اصلاح ديني

شريعة الأقلية

نحن أمام مصطلحين، مصطلح الشريعة ومصطلح الأقلية، وسنقف عند مفهوم كلا المصطلحين. الشريعة: بمعنى الطريق الواضح. قال الراغب الأصفهاني: الشَّرْعُ: نهج الطّريق الواضح. يقال: شَرَعْتُ له طريقا، والشَّرْعُ: مصدر، ثم جعل اسما للطريق النّهج فقيل له: شِرْعٌ، وشَرْعٌ، وشَرِيعَةٌ، واستعير ذلك للطريقة الإلهيّة. قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً).

ويرى شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ) في تفسيره للآية 48 من سورة المائدة “وَمَعْنَى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّعَلُّقِ بِشَرَائِعِ الْأَوَّلِينَ. وَالشِّرْعَةُ وَالشَّرِيعَةُ الطَّرِيقَةُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى النَّجَاةِ. وَالشَّرِيعَةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ مِنْهُ إِلَى الْمَاءِ. وَالشَّرِيعَةُ مَا شَرَعَ اللَّهُ لِعِبَادِهِ مِنَ الدِّينِ، وَقَدْ شَرَعَ لَهُمْ يَشْرَعُ شَرْعًا أَيْ سَنَّ. وَالشَّارِعُ الطَّرِيقُ الْأَعْظَمُ. وَالشِّرْعَةُ أَيْضًا الوتر، والجمع شرع وشرع وَشِرَاعٌ جَمْعُ الْجَمْعِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، فَهُوَ مُشْتَرَكٌ. وَالْمِنْهَاجُ الطَّرِيقُ الْمُسْتَمِرُّ، وَهُوَ النَّهْجُ وَالْمَنْهَجُ، أَيِ الْبَيِّنُ”.

الشريعة إذن متعددة بتعدد المنهاج، قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48] وهي جزء من الدين وليس الدين كله، لقوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾ [الشورى: 13] فالدين هو منظومة القيم العليا التي تسع الناس جميعا، فالدين عند الله الإسلام.

فقول تعالى: “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)” [آل عمران] فالإسلام في الآية لا تعني الشريعة الإسلامية؛ لأن الشريعة مرتبطة بالمنهاج، فالتنوع من صفات المنهاج، فوفق المنهاج تعدد قراءة وفهم الشريعة. أما الإسلام، فهو قيمة عليا، تسَع كل الأديان والشرائع، فليس بالضرورة أن من لم يكن على شرعة الإسلام المتجددة المنهاج، أنه غير مسلم؛ لأن مفهوم الإسلام في القرآن يدور في مدار، السلم والسلام والأمن والأمان، فدين الحرب والعدوان غير مقبول عند الله قال تعالى: “وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)” [آل عمران] فهذه الآية لا تعني الشريعة الإسلامية وأتباعها، بل تعني قيمة عليا وهي جوهر الدين، وهي قيمة السلام، والله من أسمائه الحسنى السلام، والقرآن لا يعني أنه نص غير واقعي ولا يتوقع حدوث صدام بين مختلف الناس لسبب من الأسباب، بل على العكس من ذلك، ولهذا قال تعالى في تأكيده على دين الإسلام بمعزل عن الشريعة، تعالى: ]وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)[ [الأنفال]. وهناك أمر آخر، فالشريعة إ\ن ينبغي لها أن تستجيب لمقتضى السلام، فجميع الشرائع لمختلف المؤمنين في مختلف الديانات عليهم الدخول في دائرة السلم، ودخولهم يجعلهم مسلمين، بالرغم من تعدد شرائعهم قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)[ [البقرة] فهناك فهم شائع يحصر الإسلام في أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، بينما الإسلام قيمة مفتوحة ومستوعبة لمختلف الأديان والقيم الإنسانية الفاضلة.

الأقلية/الأقليات: مصطلح يقابله مصطلح الأكثرية، وهو غير متداول عند القدماء، المفهوم القديم الشائع للأقلية هو “أهل الذمة”. ولم يذكر في القرآن إلا مرتين. ولا يعنى الأقلية، بل يعنى لغويا من هم في ذمة المسلمين وفى رقبتهم بالرعاية والضمان والأمان، مما ينفى كل اضطهاد داخلي أو عدوان خارجي. “في العصر الحديث، حدث تطور في العالم، حيث أصبح نظام حقوق الإنسان وسيلة لعيش الأقليات بين ظهراني الأكثرية، وبخاصة في ديار الغرب التي تبنت حقوق الانسان، وكان في الأصل وسيلة للتعايش بين أتباع الكنيستين؛ البروتستانية، والكاثولوكية، إلا أنه سمح مع الزمن بوجود أقليات إفريقية وأسيوية، نشأت هذه الأقليات لأسباب شتى، أهمها العلاقة الاستعمارية التي أدت إلى نزوح عمال المستعمرات إلى البلاد المستعمرة.”

الأقلية مفهوم سياسي وإداري للتمييز بين الأقليات والأكثريات، فكل بلد تعيش فيه مجموعات متنوعة في عروقها أو أديانها أو أصولها، تعيش في بلد لم تنتم إليه إلا بطرائق استثنائية كالهجرة وما إليها، وتعتبر فيه أقلية، فتكون الكلمة مـُركبًا إضافيًا يدل على معرفة بالأحكام الشرعية المتعلقة بتلك الأقلية المسلمة التي تعيش وسط أكثرية غير مسلمة، كاﻷتراك في ألمانيا والعرب ومثلهم في أمريكا. وتعرف الموسوعة العربية العالمية الأقلية بأنها: “مجموعة من الناس تختلف في بعض سماتها عن المجموعة الرئيسة التي تشكل غالبية المجتمع؛ وتعد اللغة والمظهر والدين ونمط المعيشة والممارسات الثقافية لهذه المجموعة من أهم مظاهر الاختلاف، تهيمن الأغلبية في ظل هذه الأوضاع على السلطة السياسية والاقتصادية، مما يمكنها من ممارسة التمييز، والاضطهاد ضد الأقليات”.

وعرفت الأمم المتحدة الأقلية: الإثنية أو الدينية أو اللغوية هي أي مجموعة من الأشخاص تشكل أقل من نصف السكان في إقليم كامل من الدولة، ويتشارك أفرادها خصائص ثقافية أو دينية أو لغوية، أو مزيجًا من هذه الخصائص المختلفة. وبإمكان أي شخص أن ينتمي بحرية إلى أقلية إثنية أو دينية أو لغوية من دون أي اشتراط للمواطنة أو الإقامة أو الاعتراف الرسمي أو أي وضع آخر. مصطلح “الأقلية” في حاجة الى مراجعة لأنه ذو حمولة كمية يقسم الناس طبقا لأعداد الأفراد والفئات بين أكثرية وأقلية طبقا لمعايير بيولوجية فيزيقية مثل اللون أو العرق أو طائفية مثل الدين أو المذهب أو ثقافية مثل اللغة ومنظومة القيم.

الأقلية التي تعنينا، هي الأقلية المسلمة، ففي وعي المسلمين، إن رجعنا لأمهات الفقه والأحكام والمعاملات أي الشريعة بمختلف مذاهبها، نجد المسلمين ينظرون الى مختلف مواضيع الشريعة من زاوية أنهم يمثلون الأكثرية، وغيرهم يمثلون الأقلية أي من هم في ذمة المسلمين، من مختلف الطوائف الدينية؛ إذ يجب المسلمين حمايتهم وضمن أمنهم الروحي. في القرن العشرين وبهجرة وخاصة النصف الأخير منه، هاجر الكثير من المسلمين إلى الغرب (أوروبا- أمريكا- كندا…) ووجدت فآت من المهاجرين أنفسهم، يشكلون أقلية من سكان المجتمع المقيمين فيه أو الذي صاروا فيهم مواطنين.

(2)

وفق هذا السياق ظهر مصطلح فقه الأقليات، وقد استقر المجلس الأوروبي على استعمال هذا المصطلح؛ ففقه الأقليات هو الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام. والسؤال الذي يطرح نفسه هل هذا الفقه امتداد لفهم الفقه القديم؛ أي الفهم الموروث للشريعة؟ أم إنه فقه جديد؟ يرى عبد الله بن بية “أن إضافة الفقه إلى الأقليات لا تعني إنشاء فقه خارج الفقه الإسلامي وأدلته المعروفة، وإنما تعني: أن هذه الفئة لها أحكام خاصة بها نظرا لظروف الضرورات والحاجات كما نقول: فقه السفر…” ويرى يوسف القرضاوي “أن فقه الأقليات المنشود، لا يخرج عن كونه جزءًا من الفقه العام، ولكنه فقه له خصوصية وموضوعه ومشكلاته المتميزة، وإن لم يعرفه فقهاؤنا السابقون بعنوان يميزه؛ لأن العالم القديم لم يعرف اختلاط الأمم بعضها ببعض، وهجرة بعضها الى بعض، وتقارب الأقطار فيما بينها، حتى أصبحت كأنها بلد واحد، كما هو واقع اليوم…إن مصادر فقه الأقليات هي مصادر الفقه العام نفسها، ولكن ينبغي أن يكون لهذا الفقه وقفات تجديدية لهذه المصادر.”[11] القول إن فقه الأقليات امتداد للفقه العام، يخفي من ورائه النية في اسقاط فقه الأكثرية على واقع يشكلون فيه المسلمون أقلية، فمشكلة القرضاوي هنا تعود إلى أنه يرى في الفقه العام هو طريق الوحيد الذي يعكس مفهوم الشريعة، وقد أشنا فيما سبق بأن الشريعة متعددة بتعدد مداخل الفهم. كان من الأولى التفكير في فهم وفقه وشريعة معاصر تنسجم مع السياق الجغرافي والثقافي للإسلام في الغرب، بدل العمل على تصدير نسخة تاريخية الشريعة، لا تقبل في التجديد من جهة المداخل المنهجية والمعرفية في قراءة القرآن ومختلف تجارب الفرق الإسلامية في فهمها للشرعة عبر التاريخ، من أجل مقصد بسط مفهوم جديد للشريعة.

مع الأسف يحضر في أذهان مختلف المسلمين عبر العالم صورة واحدة عن الإسلام، يحملها المسلم معه أينما حل وارتحل، وأينما تيسرت له سبل العيش، دون الوعي بأن الإسلام في شريعته يتشكل ويتجدد في استجابة لمختلف الظروف والبيئات الاجتماعية؛ فالإسلام له القدرة ليستوعب الثقافة الأوروبية ويقدم لنا نسخة عن الإسلام الأوروبي، وليس بالضرورة أن تكون هي نفس النسخة التي تشكلت في المغرب أو في المشرق أو في تركيا أو بلاد فارس…الخوض في هذه الإشكالية يقتضي من صاحبه استيعاب الشريعة الإسلامية في بعدها التاريخي والاجتماعي واستيعاب الفلسفة والفكر الغربي في أبعاده الإنسانية والسياسية والاجتماعية والثقافية، والوعي بتقديم منظومة القيم العليا في القرآن، على ما هو نسبي وعرضي وتاريخي بطبعه.

صحيح، أن القرضاوي على وعي باختلاف السياق الثقافي والجغرافي والسياسي بين الغرب والعالم الإسلامي، وهو أمر يتطلب ضرورة فقه جديد، ولكنه غير مستعد للتخلي عن التصور الذي شكل الفقه القديم والعام. ففقه الأقليات أو شريعة الأقلية في أمس الحاجة لمداخل معرفية ومنهجية في نظرتنا اليوم إلى الدين وإلى الشريعة؛ لأن الدين واحد، لكن الشرعة والمنهاج متعدد ومتجددة، فشريعة الأقلية المسلمة في الغرب، ليست بالضرورة شريعة الأكثرية في الشرق. فشريعة الأكثرية التي تشكلت في القديم تعرف اليوم أزمة في الوقت الحاضر، بين من يرى إلى الشريعة بنفس النظرة التي ينظر بها إلى القانون خاصة فيما اتصل بجانب المعاملات المالية والاجتماعية، فالعلماء والفقهاء قد اجتهدوا بالقول بأقوال وآراء تستجيب لمختلف أسئلة أزمنتهم، وهذا من بين أسباب تتعدد وجهات نظرهم واختلاف أقوالهم في المسألة الواحدة، إما في الزمن والمكان الواحد، أو باختلاف الزمن والمكان. وهناك اتجاه آخر يرى الى الشريعة بعين القداسة؛ إذ يرى فيها بأنها هي الدين نفسه، الى درجة أن التغيير فيها هو تغيير في الدين، ويتمثل هذا الاتجاه في الأصولية المتطرفة، فنسخة الدولة الإسلامية التي أعلنها داعش تستند على وهم تطبيق الشريعة، كما تفهمها داعش.

في السياق الغربي، وهو سياق علماني يفصل بين الديني والسياسي، تظهر مشكلة الفقه والشريعة بشكل حاد، فالأقليات المسلمة هل تعيش مختلف جوانب حياتها اليومية في كل ما اتصل بالمعاملات في البيع والشراء ومختلف المعاملات المالية والزواج…تحت مظلة القانون الذي يشمل الجميع، أم إنها بالضرورة تعود إلى الفقه الإسلامي، وإن لجأت اليه ففي ذلك مخالفة لموجبات قانون الدولة. مع الأسف اختزال الدين في الفقه وفي كل ما هو شكلي، يثير حفيظة الأكثرية، وهي حالة يوظفها اتجاه في الغرب لا يقبل بالتعددية الثقافية، في إشاعة الخوف من تحول الأقلية الى أكثرية.

ويرى الشيخ عبد الله بن بية، أن القيم الكبرى للعلمانية المحايدة تعتبر قيما إيجابية من: احترام المعتقدات، والحياد بين مختلف الأديان، والاعتراف بالحقوق الإنسانية الفردية والجماعية؛ إذ تسهر الدولة على حمايتها، الحق في الاختلاف والتنوع، حق التحاكم أمام المحاكم لاستخلاص الحقوق، الدفاع ضد العدوان. وكل هذا لا يتنافى مع القيم الكبرى التي تدعو إليها الديانات السماوية، وخاصة الدين الإسلامي الذي يحث على المحبة الأخوة الإسلامية. وقد يفسد البعض العلمانية ويحرفها عن أصلها، لتكون أداة للتسلط على المعتقدات. وهذا موقف مهم وبالأخص أنه صادر من رجل ذو مرجعية فقهية.

(3)

شريعة الأقلية تقتضي فهم الإسلام وفق السياق الغربي، ووفق مبادئ العلمانية في صورتها التي تحفظ الحرية والتعددية الدينية، وتجعل الدولة تحمي الدين ومختلف الأقليات، لا باسم الدين ولكن باسم المواطنة، كما تقتضي الوعي بأن “الأنساق الفقهية والكلامية التي تم بناؤها عبر التاريخ كانت على عبقرية لا تنكر. لكنها تصلبت وأصبحت في قالبها الحالي غير مناسبة للتعامل مع الحداثة وما بعد الحداثة، ومع ما يميزهما بشكل بارز يعني الدنيانية”؛أي العلمانية. ولنذكِّر بأن القرآن لا يحمل مذهبا فقهيا تمت صياغته وتصوره بصفة قبلية، ولكنه يشتمل على براديغم لا يعلن عن ذاته يفهم حدسيًا، ولربما هذا هو مفهوم كلمة فقه في القرآن. “فكونية النص الديني (القرآن) ليست دائما في محتواه وصورته المرتبطة بالسياق التاريخي للوحي، ولكن تكمن في الصورة التي يمكن أن يتخذها تأويل النص نفسه في سياق جديد مختلف عن وضعه الزمني القرآني الأصلي.”

شريعة الأقلية، ليس من أهدافها أن تذوب الأقلية في ثقافة الأكثرية، أو القول بشريعة مفرغة من المبادئ والقيم الأخلاقية، أو القول بشريعة من دون روح، وإنما هي شريعة تراعي خصوصيات السياق الجغرافي والثقافي والزمني…للأقلية، فليس من العيب استثمار مقومات الانتماء الثقافي للعالم الإسلامي، ولكن العيب يكمن في الاكتفاء بذلك لوحده، والأعراض عن الانتماء للنموذج الثقافي الغربي أي أوطان الأقلية.

مؤسسة مؤمنون بلاحدود ـ موقع حزب الحداثة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate