حداثة و ديمقراطية

إشكالية الفعل السياسي والحرية عند حنة أرندت

الملخص: 

يهدف هذا المقال إلى استشكال الفكر السياسي في الفلسفة المعاصرة، مع المفكرة الألمانية حنة أرندت، نظرا لأهمية طرحها في ملامسة عدة موضوعات، باتت مدار نقاش في الساحة الفكرية والسياسية اليوم، مما استدعى معه استحضار إشكالية السلطة والحرية والفضاء العمومي، وكذا إشكالية عزوف المواطنين عن الانخراط في العمل السياسي، وعجزهم عن خوض غمار التجربة السياسية.

سنحاول مقاربة فكرها كنسق فلسفي تتعاضد فيه المفاهيم السياسية، وتتخذ معاني مغايرة لما اعتدنا عليه في التقليد الفلسفي. والرهان الأساسي من البحث، هو اعتبار الحرية جوهر السياسة؛ إذ لا يمكن للحرية أن تتحقق إلا داخل المجال السياسي، بوصفه فضاء الديمقراطية والتشاور والتواصل والانفتاح على الأخر. لذلك، لم تعد السياسة تماه للعنف، كما في جل التصورات الكلاسيكية والحديثة، بل إن السياسة تتطابق مع الحرية، مما جعل منها تتحول من حرية جوانية، تأملية، ميتافيزيقية، إلى فعل وممارسة. كما سيتحول مفهوم الشر مما هو ميتافيزيقي، طبيعي، أخلاقي، إلى ما هو سياسي.

مقدمة: 

تندرج فلسفة أرندت ضمن موضوع وإشكالية الفعل السياسي، وقد جاء هذا الاهتمام باعتبار أن أزمة الأزمنة الحديثة باتت أزمة سياسية بامتياز، تجلت أساسا في عزوف الأفراد عن الممارسة السياسية، مما سيؤدي إلى وجود مجتمع عريض يحس بالعجز ويلهث وراء الاستهلاك، حيث سيتم ربط علاقة جديدة بين العالم والآخر لكن من زاوية اقتصادية لا سياسية، ليسقط الإنسان ضحية السياسة في أوروبا مطلع القرن العشرين، والنتيجة الكارثية لهذا الهروب هو تصاعد المد “التوتاليتاري” كالنظام النازي الذي خبرته وعايشته أرندت عن قرب. ولعل تنامي مثل تلك الأنظمة، كان من بين أسباب تجاهل المواطنين للمشاركة السياسة الفعالة وابتعادهم عن الانخراط فيها، حيث أصبح العالم مثل الصحراء القاحلة بفقدانه لشرطه السياسي.

لذلك رأت أرندت أن الحياة الإنسانية تفرض، بل وتستلزم وجود فضاء عمومي كحل وبديل للخروج من هذا المأزق؛ ذلك أن نسيان حقيقة السياسة ارتبط بزوال الفضاء العمومي، الذي يشكل المجال الوحيد، حيث يمكن للفعل أن يتجسد ويظهر أمام العموم، بما هو مجال التعدد والاختلاف، يضمن المساواة والحرية والتميز والاختلاف والانتماء إلى الجماعة السياسية. لقد جعلت من الفعل لبنة أساسية في بناء التصورات السياسية؛ إذ إن الفعل السياسي هو الحرية والتعدد والاختلاف والتواصل، وإتاحة الفرصة للآخر للتحاور، وهي علة لخروج الذات من عزلتها وتوحدها إلى انفتاحها على باقي الذوات، داخل الفضاء العمومي، بعيدا عن جوهر النظم الشمولية وعن نظرتها الاختزالية المهمشة للآخر وللمختلف. فما معنى الفعل السياسي؟ وما علاقته بالحرية؟ وبأيّ معنى يمكن اعتبار الحرية جوهر السياسة؟ وكيف سيتحول جوهر الحرية من الإرادة الى الفعل؟ وهل مشكلة الشر مشكلة أخلاقية متجذرة في الطبيعة الإنسانية أم إنها مسألة تافهة؟

1- السياسة كتجلي للحرية

أ- الفعل السياسي: 

كان للواقع والظروف السياسية المتأزمة التي عاصرتها أرندت، الوقع الكبير في توجيه اهتمامها صوب السياسة والفعل الإنساني والحياة النشطة داخل الفضاء العمومي، متجاوزة في ذلك حياة التأمل التي كانت تنشدها الفلسفة.

في إطار مساءلة أرندت وتحليلها للمسألة السياسية، تؤكد أن أزمة الأزمنة الحديثة هي أزمة سياسية بامتياز. هذه الأزمة التي اتضحت معالمها منذ بداية القرن، إنما هي أزمة ذات أصل وطبيعة سياسية، فتصاعد الحركات السياسية الرامية إلى الحلول محل نظام الأحزاب، وتطور الشكل التوتاليتاري الجديد لممارسة الحكم، إنما يقف خلفهم انهيار، تختلف درجة عموميته ومأساويته لكل السلطات التقليدية.لذلك قامت بمساءلة الوجود الإنساني في ظل نظام سياسي عنصري، جعل من العرق أساس التفرقة ليقوم بعملياته الإقصائية؛ وذلك من خلال استحضار تجربة اليهود في أوروبا، وهو ما قادها مبكرا إلى جر أسئلة الفلسفة على محك السياسة والراهن، الذي عبر عن نفسه في شكل تبلور نزعة إقصائية وشمولية مسيطرة على الوعي السياسي.

إن معنى السياسة حسب أرندت هو الحرية؛ إذ ترفض التصور الذي يرى أن حضور السياسة يعني غياب الحرية وتدمير لها، فهو تصور عبارة عن أحكام مسبقة، التي يتغذى عليها فهمنا لمعنى السياسة والحرية معا في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. لقد عملت على إضفاء صبغة جديدة على المفهوم السياسة، مفادها الاعتراف بأهمية الفعل السياسي، ورفعه إلى مستوى النشاط الجوهري ضمن النشاطات المؤسسة للحالة الإنسانية، حيث يغدو معها ميدان السياسة هو فضاء للفعل والحرية والتعدد؛ إذ نجدها تقول إن التعدد هو شرط كل الحياة السياسية.

إن الفعل السياسي يقتضي وجود شرطين أساسيين هما: المساواة والتمييز، مما يضفي على ميدان السياسة طابع الاختلاف والتعدد؛ إذ إن المساواة داخل المجال العمومي تستلزم وجود تكافؤ بين المواطنين الأنداد، وهو تكافؤ يقوم على حرية التمييز والحق في الاختلاف والتفرد، مما يجعل الإنسان بوصفه فاعلا سياسيا، كيانا تتجاذبه في الآن ذاته الرغبة في الانتماء إلى الجماعة السياسية، وتحقيق المساواة مع أفرادها، وكذلك الرغبة في التمييز عن هؤلاء والتعبير عن الحرية بأخذ المبادرة؛  أي فاعل قادر على أخذ المبادرة بالكلام والفعل.

نصبح مع أرندت أمام طرح جديد لسؤال السياسة؛ وذلك في ظل الأحداث ووقائع انحط وأهمل فيها الفعل السياسي، وسقط الإنسان ضحية السياسة، وأصبحنا أمام أزمة سياسية بامتياز. لذلك كان همها هو الانفصال عن كل التصورات السابقة التي قدمت عن السياسة، ولعل لهذا الأمر كثير مما يبرره؛ ومن بين تلك المبررات هو عدم اقتناعها بكل الأجوبة التي قدمها الفكر السياسي بغية فهم الفعل السياسي والواقع الذي ينتج عنه. ومن أبرز تجليات الأزمة السياسية هو تصاعد الأنظمة الشمولية.

معنى السياسة إذن هو الحرية، وهذا ما افتقده التفكير السابق، مما استدعى معه الأمر إلى إعادة طرح السؤال من جديد، وهو ما عبرت عنه أرندت بقولها هل ما زال للسياسة من معنى اليوم؟

تساءلت أرندت، عن مفهوم السياسة لتخليصه من الاستعمالات الفلسفية، وكذلك حتى من الاستغلال الإعلامي، باعتبار أن مجال السياسة هو فضاء للحوار والتحاور والتواصل، وفضاء للحرية بامتياز. كما أن مجال الفعل السياسي، يتم حصوله من خلال العلاقة وطيدة بين اللغة والفكر، أو النطق والفكر؛ فالنطق يشكل أكبر الركائز الذاتية للشرط السياسي للإنسان، كون الصمت أكبر خطر قد يؤشر على اندثار الإنسان الفاعل.

ب- الحرية جوهر الفعل السياسي: 

ترى حنة أرندت أن الحرية ليست قضية ميتافيزيقية، بقدر ما هي فعل وممارسة، فعند حديثها عن الحرية تصفها بأنها لحظات نادرة في التاريخ، وإن كان مفهومها ظل من بين أكثر المفاهيم التباسا وغموضا، ليس فقط من وجهة نظر فلسفية، بل وكذلك بإجماع جل المحتقنين لمجال التفكير في الحرية.إذ لم تكتف فقط بالدعوة إلى مراجعة ما قيل عن الحرية عبر تاريخ الفلسفة، والذي ربطها بما هو مجرد وجعلها بعيدة عن التداول وعن الفعل السياسي، بل أبت إلا أن تغير وجهة التفكير في الحرية صوب السياسة، حيث لا يمكن لأي نظرية أن تبقى متقاعسة إزاء الحرية. من هنا، لن تتردد في الإعلان عن الرد على مقاربة التراث الفلسفي؛ وذلك ليس من خلال القطع معه، بل من خلال التحاور مع التراث، بغية الكشف عن مكامن ضعفه واختلالاته وعدم دقته في تحديد بعض المفاهيم، كمفهوم الحرية؛ إذ نجدهم عملوا على بلورة تصور جواني للحرية يحيل على الذات الإنسانية، بوصفه أفقا داخليا تنكشف داخله الحرية.

أبت أرندت إلى انتزاع النظر في مفهوم الحرية، من مجال الفلسفة إلى مجال السياسة، التي تمثل في اعتقادها المجال المناسب والضروري للنظر في حقيقة وماهية هذا المفهوم، بالرغم من صعوبة هذا الأمر كما تعترف هي نفسها، لذلك يستلزم النظر في مشكلة الحرية وربطها بالسياسة والفعل السياسي؛ ذلك أن الفعل السياسي هو أداة لتفعيلها ومجال ظهورها وتجليها، فالحرية هي سبب وجود السياسة ومجال تجريبها هو الفعل.

إن استشكال مفهوم الحرية، لا ينبغي أن يتم من خلال الأفكار المجردة والمفارقة للواقع؛ لأن هذا التصور يجعل من الحرية فكرة مجردة، ويجعل الوجود عبارة عن نظرة تأملية، فمشكلة الحرية تاريخيا، هي آخر ما أصبح موضوعا للنظر الفلسفي، من الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى التي يفخر بها التاريخ، كأسئلة الوجود والعدم والروح والطبيعة والزمان والقدم…إذ لم يكن هناك أي انشغال بالحرية على مدى تاريخ الفلسفة العظيمة، من المرحلة ما قبل السقراطية حتى أفلوطين آخر الفلاسفة القدامى.هذا النسيان لماهية الحرية عبر تاريخ الأفكار، هو ما دفعها إلى البحث عن الحياة النشيطة للإنسان، والبحث عن الحرية خارج نطاق الذات والذاتية.

إن الحرية لا يمكنها أن تكون اختفاء وتواريا وتحجبا وراء عتمة الذات، بقدر ما ينبغي أن تدخل مضمار التفاعل مع العالم الخارجي؛ وذلك لأنها انكشاف لكينونة الإنسان داخل مجال الظهور أمام الآخر؛ أي داخل الفضاء العمومي والسياسي.لذلك وجب الاعتراف بأن وجود الذات منفردة يبقى غير كاف لانكشاف شخصية الإنسان، ليس فقط أمام الآخرين وفي الفضاء العمومي، بل وكذلك أمام نفسه أيضا، فملكة الفعل تفقد كل معانيها في حال غياب الآخر عن مشهد الوجود، من ثمة نجدها تصرح بأن الفعل غير ممكن في التوحد؛ إذ أن تكون منعزلا، يعني أن تكون محروما من ملكة الفعل.

تعرف أرندت الحرية داخل مجال حضور الآخر أي السياسة، وترفض كل تصور يجعل من الحرية إلغاء للآخر، أو بما هي تحرر -حرية مطلقة-، بل سعت إلى جعل من الحرية معنى وسبب وجود السياسة والفعل السياسي. يرتفع إذن تداخل الحرية والفعل إلى مستوى التماه والتطابق التام بينهما؛ إذ ترى أن الفعل إنما هو إنجاز للحرية مادامت صناعة الحدث يستلزم فاعلا حرًّا بالضرورة، فالحرية تنكشف في كل تجليات الفعل الإنساني، كون الإنسان فاعلا؛ أي بما هو كيان فريد لم ولن يتكرر في التاريخ أبدا؛ إذ يبقى الكائن الوحيد الذي تلقى هبة الحرية التي تكشف عن نفسها، من خلال الفعل الذي يصنع به العالم والفضاء العمومي الحر والمتميز بالتعددية والاختلاف.

إن السؤال الذي تنطلق منه أرندت في معالجة الحرية هو الفعل وليس الإرادة. وهذا ما يجسده قولها إن معنى السياسة هو الحرية، فالمكان الوحيد الذي تتحقق فيه السياسة هو الحرية.

2- مشكلة الشر مما هو أخلاقي إلى ما هو سياسي: 

أ- تفاهة الشر: 

يتحول تفسير الشر عند أرندت من تبرير الأخلاقي والميتافزيقي والطبيعي إلى التبرير السياسي، بوصفه عملا تافهًا عاديًا تتحمل مسؤوليته الأنظمة التوتاليتارية، وحتى الفرد نتيجة عوز الفكر.

تناولت أرندت موضوع أو فكرة تفاهة الشر من خلال محاكمة “أيخمان”. وحسب آراء المفكرين والنقاد، فقد كان كتاب “أيخمان في القدس” أول ضربة فكرية عميقة، توجه إلى السلطات الإسرائيلية من قبل أرندت المفكرة اليهودية الأصل؛ إذ تميز بعمق فلسفي في قراءة الشر وعاديته على مستوى الفرد، ولقد وصفت الشر بتلك العبارة بكونه لا يتضمن شرًّا متجذرا في ذاته، بل لتفاهته؛ ذلك أن سلطة التوتالتيارية تجعل الشخص الذي يقوم بتلك الجرائم لا يعي مسؤوليته تجاه الإنسانية، ولا يهتم بفظاعة ومأسوية تلك الجرائم، بل يعتبر أنه مجرد منفذ لأوامر إدارية، وأنه في سبيل تنفيذ تلك الأوامر مستعد لتضحية بأقرب الناس إليه، وهذا ما صرح به أيخمان أثناء التحقيق معه، بكونه مستعد بقتل والده إن تلقى أمرًا بذلك، وإن كان يريد من ذلك أن يصف نفسه بالمثالية والكمال والإخلاص توهما منه في ذلك.فأيخمان رجل عادي، ولكنه يفعل الشر إلى أقصى حد.

إن فعل الشر حسب أرندت ليس نابعا من الفرد ذاته، بل هو ناتج عن السلطة السياسية والإيديولوجية التي دمرت الأحاسيس وضمائر الأفراد، وتحولوا بذلك إلى قطيع يطيعون أوامر الزعيم أو القائد. هكذا يصبح أيخمان رجلا عاديا غير مسؤول عن فعله؛ لأنه ليس هو منبع الشر، وإنما مجرد أداة تنفيذ لأوامر الزعيم، لذلك لا غرابة في أن نجد أرندت تطلق عليه اسم الشر التافه في مقابل الشر الجذري. وفي هذا شرخ لما قدمته الفلسفة الأخلاقية بخصوص مسألة الشر؛ إذ تم قلب المعادلة من الشر الجذري المتأصل في الطبيعة البشرية، المتمثل في القيام بأفعال لا تنسجم مع القانون الأخلاقي كما نجد في فلسفة كانط، إلى تفاهة الشر أو الشر التافه، تقول أرندت: “أعتقد بكل صراحة أن الشر لم يكن راديكاليا أبدا، بل فقط شرا إلى أقصى الحدود”.

استخلصت أرندت من خلال حضورها للمحاكمة، أن الشر لا يمكن أن يكون أبدا غريزة عدوانية متأصلة في طبيعة الإنسان؛ إذ اعتبرت انه من المفروض ألا يحاكم أيخمان، لا باعتباره مجرما ارتكب جرائم بشعة ووحشية في حق اليهود، وإنما يتوجب الاعتراف أنه ليس مذنبا بقدر ذنب النظام التوتاليتاري.

إن الأنظمة الشمولية تعتمد على جيوش مجندة وعلى المخابرات السرية، تنفد كل أوامر القادة والزعماء باسم الحرب أو الطبقة، وهذا ما شكلته وضعية ايخمان، أن افتتان الزعماء بالشر والجريمة ليس بالأمر الجديد؛ إذ لطالما تبث أن الرعاع يرحبون بأعمال العنف قائلين، لئن كان ذلك جميل، فإنه بالغ القوة بالتأكيد. فأنصار التوتاليتارية يهرعون عميانا إلى العنف ليس في اتجاه العدو أو الضحية، بل يكون أيضا تجاه الآخرين من نفس الطينة.

إن الأنظمة التوتاليتارية لها القدرة الهائلة على تحويل البشر إلى منفذين للأوامر الإدارية، وكذا تجريدهم من إنسانيتهم، وهذا ما حدث مع أيخمان الذي اعتبرته منتوج رهيب للنموذج التوتاليتاري، فهو رمز الإداري التكنوقراطي الذي ارتكب أبشع الجرائم بضمير مستريح. فالشر كما تصوره أرندت لا يعبر أن الفاعل لا يكون منبع الشر بمفرده، ولكنه قد يشتغل أيضا كأداة تنفيذ؛ إذ يتحول الفرد إلى ملبّ للأوامر الإدارية بطريقة ميكانيكية وبطاعة عمياء ومطلقة. وفي هذا الإطار، قام ايخمان بتبرير أفعاله بناء على مبدأ الطاعة للأوامر كواجب أخلاقي، فقد فهم الواجب الأخلاقي كإخلاص وولاء تام للقائد، حيث بدا الشر وكأنه امتثال للقانون وليس خرقا له، فما قام به يعد من مقتضيات الواجب المهني. وهذا ما دفع بأرندت إلى نعته بتفاهة الشر.

ب- الصفح كبديل لمواجهة الشر: 

إن الشر حسب أرندت هو حالة غياب الاعتراف بالغير، وغياب الإيمان بالتشارك مع الآخر، وغياب قدرة الإنسان على الدخول في فضاء عمومي حر. وتفكيرها في الشر، هو تفكير في الفعل البشري بما هو فعل غير مشروط ومنفتح على الإمكانيات، تقول في هذا الصدد: “بالنسبة لي لا يعد الشر راديكاليا في الوقت الحالي، بل هو تطرف وليس له بعد شيطاني، إنه تحد للفكر”. يتحول تفسير الشر إذن، من التبرير الأخلاقي والميتافيزيقي إلى التبرير السياسي، ويرتبط الشر السياسي أول الأمر، بأزمة العالم الحديث التي تجسدها الأنظمة التوتاليتارية. لذلك، اتجهت أرندت صوب كل ما هو سياسي، فإذا كانت البدايات قادرة على إقناع الناس بأن الشر محايث وملازم للبشرية كشر متوارث عن الخطيئة الأولى، وإذا كانت الفلسفة مع ليبنتز قادرة على اعتبار الشر ملازما لأفضل العوالم الممكنة، وإذا كانت الفلسفة الأخلاقية الكانطية قادرة على تبرير الشر بإرجاعه إلى أصل الطبيعة البشرية كشر متجذر في الوجود البشري، وكميل مخالف للقانون، فإن أرندت لا تجد حرجا في تفسير الشر تفسيرًا سياسيًا، بوصفه عملا تافها عاديا.

لمواجهة مشكلة الشر تجعل أرندت من التفكير كأساس بموجبه يمكن مقاومة والقضاء على الشر، وهذا التفكير يتجلى داخل الفضاء العمومي. كما تقترح إمكانية الصفح كحل لمشكلة الشر؛ إذ يعتبر الصفح بحق نقيض الانتقام الذي يتحدد فعله كرد فعل ضد عثرة أصلية، من هنا وبعيدا عن التمكن من وضع حد للآثار المترتبة عن الخطأ الأول، يقوم بربط الناس بالسيرورة وترك رد الفعل المتسلسل المتسم إعماله بالضخامة، يواصل سيره بكامل الحرية… إن الصفح بعبارة أخرى، هو رد الفعل الوحيد الذي لا يقتصر على إعادة إنتاج الفعل، ولكنه يمارس فعله بطريقة جديدة ولا متوقعة وغير مشروطة بالفعل الذي أنتجها وهي التي تحرر بالتالي، الصافح والمصفوح عنه.”الصفح إذن، يمكن من الانفتاح على الآخر، ويبت قيم التسامح والتصالح، وينفي كل أشكال الانطواء والانعزال والانتقام؛ “إذ تتيح ملكة الصفح محو أفعال الماضي الذي تعلق أخطائه”.

إن إمكانية الصفح تفتح أمامنا إمكانيات عديدة لتجنب الشر، منها التقرب إلى الغير، والتحلي بالقيم الإنسانية النبيلة كالغيرية والتسامح والمصالحة داخل فضاء عمومي حر ومنفتح. تقر أرندت أنه لولا صفح الآخرين عنا الذي به نتخلص من تبعات أعمالنا، لأصبحت قدرتنا على الفعل كما لو كانت حبيسة فعل واحد يلتصق بنا إلى الأبد، ولبقينا ضحايا عواقبه وأثاره، تماما مثل ساحر مبتدئ عاجز في غياب الوصفة السحرية عن إيقاف صنيعه أو التحكم فيه، ولولا التزامنا بالوعود لكنا عاجزين عن الحفاظ على هوياتنا، ولكتب علينا أن نتيه بلا قوة ولا هدف. كل يهيم في ظلمات قلبه الوحيد ويفرق في التباسات وتناقضات هذا القلب، ظلمات لا يبددها إلا بالنور الذي ينشره حضور الآخرين في المجال العمومي، بتأكيدهم هوية الإنسان الذي يعد والإنسان الذي بوعده.

خاتمة: 

تعد حنة أرندت من أهم مفكري الفكر السياسي والفلسفي في منتصف القرن العشرين؛ فقد اهتمت بالفعل السياسي وأهميته في الفكر الإنساني؛ وذلك من خلال محاورتها ووقوفها على نصوص وتصورات وآراء فلسفية كلاسيكية وحديثة، والتي اتخذت منها مرجعية لتحديد الفكر السياسي، مبرزة في ذلك موقفها من التراث وموقف السياسة من التقاليد. فمن خلال عودتها إلى التراث الفلسفي، قدمت رؤيا جديدة ومغايرة لما نهجته الفلسفة في السابق؛ إذ قامت بثورة معرفية، رامت من خلالها زعزعت ثوابت التقليد الفلسفي، لتعلن بذلك خروجها وتخطيها للمألوف خاصة فيما يتعلق بشأن السياسي، وما يصاحبه من مفاهيم من قبيل الحرية، الفضاء العمومي، التواصل…. كما كان للظروف وللوقائع السياسية التي عاصرتها الأثر الكبير في تشكل وعيها السياسي، وإعطائها الأولوية لحياة العمل أو الحياة النشيطة في مقابل حياة التأمل.

نستخلص من فلسفة أرندت الشروط الأساسية لقراءة وضعية الإنسان الحديث، لكون فلسفتها لمست جوانب عديدة لطالما شغلت الإنسان، خاصة في فترات متأزمة مليئة بالصراعات والانتهاكات، فقد معها الإنسان حريته وقدرته على الفعل والكلام، فكان فكرها بمثابة منارة أضاءت زوايا معتمة من وجود وحياة الأفراد؛ وذلك من خلال استعادة أهمية الفعل السياسي للمواطنين، وإقرارها بضرورة وجود حياة نشيطة داخل الفضاء العمومي، المتسم بالحرية والفعل والتحاور والتعددية والاختلاف. وأيضا من خلال قدرتها الهائلة على النقد وفضح مزاعم الايديولوجية والدعاية التوتاليتارية. ومحاولاتها الجادة لاستعادة ما نسي من الإنسان وحريته. كما سعت إلى فهم العنف بشكل متعمق، منطلقة من واقعها الذي اختبرت فيه مختلف أشكال العنف، وكانت على اتصال مباشر مع أساليبه وشرعيته، فبرز نتاجها السياسي الذي ستعمل على بلورته داخل متنها الفلسفي، مما سيجعل من فكرها منارة للفلسفات اللاحقة، وللواقع الفكري والسياسي الذي نعيشه اليوم.

لأسماء لبشارة.

مؤسسة مؤمنون بلاحدود ـ موقع حزب الحداثة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate