الحداثة في الأدب العربي
لم يعرف الادب العربي في تاريخه الطويل قضية أثارت حولها الجدل والنقاش ، وما زالت كقضية (الحداثة) التي بدأت تثار منذ مطلع النصف الثاني من القرن الماضي.
وعلى الرغم من تقادم العهد بالحداثة، فأنه من الصعوبة ضبط مدلولات هذا اللفظ بالاعتماد على كتابات دعاته، والمعاجم العربية القديمة لا تقدم تفسيرا للحداثة إلا باعتبارها نقيضاً للقدم، وهذا ما أكده صاحب القاموس المحيط بقوله:( حدث حدوثاً وحداثةً نقيض قدم)، وربما لهذا التفسير يصر العديد من الشعراء المعاصرين على نعت شعرهم بالشعر الحديث بدلاً من الشعر المعاصر أو الشعر الجديد، وهي نعوت وإن استعملت أحياناً بمعنى الحديث إلا أنها تلاشت لمصلحة النعت الأخير .
فكان هناك إصراراً متعمداً على جعل الشعر الحديث في مواجهة مع التراث الشعري القديم ، وعلى الرغم من تطمين القارئ المحافظ بأنها نظرة جديدة للأشياء قد طرأت على واقعنا الجديد.
وربما كانت الحداثة من المشاكل الحضارية القليلة التي أيضا حدثت في الغرب منذ 1855م عندما صدر في أمريكا ديوان شعر اسمه (أوراق العشب) لشاعر اسمه (وولت وتمن)، وكان هذا الديوان يشتمل على قصائد خرجت عن قيود الوزن والقافية خروجاً تاماً، وقصائد هذا الديوان هي التي أوجدت مفهوم (الشعر الحر) لأول مرة في التاريخ الادبي بصورة رسمية، ومن أمريكا انتقلت التسمية إلى أوربا.
ومن المفهوم الحديث للشعر أصبح الشعر مخاتلة وتمرد ضد اللغة، والشعر هو بمعنى ما، جعل اللغة تقول ما لم تتعلم أن تقوله، فالحداثة في الشعر لا تمتاز بالضرورة على القدامة فيه، ولكنها تفترض بروز شخصية شعرية ذات تجربة حديثة معاصرة، وهذه التجربة فريدة تعرب عن ذاتها في المضمون والشكل معاً، وبدأت الحداثة في محاولة التمرد على أساليب القدماء، ففي عام 1949 كتبت نازك الملائكة في مقدمة ديوانها(شظايا ورماد) تحدد صلة التجديد بالحياة قائلة:(إن الشعر العربي لم يقف بعد على قدميه بعد الرقدة الطويلة التي جثمت على صدره طيلة القرون الماضية فنحن عموماً ما زلنا أسرى تسيرنا القواعد التي وضعها أسلافنا في الجاهلية وصدر الاسلام)، وتقرر نازك الملائكة أن الشاعر أو الاديب هو الذي تتطور اللغة لديه، وترى أن الشعر العربي في معظمه وقف نفسه على معالجة السلوك الخارجي للإنسان، ولهذا ابتعد عن الاتجاهات الحديثة للمدارس الأدبية والتيارات التي تستعين بعلم النفس في التعمق داخل الانسان وشق طريق المجهول، وهذا ما يدعونا إلى القول بأن الشعر لا يسعى إلى تجميع الحسن السليم المشترك بين جميع البشر؛ بل إلى التوغل في أسرار العالم الفائق الطبيعة والفائق الواقعية، وهكذا بدأنا نبحث عن القصيدة ذات الرؤيا الكونية المنفتحة الزاخرة بممكنات كثيرة بدل القصيدة المغلقة المنطوية على نفسها ذات التفسير الواحد والاتجاه الواحد.
ويرى أدونيس أن المشكلة الآن في الشعر العربي الجديد لم تعد في النزاع بينه وبين القديم، وإنما أصبحت في معرفة الحديث حقاً، والتمييز بين ابتكار النموذج وتعميم الزي( فالواقع أن في النتاج الشعري الجديد اختلاطاً وفوضى، وبين الشعراء الجدد من يجهل حتى أبسط ما يتطلبه الشعر من إدراك لأسرار اللغة والسيطرة عليها ومن لا يعرف من الشعر غير ترتيب التفاعيل في سياق ما).
والشيء المهم في الشعر هو براعة الشاعر نفسه فهي التي تفرض الشكل الخاص للقصيدة والذي يختلف من قصيدة إلى أخرى ولا يدركه الشاعر مسبقاً؛ بل أنه شكل ينمو مع المضمون في عملية الولادة الشعرية، وأن هذا الشعر الحديث يتطلب لفهمه معرفة خاصة أكثر من معرفة القراءة.
إن مفهوم الحداثة عند شعرائنا الجدد مفهوم حضاري وهو تصور جديد للكون والإنسان والمجتمع والتصور الحديث وليد ثورة العالم الحديث في مستوياتها الاجتماعية والفلسفية كافة. والشعر الحديث يقوم على الرؤيا التي تدرك إدراكاً عميقاً للصور المعقدة، وإن هذه الرؤيا هي قفزة خارج المفاهيم القائمة ، وأي تغيير في رؤية الاشياء وفي نظام النظر إليها، وهذا ما أكده الشاعر الفرنسي المعاصر رينيه شار:( الشعر الحديث يعني بالكشف عن عالم يظل أبداً في حاجة إلى الكشف) .
فالحداثة إذن ليست دعوى شبيهة بالعصرية التي تكون دعوة شكلية سطحية تتعلق بمظاهر الأشياء، فلا يكون الشاعر معاصراً بمجرد أن يصف أو يمجد، لأن الحداثة تنفي الوصف ، لأنها موقف من الكون والإنسان، ولهذا تكون الأداة الوحيدة هي الرؤيا التي تعيد صياغة العالم على نحو جديد، وهذه الرؤيا هي جوهر الشعر فالحداثة لا تكون باتباع اشكال تعبيرية معينة؛ بل باتخاذ موقف حديث تجاه الحياة ومنها تجاه القصيدة، ولكن هناك ما يسمى بأوهام الحداثة وهي أوهام تتناولها الأوساط الشعرية العربية والتي تريد أن تخرج بالحداثة عن مدارها وتشوه القيم وتفسد الرؤيا فمن أهمها:
1- الوهم الأول هو الزمنية فهناك من يميل إلى ربط الحداثة بالعصر الراهن من الوقت، ولكن الحداثة ضد الزمن كلحظة راهنة… ومعنى ذلك أن ثمة شعراً كتب في زمن ماضٍ لا يزال مع ذلك حديثاً، فالشعر لا يكتسب حداثته بالضرورة من مجرد زمنيته، وإنما الحداثة خصيصة تكمن في بنية ذاتها، إن امرأ القيس مثلاً في كثير من شعره أكثر حداثة من بعض الشعراء المحدثين.
2- الوهم الثاني: هو المغايرة يذهب أصحاب هذا القول إلى أن التغاير مع القديم موضوعات واشكالاً هو الحداثة والدليل عليها… وهذه نظرة آلية تقوم على إنتاج فكرة النقيض، فيصبح الشعر تموجاً ينفي بعضه بعضاً.
3- الوهم الثالث: ما يسمى بوهم المماثلة، فيرى بعضهم أن الغرب مصدر الحداثة اليوم بمستوياتها المادية والفكرية والفنية( ولكن الحداثة تقتضي القطيعة مع التفلسف ومع التمغرب من أجل كتابة الذات الواقعية الحية).
إذن فالحداثة العربية تنبثق من القديم العربي في الوقت نفسه وفي تعارض معه، فأن تكون شاعراً حديثاً هو أن تتلألأ كأنك لهب خارج من نار القديم… إن حداثة الشعر العربي لا يصح أن تبحث إلا استناداً إلى اللغة العربية ذاتها، وإلى شعريتها وخصائصها الايقاعية التشكيلية وإلى العالم الشعري الذي نتج عنها عبقريتها الخاصة بهذا كله.
فالخلاصة أن الحداثة انتقال نحو سمة، رؤية ما حساسية ما، تشكل ما، والابداع لا عمر له، لا يشيخ لذلك لا يقيم الشعر بحداثته ؛ بل بإبداعيتهـ إذ ليست كل حداثة إبداعاً، أما الابداع فهو أبدياً، فالحداثة قد تكون معاناة الإنسان العربي في محاولته لاستيعاب الحضارة العالمية المعاصرة دون التخلي عن جذوره، وهذه هي الحداثة التي تستمر.
لد.عارف عبد صايل
موقع جامعة الأنبار- كلية الآدابـ موقع حزب الحداثة