حداثة و ديمقراطيةمنوعات

الحداثة والتقدم (في العلمنة)

ثمة ترابطٌ عضويٌّ بين مفهومي الحداثة والتقدم، إلى درجة عدم إمكانية الفصل بينهما. وتحيل الحداثة على السيادة أو الظهور التدريجي للعقلانية والفردية والتصنيع والعولمة والعلمانية. ويمثل العلم الحديث الممأسس بتفكيره النقدي وتأسسه على الخبرة أو التجربة والمحاججة المضبوطة بها وبالفكر النظري والرياضي النموذج الأبرز لعقلانية الحداثة. أما الفردية فتعني، في السياق الحداثي، تحدي الهياكل الهرمية التقليدي وإعطاء الأولوية للأفراد واستقلاليتهم وحرياتهم، وليس للجماعات العضوية الإثنية أو الدينية أو الطائفية إلخ. وتظهر سمة التصنيع في ظهور المجتمعات الصناعية والحضرية والتقدم في التكنولوجيا وزيادة الإنتاجية والنمو الاقتصادي. أما العولمة فتتجسد في ازدياد إمكانية أو واقع الاتصال والتواصل والتداخل أو التشابك وتبادل الأفكار والسلع والمعلومات بين مختلف مناطق العالم أو ثقافاته أو بلدانه.

من الواضح أن كل سمات الحداثة المذكورة تتضمن إشارةً إلى مفهوم التقدم. وفي إطار فلسفة التاريخ والعلوم الاجتماعية عمومًا، يحيل مفهوم التقدم على التحسن المستمر في أحوال الإنسان الاجتماعية والمعرفية والصحية، وفي رفاهيته عمومًا، نتيجةً لازدياد قدرته على التغلب على التحديات التي تواجهه. ومنذ تبلورها الحديث، تعرضت أطروحة التقدم (الحداثي) عمومًا إلى انتقاداتٍ شديدةٍ منذ تبلورها الحديث، وظهر ذلك النقد ظهورًا نموذجيًّا في الخطاب الثانيلروسو “خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر”. وتزايدت الانتقادات الموجهة لأطروحة التقدم في العقود الأخيرة، واستندت تلك الانتقادات إلى التأثيرات الضارة لسيرورة التحديث، والتي تتجسد، على سبيل المثال، في التدهور البيئي والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي والهيمنة الثقافية الأحادية على حساب ثقافات كثيرة أصبحت هامشية أو مهمَّشة، حتى “في عقر دارها”.

انطلاقًا من تلك الانتقادات وغيرها، تزايدت الحاجة إلى التفحص النقدي للأطروحة القائلة بالترابط الوثيق بين الحداثة والتقدم، وبالإيجابية المعيارية الكاملة لكليهما، وإلى ضبط المفاهيم المؤسسة له، وإلى نسبنة الأحكام القائلة بوجود التقدم، أو عدم وجوده، والجازمة بإيجابيات الحداثة أو بسلبياتها. وثمة محاجَّة ترى أن القول بوجود ذلك الترابط قد يعبر عن صيغة من المركزية الأوروبية والتعميمات الأيديولوجية، أكثر مما يعبر عن رؤيةٍ معرفيةٍ مسوَّغةٍ وموضوعيةٍ. وقد ظهرت تلك المحاجَّة، على سبيل المثال، في سياق مناقشة مسألة التقدم في العلمنة تحديدًا، وبدا أن تلك المناقشة مناسبةً ونموذجيةً، في هذا الخصوص؛ لأن الترابط بين النظريات التقليدية للتحديث والعلمنة لا يقل قوةً عن ذلك الترابط، الموجود فعلًا أو المزعوم وجوده قولًا، بين (مفاهيم) الحداثة والتقدم.

وفقًا لنظريات التحديث التقليدية، تتضمن سيرورة التحديث، بالضرورة، مزيدًا من العلمنة، أو تقدمًا فيها. وتتضمن نظريات العلمنة التقليدية، التي سادت منذ القرن التاسع عشر، ثلاث أطروحاتٍ رئيسةً:

  1. أفول الدين أو المعتقدات والممارسات الدينية.
  2. خصخصة الدين وغيابه أو تغييبه عن المجال العام.
  3. التمايز الوظيفي بين المجالين، الديني وغير الديني (العلماني).

وفي العقود الخمسة الأخيرة، فقدت الأطروحتان الأوليتان جزءًا كبيرًا من قدرتيهما الوصفية والتحليلية، ولم يعد بإمكانهما الزعم بانطباقهما الدائم على سيرورة الحداثة وواقعها في الكثير من مناطق العالم المعاصر وثقافاته. فلم يعد ممكنًا أو معقولًا القول إن الحداثة تقتضي أو تتضمن، بالضرورة ودائمًا، أفول الدين أو المعتقدات والممارسات الدينية أو غياب الدين عن المجال العام. وعلى هذا الأساس، لم يعد الأفول والغياب المذكوران تقدمًا وشرطًا ضروريًّا للحداثة والتحديث أو نتيجةً حتميةً لهما. فلم تفضِ عمليات تحديث المجتمعات، إلى تلاشي العقائد والممارسات الدينية والمؤسسات الدينية، كما توقعت نظريات العلمنة التقليدية؛ ولم يصبح الكتاب المقدس مجرد قطعةٍ أثريةٍ في المتحف، كما تنبأ فولتير، على سبيل المثال.

لم تحظَ المراجعات النقدية التي تناولت نظرية العلمنة التقليدية، في العقود الأخيرة، بالحضور الواضح والمناسب، في النقاشات العربية، في هذا الخصوص، فتم التضخيم منها. فمقابل الإفراط أو المبالغة في الحديث عن سلبيات الحداثة والعلمنة في كتابات بعض الإسلاميين، نجد تجاهل علمانيين كثر لتلك المراجعات النقدية وتمسكهم الصريح أو الضمني بأطروحات نظريات العلمنة التقليدية. وانطلاقًا من ذلك، يبدو استحضار تلك المراجعات النقدية، وأخذها في الحسبان، عند مناقشة مسائل العلمانية والدين في السياق العربي، أمرًا مفيدًا وضروريًّا، معرفيًّا وأيديولوجيًّا. وربما كانت التعديلات التي أجراها صادق جلال العظم، على مواقفه المعرفية والأيديولوجية من حضور الدين في المجال العام، مثالًا نموذجيًّا على بعض حالات النقد الذاتي الضمني والضروري في الفكر العربي المعاصر، في هذا الخصوص. ففي حين أن نصوص العظم في ستينيات القرن الماضي –”نقد الفكر الديني، النقد الذاتي بعد الهزيمة”، على سبيل المثال – كانت ترى ضرورة إقصاء الدين/ الإسلام من المجال العام لكونه مجموعة من الأوهام والخرافات والقيم المعطلة والمعرقلة لعمليات التحديث والتقدم في العالم العربي المعاصر، نجد أنه أصبح يميِّز، لاحقًا –  كما في كتاب “الإسلام والنزعة الإنسانية العلمانية” – بين إسلامات مختلفةٍ، يمكن لتأثير بعضها في عمليات التحديث والدمقرطة أن يكون إيجابيًّا، من دون نفي الإمكانية المعاكسة لتأثير بعضها الآخر.

لقد انطلقت نظريات الحداثة والعلمنة التقليدية من دراسة عمليات التحديث والعلمنة في “العالم الغربي” عمومًا، والأوروبي خصوصًا. لكن الأطروحات المذكورة لتلك النظريات حوَّلت ذلك الوصف من معرفةٍ لما هو كائنٌ في العالم الغربي/ الأوروبي، إلى تقييمٍ لما يجب أن يكون في كل عمليات التحديث والعلمنة في كل بقاع العالم. وحتى عندما ظهر أن النموذج الأميركي في التحديث والعلمنة – حيث بقي حضور الدين قويًّا وإيجابيًّا عمومًا في المجتمع الأمريكي الحديث – لا يتطابق مع “الوصفة الأوروبية”، كان هناك حديثٌ عن “استثناء أميركي”، بدلًا من المراجعة النقدية لنموذجية “الوصفة” المذكورة، وأحاديتها أو وحدانيتها، لكونها لا تأخذ في الحسبان تنوع التجارب الدينية واستمرارية الممارسات الدينية وتكييفها للسياقات الحديثة، ومزج العناصر الدينية والعلمانية في مختلف جوانب الحياة، في الثقافات والمجتمعات غير الغربية؛ كما تتجاهل الدور الإيجابي الذي لعبه أو يمكن أن يلعبه الدين في عمليات تحديث المجتمعات وفي الحركات الاجتماعية المختلفة، والتحولات السياسية، والنضال من أجل الحقوق المدنية، على مر التاريخ. يُضاف إلى ذلك أنها تغفل أو تتغافل عن حقيقة أو واقعة أن العلمانية علمانيات، والدين أديان، والإسلام إسلاماتٌ، أي أنها يمكن أن تأخذ أشكالًا وصيغًا مختلفةً. وعلى هذا الأساس، يمكن فهم فشلها في التنبؤ بدقة بالمسار المستقبلي للدين في المجتمعات الحديثة التي شهد العديد منها انتعاشًا في الاعتقاد الديني والممارسة خلال العقود الأخيرة، مما يتحدى فكرة حتمية تراجع الدين. فحضور الدين يتخذ صيغًا مختلفةً، ولا يتجسد بالضرورة في صيغة الصلاة في المساجد أو الكنائس، أو الارتباط بأماكن العبادة ومؤسسات الدين الرسمية. وبالتالي، ينبغي عدم الاقتصار في تناول المسألة على تحليلاتٍ إحصائيةٍ ضيقةٍ لا تأخذ في الحسبان حضور الدين، بروحانياته وأخلاقياته، خارج الأطر والمؤسسات الدينية التقليدية.

ربما كان الدرس الأهم الذي يمكن استخلاصه من الدراسة المعرفية والتاريخية للعلاقة بين نظريات التحديث والعلمنة والتقدم هو ضرورة الابتعاد عن الرؤى الجوهرانية المعيارية، التي تتبنى مقاربةً مثنويةً مانويةً، بحيث لا ترى إلا صيغةً معرفيةً واحدةً وتقييمًا معياريًّا واحدًا لتلك النظريات والمفاهيم المرتبطة بها، فتنزع إلى رؤيةٍ أحاديةٍ تشيطن طرفًا أو أكثر، كما فعل وائل حلاق على سبيل المثال، في رؤيته المعادية للحداثة والعلمانية وما سمّاه “لاهوت التقدم”، و”تُملْئِك” طرفًا آخر أو أكثر، كما يفعل كثيرون، من رافعي شعارَي “الإسلام هو الحل” أو “العلمانية هي الحل”.

حسام الدين درويش

سوريا تيفي ـ موقع حزب الحداثة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate