اغتيال المرأة بين الدين والسياسة
لا أحد يستطيع تغيير التاريخ الفعلي لبدايات تقسيم الأدوار بين الرجل والمرأة، ولا أحد يعرف متى انتقلت هذه المجتمعات من مجتمعات “الأمومة” كنظرية، إلى المجتمعات الأبوية وبداية السيطرة؟ وكيف حدث ذلك؟ إلا أنّ أحدًا لا يمكنه تجاهل أثر “الضلع التي سحبها الربّ من آدم ليبني امرأة”، التي بدأت فيها ومعها سيادة الرجل، وأعلنت فيها نهاية ألوهية المرأة. وكذلك لا أحد يمكنه نكران مُسلّمة “الإنجاب”، بوصفها اختصاصًا كليًا للمرأة، ومعها بُنيتْ السلالة البشرية، وكلاهما “الضلع والرحم”، يفتحان دائرة التصادم الفكري في تحديد “التابع والمتبوع”، ويشكلان أهم حلقة راكمت المجتمعات في ظلّها طبقات فوق بعضها، من الأفكار والمعايير الثقافية القائمة على “النوع الاجتماعي” وتقسيم الأدوار. ومنذ ذلك الوقت، ما زالت الحقائق البيولوجية والفيزيولوجية تتصادم مع “الفرضيات” الاجتماعية – الدينية، في تاريخ البشرية.
الحقائق البيولوجية والفيزيولوجية
في البشرية الأولى، بالرغم من أن المرأة أسست الحقول وعملت فيها وطحنت القمح، وشاركت في العمل اليدوي الحرفي الشاق، فقد أدّت الصفات الفيزيولوجية “القوة العضلية” دورًا مهمًا في تأمين سبل العيش، وخصوصًا أن النساء احتجن إلى بعض الرعاية نتيجة ابتعادهن عن مجالات العمل فترة الحمل والولادة. كما أدّت الميّزة العضلية وظيفتها في مسائل الدفاع عن النفس والحروب وخوض المعارك، لتترك أثرها على مسألة توازن الأدوار، ثم انقلابها حين منحت المجتمعات الرجال قيمة أكثر من النساء، وترسخت هذه القيمة نتيجة حصول النساء على تعليم أقل ورعاية صحية أقلّ، وما لازم ذلك من عمليات الإقصاء عن الفرص الاقتصادية أو القوة السياسية، من دون أن تقدّم أي من الصفتين أسبابًا علمية ومنطقية لقبول ما يترتب عليها من توزيع الأدوار في تراتبيات اجتماعية.
ضمن الحقائق العلمية، لم تقرّر البيولوجيا أن هرمون “الأستروجين” أضعف وأعجز من هرمون “التستوستيرون”، وأن على من يمتلك التستوستيرون، وما ينتج عنه من مواصفات جسدية، يجب أن يصوغ أحكامًا عرفية ضد من تمتلك هرمون “الأستروجين”. ولم تقل إن “الفرد” الذي يمتلك كروموسومات من نوع (X-X) عليه أن يكون تابعًا لمن يمتلك أو يمتلكون الكروموسومات (X-Y)، وبالطريقة نفسها لم تقرر أن “الرجل” الأبيض هو “رجل” أكثر من الأسود، أو تجعل من المرأة في الشرق إمرأة أكثر أو أقل من المرأة في الغرب. وما تقدّمه الاختلافات الفيزيولوجية “الكتلة العضلية” لا يخلو من وجود شواذ، وإن مسألة الطول والحجم والكتلة العضلية لا تقرّر القوة، فهذه الصفات تختلف كثيرًا تبعًا للمجتمع الذي يعيش فيه البشر.
لم تقرّر الطبيعة البشرية البيولوجية أو الفيزيولوجية أنّ من تمتلك “رحمًا” لا يمكنها أن تكون حرّة، أو تطالب بالمساواة في حقوقها كاملة، أو بالانخراط في العمل والخدمة العسكرية، ولم تمنعها من أن تمارس دورًا سياسيًا أو تقود أمة؛ فوجود الرحم لا يجعل الشخص غير لائق، بيولوجيًا أو فيزيولوجيًا، لهذه الممارسات. وليس هناك شرط أولي فرضته الطبيعة البشرية على من يستلم منصبًا سياسيًا أو اقتصاديًا أو دينيًا؛ أن يتميز بهرمونات محددة وكروموسومات محددة، ويتميز بضخامة كتلته العضلية، ليكون حاكمًا ناجحًا أو مدير شركة أو رجل دين ولا حتى رجل مافيا أو مصارعًا. لقد منعت البيولوجيا البشر من أشياء محددة مثل التمثيل الضوئي.
لا تقوى البيولوجيا أو الفيزيولوجيا على سحق تاريخ الحضارات القديمة، في ماري وإيبلا وأوغاريت، أو تنتزع رحم زنوبيا وتسقط حكمها لدولة، وتسقط عرش أليسار الملكة السورية التي أسست قرطاجة على البحر المتوسط وطرق حفيدها هنيبعل أبواب روما الإمبراطورية التي كانت يومها تتحكم في معظم العالم القديم، فحتمية الاختلاف البيولوجي، كشأن علمي ومنطقي، لا تعني حتمية “المنع والتبعية” وتقسيم الأدوار، بأن المرأة مكانها المنزل واختصاصها تربية الأطفال والطهي، وعليها طاعة زوجها، فهي كلها لم تقررها الطبيعة البيولوجية، إن ما قررته الطبيعة البشرية هو أن النساء يمكنهن الإنجاب وأنهن أمهات البشر “فقط”.
فرضيات المجتمعات وتنظيم الشرائع
في البشرية الأولى، لم تكن الاختلافات البيولوجية أو الفيزيولوجية هي الأساس الذي بُنيتْ عليه عملية الإقصاء وتقسيم الأدوار وفرض ضرورة عدم المساواة في الحقوق، فحاجة النساء إلى المساعدة في فترة الحمل كان يمكن حلّها برعاية النساء بعضهن بعضًا. إلا أنّ التحولات ، بحسب ما يمكن استنتاجه من “قصة الحضارة”، قد بدأت مع استقرار المجموعات البشرية والحاجة إلى التناسل وإكثار الأولاد، لأجل زيادة العمال التي أسهمت في توسيع الفروض والواجبات، وأن هذه الأدوار والواجبات رُسّخت، تبعًا للوظائف الاقتصادية التي يمارسها الأفراد، لزيادة الإنتاج وفائض الإنتاج الزراعي، فالانتفاع من الزوجة هو انتفاع برأس المال، والأبناء كسب اقتصادي، يقابلون الربح في رأس المال، وتفسّر بعض المجتمعات الزواج القسري (السبي) بأن يأخذ الرجل امرأة دون رضى أهلها ليجعلها أمَة رخيصة ويستولدها.
الحلقة الاقتصادية التي شكلت بذور التبعية كان يلزم لترسيخها وتأصيلها أن يواكبها نظام علْوي “إلهي” يحتّم على الجنسين السير ضمن تلك المنظومة، وقد شكلت تلك المجتمعات أساطير الآلهة، لترسيخ وضمان تلك السيرورة. لقد كونت الآلهة في اجتماع الإله الذكر والآلهة الأنثى عالمًا مميزًا، كانعكاس للعالم الأرضي وخبراته، ففي روما كانت آلهة الخمر والسكر والغضب والحرب رجالًا: “باخوس ومارس ونبتون”، وآلهة الحكمة والخير والجمال نساءً: “منيرفا وسرس والزهرة”، وكذلك كانت انعكاسًا لتوزيع الأدوار بين الجنسين وليس تقسيمها، حيث قسمت الانتصارات والهزائم بينهما بالتساوي.
لكن نمو أفكار البشر وتطوّر سبل حياتهم أدى إلى عجز الآلهة عن الاستمرار كأنظمة اجتماعية تحكم وتتحكم في مصير البشر، دون وجود تشريعات محددة ترسّخ الأدوار وتمنع الخروج عنها، ويتولى تنفيذها وكلاء الآلهة. وظهرت العديد من التشريعات في حينها، إلا أن أهمّ التشريعات المكتوبة التي تم العثور عليها في التنقيبات الأثرية هي شريعة حمورابي (1792 – 1750 ق. م) التي ظهرت في الهلال الخصيب، وبحسب ما كتبه صموئيل كرومر، في مؤلفه (ألواح سومر)، والدراسة المقارنة (نظــام العائلة في تشريع حمورابي) للباحث والدكتور عيسى اليازجي، كانت شريعة حمورابي هي الأكمل لإنسان تلك الحضارات. حيث عملت على خلق مجتمع مستقر يسمح للبشر بالتعاون بفاعلية، وسدّ الثغرات البيولوجية بين الجنسين في مجتمعات تنوّعت فيها سبل العيش بين الصيد والرعي والزراعة، وقامت على تمكين الملكيات والحروب بين المدن. وقد غطى تشريع حمورابي والمواد القانونية “المدنية والجزائية” كل جوانب حياة البشر، ومن بينها الحق العائلي، أحكام الزواج والبائنة (المهر) والتركات والتبني (المواد من 128 إلى 191) وأحكام الطلاق والإرث.
وبالرغم من أن هذه الشريعة ترسّخت ودافعت عن نظام تراتبي أساسه الإيمان باختلاف طبيعة البشر، فهي تعدّ في مقياس عصرنا “غير عادلة”، بالنسبة إلى النساء، ولكن القوانين كافة تقاس بأزمنتها. وهذا يفترض أن تكون القوانين في أي عصر نتيجة للخبرات والتطورات، وبعيدة النظر، بحيث لا تكون قاصرة عن حلّ أي أزمة، وأن تغلق الثغرات التي يقرر الأفراد استغلالها، من أجل تثبيت وتدعيم الوضع الخاص بهم. فعلى أي زمن تقاس قوانينا؟!
اغتيال المرأة “الأم”
إن ما جرى بحثه في التاريخ -مجتمعات الآلهة والشرائع القديمة- وما أدت إليه في تنظم حياة البشر ونشر وتعزيز حالة عامة يخضع لها الأفراد من أجل أن يكونوا الكل الذي هو المجتمع، قد غلبته أسس فكرية ومعرفية مختلفة وقوانين أخرى، بدأت مع هدم “ثالوث الألوهة الأنثوية” ونفي الأساطير، لتشكل قطيعة معرفية مع أزمنة المرأة الأم، ويبني البشر بتدينهم “زمن المرأة الضلع”، ويكرّسونها عبر منظومة الثقافة المجتمعية، مع الإبقاء على هامش ضيق لقداسة الأم.
وبعيدًا عن الدخول في نصوص الأديان، فإن تنظيمها العلْوي لحياة البشر والجماعات الدينية وما يخص قضية النساء، قدّم خطين مُتكاملين لا يمكن خلق التوازن في إطار المجتمعات الدينية دونهما، فوجود المرأة كضلع “تابع” لعظم ولحم الرجل، في سفر التكوين (تك 2: 22)، كان يرافقه طاعة الرجل للمرأة مصحوبة بلعنة “وملعون من يستخفّ بأمه”، في سفر التثنية (تث 27: 16)، وإن كانت الأولى تستلزم لترسيخها وجوب تبعية وطاعة المرأة للرجل، فإن الثانية منعت وصولها نحو أن يصير “المخلوق الذكر خالقًا للمرأة”، وما قدمته المسيحية احتفظ بقدسية “عيسى ومريم” معًا، وكذلك الدين الإسلامي خاطب المؤمنون والمؤمنات، وأعطى المرأة الأم قدسية على الأبناء الذكور، وأن يكونوا أذلاء أمامها.
ولأن الأديان لا تُدرَس من زاوية ما تحتويه من نصوص فقط، بل بممارسات أفرادها أيضًا، كيف يمكن أن يجيّروا النص ويخدموه ويحملوه ما لا يحتمل؛ فإن ما حدث لاحقًا شكل خروجًا عن إرادة النص الديني، ليعزز وجودًا آخر يُمارس فيه الاستلاب للمرأة وتكريس دونيتها في كل المجالات، ورتب عليها واجبات دون الحقوق. فالعقل البشري لا يكتفي بالنص وحده، بل بما اختبره أيضًا، وما خبرته الشعوب هو وجود “رسل وحكام” ذكور. وهكذا أخذت مضامين الأديان في مسألة تقسيم الأدوار والمهام بين الجنسين، في تنظيمها للعائلة كأسس الجماعة والمجتمع، تتجه نحو فرض أحكام متماسكة من الواجبات بلا حقوق، أو بإعطاء الحدود الدنيا من الحقوق للنساء، وأسهمت في جعل النساء أقل مرتبة من الرجال، بشكل لا يقبل التعديل أو الإلغاء. وسقط رويدًا رويدًا فحوى التوازن الذي أرداته النصوص الدينية، لتترسخ مجتمعات أبوية، خرجت عن “السلام عليك يا مريم”، وعن حديث الرسول (ص)، “قل من أحقّ الناس ببري وصحابتي؟ قال (أمّك) قال ثم من؟ قال (أمك) قال ثم من قال (أمك)”. لتصير النساء ضلعًا قاصرًا، وناقصات عقل ودين، وأُلقيَت المرأة في الأسر، بدلًا من أن تكون في أسرة يتم فيها التشارك، وفُرضت عليها أحكام عرفية.
لقد سعى الفكر الذكوري التديني لاغتيال الأم، عبر تقسيم النساء أنفسهن، وخلق التمايز بينهن أولًا، فالمرأة “الابنة والزوجة” ليست مساوية بالاحترام والطاعة للأم، وهي أقلّ درجة ومرتبة من “الأم” ، ثم وضع حواجز بين النساء أنفسهن، فالمرأة بالشرق ليست مساوية، بالحقوق العامة، للمرأة في الغرب، والكارثة أن هذا الفكر لا يرضى أن يُعاد تذكيره بما ترتب من خلل في المجتمع كنتيجة لتهميش النساء، ولكن يمكنه التطرق إلى اختلاف النساء بين الشرق والغرب، والخصوصية الثقافية، وقضايا النسوية وغيرها.
وكأن التاريخ يعيد نفسه، ففي العام 1928 نشرت نظيرة زين الدين كتابها (السفور والحجاب)، ليثير عاصفة في لبنان وسورية عاصمتي الدولتين الباحثتين عن الاستقلال يومها. في حينها انخرط عدد متزايد من المثقفين في السياسة، وأصبحت المناقشات حول حقوق المرأة في “البرلمان السوري”، ووصل النقاش إلى كل الأمور التي تخص النساء، من أمور الدين إلى المجتمع وبالعكس. ثم جرى طوي الموضوع وتجاوزه.
والآن، بعد قرابة مئة عام، يجري إرضاخ وترويض النساء، ويُثار ضد قضاياهن زوابع يتردد صداها بين دائرتين سياسيتين: دائرة النظام، حيث قال الأسد في خطاب القسم إن العدو هو الليبرالية الجديدة والمنظمات “النسوية” المشبوهة! ودائرة معارضيه، كحال الشيوخ الذين فتحوا حربًا على “النسوية” واعتبروها “شيطانًا أكبر” يجول بينهم، دون أن يدركوا ما تنشده النسويات السوريات وما تقدّمه المنظمات التي يحاربونها.
خاتمة
منذ بداية البشرية إلى يومنا هذا، ما زال هناك من يطمر تاريخ النساء، ويدفن المرأة “الأم”، لتترسخ أسطورة المرأة “الضلع القاصر”، وتُقفل دائرة اغتيال النساء على استبداد واحد، يُحاك بين الدين والسياسة. وإنّ مقولة نظيرة زين الدين تنطبق على وقتنا هذا أكثر من ذلك الوقت: “إنّ الغلو في الإسناد هو وليد الباطل والتحامل والغضب وحبّ الاستبداد، وليس وليد الحقيقة والعدل والنزاهة وتحرّي المصلحة”
لهوزان خداج
مركز حرمون للدراسات المعاصرةـ موقع حزب الحداثة