشروع الحداثة – افتراضا- أم في عدم تهيؤ الشروط الاجتماعية – التاريخية الممهدة لانتاج النص – الخطاب الحداثي؟ أليس المعقول هو ان النص الحداثي لا ينتجه الا عقل حداثي وشخصية حداثية، وفي سياقه المعرفي الثقافي والتاريخي الملائم و الصحيح؟ بحيث لا تكون الحداثة نسيانا لما مضى وتنكرا للتاريخ.. لأنها، ببساطة نتاج تاريخ، على الرغم من ان النص الحداثي هو بالضرورة وليد ترسيمة معرفية جديدة أي انه لا ينمو الا على عتبة مغايرة؟ وإذا كان من المؤكد ان انقطاعنا عن الماضي لن يدخلنا جنة الحداثة وانما يسلمنا للتيه، فكيف يمكن مع ترسيمة معرفية جديدة إدامة صلتنا مع شخصيتنا الحضارية؟ بالمقابل هل يمكننا التحدث عن حداثة خاصة بنا مقطوعة عن مرجعيتها الغربية؟ إنها لمفارقة تاريخية معقدة ان ندخل عصر الحداثة ونحاول انتاج خطاب ثقافي حداثي في الوقت الذي نجد أنفسنا مرغمين في حالة صراع حضاري مع منتج هذه الحداثة.. أقصد الغرب الرأسمالي. 
ثم هل بالمستطاع استيراد تكنولوجيا الحداثة ومنجزاتها المادية، و تجنب التحولات التي يمكن ان تطرأ على بنى المجتمع وسلاسل قيمه ومؤسساته وعقليات أفراده؟ وإذا كانت هذه التحولات أمرا محتما فكيف يتأتى لنا التحكم بهذه التحولات لجعلها في المسار الإيجابي الصحيح؟ وكيف يمكن درء مخاطر الغزو الثقافي والإصابة بالتشوهات التي يمكن لمثل هذا الغزو ان يحدثها في الوقت الذي علينا فيه أن نخوض عملية مثاقفة من خلال تفاعل ثقافي يجعلنا نتمثل خطاب الغرب الثقافي الحديث ونتجاوزه؟ و عندما نعتقد ان الحداثة محض صرعة فإننا سنبقى منقادين انقيادا سطحيا لكل ما ينتجه الغرب ويسوّقه لنا باسم ((الحداثة )) او نعتقد نحن، واهمين، بان هذا هو ((الحداثة )) بعينها. 
ما كانت الحداثة ترفا خارجيا يجوز الاستغناء عته، وليست هي قطعا وصفة دوائية تحقن حسب استشارة خبير ما، في الجسد الاجتماعي والثقافي. بل هي فاعلية ذاتية، مع الذات و في الذات، وبالتفاعل المحسوب مع الآخر حين نبتكر أسئلتنا الخاصة ونعرف اين يبدأ سؤالنا وكيف يشتغل ويتوالد ويتداخل مع أسئلة الآخر وبأية أوالية، وبأي منطق ، ولأية غاية؟ عندها لا تكون الحداثة تقليداً أعمى ولا استسلاماً وانقياداً، ولا انبهاراً خدّاعاً بل خياراً واعيا، ورهانا على ممكنات الذات والحياة والتاريخ والمستقبل. 


الهوامش

(1) استعرت اصطلاح الفلك الثقافي والأفلاك الأخرى من كتاب ( خرائط المستقبل ) لألفين تولفر. 
(2)راجع كتاب (الحداثة) الجزء الأول.. تحرير مالكولم برادبري – دار المأمون بغداد. 
(3)كتاب (القول الفلسفي للحداثة ) ها برماس ترجمة د. فاطمة الجيوشي منشورات وزارة الثقافة- سورية – ط 1 /1995.

موقع الحداثة / ايلاف .

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate