حداثة و ديمقراطية

قراءة تحليلية في مفهوم العلمانية

المفهوم والسياقات

مما لا شك فيه أن لفظ العلمانية كان – ومازال- يعد من أكثر الألفاظ التي تتعرض للتشويه المقصود أحيانا وغير المقصود أحيانا أخرى، والذي ينم في كلتا الحالتين عن جهل، بل وجهل خالص، إلى درجة أن صفة علماني أصبحت وصمة عار لكل من يدعي أو يدعو أو يدافع عن هذه الفكرة. كما أن مفهوم العلمانية هو من أكثر المفاهيم التباسا وغموضًا في الثقافة العربية الإسلامية، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، هو أكثر المفاهيم إثارة للجدل والقابلة دوما للنقاش في ساحة الفكر العربي؛ أي منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى ناهية القرن العشرين. والحقيقة التي لا مراء فيها، أن مصطلح العلمانية مصطلح مُلتبِس من كل الزوايا وبه غشاوة من كل الجوانب، من زاوية الاشتقاق اللغوي، أي على مستوى اللفظ الرسم والجذر اللغوي، سواء في اللغة العربية وحتى في اللغات الأوروبية ومن الزاوية الاصطلاحية. والأسئلة التي تثار في هذا السياق هي: ما العلمانية؟ وكيف دخلت الفكرة إلى الديار العربية؟ ولماذا يلاقي المفهوم كل هذه الممانعة؟ وهل العلمانية تعادي الدين؟

كما لا يخفى على كل الباحثين أن هذا المفهوم يتوفر على إمكانيات هائلة في إثارة الجدل في “دار العرب” وحتى في إنشاء علم كلام جديد عند الإسلاميين، سؤالهم هو المركزي: هل العلماني كافر أم مؤمن؟ كما أن هذه الكلمة ومنذ أن دخلت القاموس السياسي العربي، فتحت باب النقاش على مصراعيه وتشعب الكلام فيها وعنها أحيانا بعمق وأحيانا أخرى بشكل سطحي، لكنه شمل قضايا عدة في الفلسفة والدين والسياسة والدولة والتاريخ والاجتماع، وهذا كله راجع بالدرجة الأولى إلى دلالتها الاصطلاحية المشحونة بقدر كبير من تصورات التقديس عند البعض وتصورات التدنيس عند البعض الآخر. وتجدر الإشارة كذلك إلى أن فكرة العلمانية تتميز بالانفتاح على حقول معرفية شتى، كما لديها القدرة على الاغتناء المعرفي والفكري، فهي مصطلح يغتني من الأحداث التاريخية المتلاحقة، ويتغذى من الثورات العلمية المتتالية، كما أنه يتوفر على القابلية لمزيد من الشحن المعرفي من الفتوحات المنهجية المتراكمة ومن الوفرة المفاهيمية الحاصلة في الفكر العالمي وفي العلوم الإنسانية. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن العلمانية كمصطلح مُتشابك الخيوط مع السياسة والدين والاجتماع يتفاعل مع الأحداث السياسية والاجتماعية، هذه الأحداث التي حولته إلى مفهوم مُفعم بالمعاني والدلالات المتداخلة مع مفاهيم الحداثة السياسية من قبيل الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولهذا لا نجانب الصواب، إذا قلنا إن موضوع العلمانية هو من أصعب المواضيع التي يمكن مقاربتها ومعالجتها والتطرق إليها في العالم العربي في الوقت الراهن إلى درجة أنه أصبح من المُحرمات، بحكم علاقته بالثنائي المحرم، الدين والسياسة، كما أن صعوبة المقاربة مأتاها كذلك من حجم الاستعمال السياسي المفرط والأدلجة المفرطة لهكذا نوع من المفاهيم والمصطلحات، سواء في الأدبيات السياسية أو في البيانات الحزبية، وكلنا يدرك حجم التورم الإيديولوجي الذي كانت تعاني منه الساحة السياسية والفكرية العربية في القرن العشرين، والذي كان بحق قرن الإيديولوجيات، أيديولوجيات تبدأ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من الليبرالية إلى الاشتراكية، مرورا بالديمقراطية الاجتماعية والإسلام السياسي والقومية العربية…إلخ. ومن الفرضيات التي ننطلق منها في هذه الدراسة، أنه كلما زاد المفهوم شيوعا- ونظرا للردة الثقافية – ازداد غموضًا وتشويها والتباسا وجهلاَ بالمفهوم وبملابساته التاريخية والمعرفية عند الرافضة والكارهة للكلمة، وبالتالي زادت الأحكام المسبقة عنه ومنه وحوله، وهذا ما ينطبق بالتمام والكمال على مفهوم العلمانية، الذي لاقى في العالم العربي وما يزال يلاقي، ليس فقط الممانعة والكراهية، ولكن أيضا إلصاق التهم المغرضة به، يصل إلى حد ربط المفهوم بشبهة العلاقة مع الاستعمار ومع الصهيونية والماسونية، وكافة الأفكار والإيديولوجيات التي وفدت إلى الفضاء الثقافي والسياسي العالم العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر. ولا نعتقد أنه لا يوجد لفظ لاَقىَ هذا الكم الهائل من السبّ والشتم والعداوة والكراهية، مثل لفظ العلمانية، ليس فقط على مستوى العامة من الناس، بل على مستوى النخبة وفي أوساط المثقفين، بل وحتى عند بعض الأكاديميين العرب، خاصة أولئك الذين ينتسبون إلى هيئة التدريس في الجامعات، ولكنهم ينتمون في نفس الوقت إلي التيارات الأصولية الدينية. ونحن نتفق مع الآراء التي ترى أن سبب هذا الغموض لا يعود فقط إلى أن لفظ العلمانية من الألفاظ الدخيلة على المجال الثقافي العربي، كما أن أمر الالتباس لا يرجع إلى أن الفكر العربي عجز عن ضبط هكذا نوع من الألفاظ، بل إن المشكلة الرئيسة تتمثل في حالة الاستقطاب الحادة التي تشق الساحة الفكرية/السياسية العربية منذ عدة عقود، إلى تيارين سياسيين متناقض؛ تيار ديني/ سلفي صوته مسموع وسلطته طاغية وطروحاته مستساغة شعبيًا؛ تيار ينظر إلى سيرورة العلمنة الجارية على قدم وساق منذ مائة وخمسين سنة في الحواضر العربية، بأنها ستقضي على الدين الإسلامي قضاء مبرمًا، ومن ناحية أخرى هناك جماعة من المثقفين التنويريين ومن السياسيين، تنظر إلى تصاعد المد الديني الأصولي المتصاعد منذ سبعينيات القرن الماضي باعتباره العقبة الكأداء التي تقف في طريق التقدم السياسي ،الاجتماعي والاقتصادي وأنه العامل الرئيس في فشل المشروع النهضوي وفي هزيمة الحداثة في المنطقة العربية. هذا الاستقطاب الحاد ألقى بظلال كثيفة على العلمانية، مفهوماً ولفظاً ومعنى، إذا اندلعت حرب التعريفات والتعريفات المضادة، استُخدِمَت في هذه الحرب كافة أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة، فكل تيار يقدم تعريفه الخاص للمفهوم، وحسب وجهة نظره السياسية والإيديولوجية، وإن دلت كثرة المتجادلين في التعريف على شيء، إنما تدل على الحالة التي وصل إليها الصراع الإيديولوجي الحاد، والتي وصلت حد الاقتتال، وكأنه صراع وجود وليس مجرد تعريف حد من الحدود، كما تحدد مفهوم الحد في منطق أرسطو.

اشتقاق لغوي.. وشقاق فكري

من هذا المنطلق، اشتعلت نار الحرب الباردة بين دعاة الدولة الدينية والمدافعين عن الدولة الوطنية العلمانية، فالطرف المدعي، ويتمثل في جبهة عريضة تضم عدة فصائل من الرافضين للعلمنة، يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يلصق بلفظ العلمانية ما جادت به قريحته من تهم قصد شيطنة المفهوم من قبيل وصم دعاة العلمنة بالإلحاد والكفر واللادينية والتغريب، كما يحملون اللفظ كل معاني العداء للدين والأمة والوطن. أما الطرف الثاني، المدعى عليه، فيسعى جاهدا أن يبعد عن هذه الكلمة كل التهم الموجهة إليها، ولأنه في موقف دفاعي، فهو ينافح عن العلمانية انطلاقا من مبدأ بسيط، وهو أنها فكرة إنسانية، توصل إليها الفكر الإنساني الحديث لحل معضلة تداخل السلطة السياسية مع السلطة الدينية، وفي النظام العلماني تكون الدولة حيادية تكفل حرية الاعتقاد للأغلبية كما للأقلية، كما أنه في نظر هذا التيار لا تقوم للديمقراطية قائمة من دون أساس علماني، كما يرون أن التاريخ الإنساني آيل للعلمانية شئنا أم أبينا، فالأمر حتمي وليس فيه اختيار، كما أن هذا الفريق من المفكرين والكتاب، ما انفك يقدم العلمانية بوصفها الترياق الناجع للصراعات الطائفية والحروب الدينية والمشاعر الدينية المتصاعدة والزائدة عن الحد، والتي نهشت في الجسم الوطني، وهددت بعض الدول العربية بالتمزق والانحلال وبعض المجتمعات بالنزوح والعيش في الملاجئ وفي الشتات مثل العراق في بداية الألفية، والجزائر في التسعينيات، بل إن بعض الدول العربية تفككت بالفعل ومجتمعاتها تمزقت بالقوة مثل اليمن وسوريا.

وإذا كان الطرف الرافض بكل فصائله، من الأكثر اعتدالا إلى الأكثر تطرفًا يرفع شعار “الإسلام هو الحل”، فإن الطرف الثاني وبكل ألوان الطيف التي يتركب منها لا يتردد لحظة واحدة في القول بأعلى صوته: “العلمانية هي الحل”. والحقيقة أن هذا الجو المشحون الذي تتنازع فيه الخطابات هو الذي ساهم بشكل أو بآخر في إضفاء هالة من الالتباس والغموض على مفهوم العلمانية، وزادت من جرعة التشويش عليه ووضعه دائما في قفص الاتهام.

والنتيجة.. هي إلصاق عدة تهم بالمفهوم من بينها العداء للدين والإلحاد والتغريب! وما نخلص إليه هو أن العلمانية مفهوم إشكالي من كل النواحي، وبعبارة أخرى يطرح أكثر من إشكالية، فعلى سبيل المثال وليس الحصر هناك مشكلة زمن دخوله في قاموس اللغة العربية؛ أي الفترة التي تم تداوله في الثقافة العربية ومن ثم انتشاره في عالم الأدب وساحة الفكر العربي، وخاصة في الفكر السياسي. وفي هذا الصدد، يرى باحث عربي معاصر مهتم بالشأن العلماني، أن هذه الكلمة دخلت وانتشرت في ساحة الفكر العربي الحديث، منذ عشرينيات القرن العشرين، وخاصة في كتابات مُنظّر القومية العربية ساطع الحصري (1880-1965). ويشير نفس الباحث إلى أنه قبل هذا التاريخ، لم تكن كلمة العلمانية هي المستخدمة، بل كلمة أخرى هي كلمة مدني-civil- السائدة في مقابل كلمة الديني religion– – كما كان الشأن مع المفكر النهوضي فرح أنطوان (1874-1922 في دعوته الصريحة إلى فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية، أو كما أعلن مفكر نهوضي إصلاحي معتزلي هو الشيخ محمد عبده (1849-1905) بأن الخليفة هو “حاكم مدني من جميع الوجوه”.

واللافت للانتباه أن لفظ العلمانية سيسود طيلة القرن العشرين في الصحافة والإعلام، وسيتردد في النقاشات الفكرية والسجالات الكلامية والمناظرات الإعلامية. والغريب في الأمر أن هذه الكلمة ستختفي مع بداية الألفية الثالثة لتحل محلها لفظة مدنية؛ إذ صرنا نسمع ونقرأ كثيرا، وخاصة في أعقاب ما سمي بالربيع العربي عن الدولة المدنية في مقابل الدولة الدينية، وعن التيار الديني في مواجهة التيار المدني. نستنتج أن لفظ العلمانية الذي ساد وانتشر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في الخطاب السياسي النهضوي عاد بقوة في السنوات الأخيرة، وهذه العودة تزامنت مع السمعة السيئة التي اكتسبها لفظ العلمانية لدى جميع الفئات والشرائح الاجتماعية. ومن الواضح، أن السمعة السيئة لم تأت من فراغ، بل جاءت بسبب الهجوم الضاري الذي شنته تيارات الجماعات والمؤسسات وحتى وزارات الشؤون الدينية والأوقاف، من المحيط إلى الخليج على هذا اللفظ “الدخيل” وعلى كل من يتبنى هذه الفكرة أو يصدع بها، من خلال سيل جارف من الكتابات والخطب والأحاديث في وسائل الإعلام وعلى منابر المساجد، حتى صار لفظ العلمانية عند الكثرة الكاثرة من الناس يحمل دلالات ومعاني في غاية السوء وغاية القبح.

كل ما نستطيع الجزم به الآن، هو أن لفظ العلمانية كما هو متداول في الثقافة العربية المعاصرة وفي الخطاب العربي المعاصر، هو لُفظ يحيط به الغموض من كل الجهات، والحق أن هذا الغموض ساهم في زيادة النقاش في الأوساط الثقافية وفي دوائر البحث الأكاديمي، كما أن هذا الغموض أدى بشكل أو بآخر، إلى النفخ في حجم الاختلاف، حتى لا نقول الخلاف إلى درجة التناحر بين الإيديولوجيات والتيارات الفكرية والسياسية التي كانت تعج بها الساحة.

وكما أشرنا في الصفحات السابقة، فإنه ليس فقط المفهوم في حد ذاته الذي يتسم بالالتباس، بل إن الغموض يطال السياقات التاريخية الاجتماعية التي ظهر فيها هذا المفهوم، وتشكل من خلالها منذ عصر النهضة في أوروبا في القرن السادس عشر إلى غاية اليوم، ولا ننسى كذلك أن كل المفاهيم لا تقف عند معنى واحد، ولا تحمل دلالة محددة ولا تأخذ سمة معينة ثابتة. فلا ثبات في المفاهيم؛ لأنها تأخذ في كل حقبة زمنية دلالة ما، لا تفقد سماتها الجوهرية.

وبالتالي النقاش حول المفاهيم على مستوى اللغة وفي إطار المعرفة لا ينتهي عند محطة معينة، ذلك هو حال مفهوم العلمانية في أوروبا وأمريكا وروسيا والصين وفي العالم العربي، طبعا مع مراعاة فوارق التوقيت الحضاري بين مجتمعات ما بعد الحداثة ومجتمعات ما قبل الحداثة، وعلى حسب المستوى الذي بلغته العلمنة في المجتمع والدولة كذلك درجة التحدي الحضاري، وخاصة في مجتمعات مزقتها الأصوليات المُرعبة ونهشت جَسدها الهويات القاتلة.

والحقيقة أن هذا المفهوم المثير للجدل، يتغذى من تطور الأحداث وتلاحقها، وبالتالي تم شحنه بدلالات ومعاني جديدة، ولهذا لا نستغرب تواصل النقاش حول هذه المسألة في أوروبا طيلة القرن العشرين وإلى غاية التفجيرات الدموية التي وقعت في العاصمة الفرنسية عام 2015 ، والتي أودت بحياة عشرات المواطنين، وللتذكير فقط ساهم هذا الحدث في إذكاء جذوة النقاش وزادت من حدة الحوار حول الدولة والدين والسياسة، كما أن هذا العمل الإرهابي فتح منافذ جديدة للسجّال حول الجماعات الدينية غير المسيحية في أوروبا، كما رفع من منسوب النقاش حول الأصولية وحدود الحريات الدينية والخطوط الفاصلة بين المقدس والمدنس ووضعية الأقليات الدينية في مجتمع علماني.

كما يجب لفت الانتباه إلى أن هذا اللفظ وما يثيره من قضايا لغوية وفلسفية واجتماعية، مشكلته قد تأتي أحيانا من الموضوع في حد ذاته باعتباره تابو Tabou – – ممنوع الكلام فيه، كما هو حال “الحالة العلمانية” في بعض البلدان؛ إذ ليس فقط يمنع فيها الجدل، ولكن يحظر حتى مجرد ذكر الموضوع، رغم مما تعرض له هذه المجتمعات من تخريب ودمار قد يعرضها في المستقبل القريب للانقراض، إذا لم ترتب العلاقة بشكل عقلاني وواقعي بين الدين والسياسة والدولة….. ونحن نعرف أن تديين السياسة وتسييس الدين، خلق مشكلات وتسبب في كوارث، كما أن تداخل الدين والسياسة يعد عقبة كأداء أمام أي شكل من أشكال التطور والنهوض في مجتمعات أعياها استغلال الدين لأغراض سياسية وفي دول وأنظمة حكم تستغل الدين وتوظف الدين وتحتكر الدين لحسابها الخاص من أجل ستر عورة اللاشرعية، وكما أشرنا آنفا فقد أثقل كاهل هذه المجتمعات الصراعات على الهوية الدينية، كما تجرعت مرارة الإرهاب باسم الدين وزاد من تخلفها خطابات الكراهية ضد المرأة والأقليات المسيحية والفنون وضد الحداثة ومشتقاتها من ديمقراطية وحقوق الإنسان، وعَمَق من جراحها “الدعاة الجدد” الذين يتكلمون في كل شيء ويفتون في كل شيء كما أن خطابهم الديني تسبب في تأجيج الفتن، ما ظهر منها وما بطن وفي زيادة منسوب التطرف وفي التحريض على القتل. وبالإضافة إلى كل ذلك، فإن الدولة الوطنية ومع النمو الديموغرافي ومع فشل التنمية الاقتصادية والاجتماعية وانهيار النظام التعليمي والتصحر الثقافي، هذه الدولة وبسياستها العرجاء والشعبوية ساهمت هي الأخرى في تضخم المشاعر الدينية لدى جميع الشرائح الاجتماعية.

وهكذا وبالنظر إلى الأوضاع المزرية التي تمر بها دولة ما بعد الاستعمار في العالم العربي، والتي هي كما هو معلوم دولة هجينة، فلا هي دولة دينية ولا هي دولة علمانية، هي دولة بين بين، كما أن المجتمعات العربية لا هي مجتمعات تقليدية، ولا هي مجتمعات حديثة، بل هي مجتمعات تجمع بين الحداثة والتقليد، وتلك هي معضلة أخرى تضاف إلى قائمة المعضلات التي يئن منها العالم العربي. ومما زاد في منسوب الكراهية، ظهور حركات الإسلام السياسي التي كلها تلتقي عند نقطة واحدة إقامة الدولة الإسلامية أي الدولة الدينية/الثيوقراطية وهي دولة الحاكمية، دولة يحكمها رجال الدين، والتي تتناقض تماما مع الدولة الوطنية العلمانية. وكما أن هنالك جدلا ونقاشا مستمرين منذ عشرات السنين بين المفكرين والفلاسفة في العالم الغربي حول الاشتقاق اللغوي لكلمات لاتينية وإغريقية دخلت قاموس اللغة العربية منذ أكثر من قرن، من قبيل saeculum وlaukos، فهنالك أيضا جدل ونقاش لا يتوقف في العالم العربي حول كل من اللفظ والمصطلح والمعنى. والجدير بالذكر أنه في الفكر العربي المعاصر، قد دار نقاش طويل بين الباحثين وعلماء اللغة والمفكرين حول الطريقة التي تمت بها صياغة كلمة علمانية في اللغة العربية وكذلك كيفية اشتقاقها.

وكان السؤال المطروح على النخبة الفكرية العربية هو كما يلي: هل لفظ العلمانية مُشتقة من العِلم أم من العَالَم؟ فإذا كان الجواب إنها مأخوذة من العلم، ففي هذه الحالة تنطق عِلمانية (بكسر العين). أما إذا كان الجواب بأنها مشتقات من العالم، معنى ذلك أنها تنطق عَلمانية (بفتح العين(. وبالتالي انقسم الباحثون العرب إلى قسمين، قسم يرجع العلمانية إلى العالم، وعلى رأس هؤلاء نجد العالم اللغوي اللبناني الكبير عبد الله العلايلي ، وقسم آخر يربط العلمانية بالعلم ومنهم الفيلسوف المصري زكي نجيب محمود (1905-1993) الذي كان يتبنى الوضعية المنطقية، وهو المنهج الذي يركز على ضبط الكلمات وتحديد الألفاظ والتدقيق في اللغة والوضوح قائلا: “…سواء كان المتحدث مهاجما أم كان مدافعا فكلاهما ينطق اللفظة مكسورة وكأنها منسوبة للعلم مع أن حقيقتها هي العين المفتوحة نسبة إلى هذا العالم الذي نقضي فيه حياتنا الدنيا … ولو كان الفرق في المعنى بين أن تكون العلمانية مكسورة العين أو مفتوحة العين فرقا يسيرًا يمكن تجاهله لقلنا إنه خطأ لا ينتج ضررا كبيرا، ولكن الفرق بين الصورتين فرق لا يستهان به مما يستوجب الوقوف والمراجعة ..”

أما فؤاد زكريا، فيعترض على الضجة التي أثيرت حول استخلاص كلمة العلمانية بفتح العين من العالم أو بكسر العين من العلم ويعتبرها ضجة مبالغاً فيها؛ لأن كلا المعنيين يؤدي إلى الآخر “فالشقة ليست بعيدة بين الاهتمام بأمور هذا العالم وبين الاهتمام بالعلم؛ وذلك لأن العلم بمعناه الحديث لم يظهر إلا منذ بدء التحول نحو انتزاع أمور الحياة من المؤسسات الدينية التي تمثل السلطة الروحية وتركيزها في يد السلطة الزمنية، والعلم بطبيعته زمني لا يزعم لنفسه الخلود، بل إن الحقيقة الكبرى فيه هي قابليته للتصحيح ولتجاوز ذاته على الدوام، وهو أيضا مرتبط بهذا العالم لا يدعي معرفة أسرار غيبية أو عوالم روحانية خافية، ومن ثم فهو يفترض أن معرفتنا الدقيقة لا تنصب إلا على العالم إلا على العالم الذي نعيش فيه…يترك ما وراء هذا العالم لأنواع أخرى من المعرفة الدينية كانت أم صوفية…..فالنظرة العلمية علمانية بطبيعتها…”والحقيقة أنه سواء أرجعنا الكلمة إلى العالم أم إلى العلم؛ فالمعنى يتشابه لأن من معاني العلمانية الكثيرة، هو قدرة الإنسان على الفعل في هذا العالم مقابل العالم الأخروي والوسيلة الأساسية لهذا الفعل الإنساني هي العلم الوضعي وليس الميتافيزيقا ولا الغيبيات. ونحن في هذه الدراسة وفي دراساتنا السابقة ، نفضل استخدام لفظ عَلمانية بفتح العين، وهذا راجع لعدة مبررات، أهمها أننا نميل إلى الرأي القائل إن العلمانية مُشتقة من العَالَم ، هذا العالم الدنيوي الزمني والنسبي في مقابل عالم أخروي روحي ومطلق، وكذلك لأن الكلمة بهذا المعنى هي الأقرب إلى الكلمات اللاتينية المستخدمة في هذا السياق وحتى نكون أكثر دقة، العلمانية تنتسب للعالم من الناحية اللغوية وليس للعلم كما يعتقد البعض وإن كان يتشابه المعنى كما أشرنا سابقا؛ لأن الربط بين العلمانية وبين العلم ربط غير دقيق فمن ينتسب للعلم في اللغة العربية يقال له علمي كأن نقول البحث العلمي والمنهج العلمي.

وفي هذا السياق اللغوي الاشتقاقي يؤكد المؤرخ العربي المعاصر عزيز العظمة: “… أن لفظ علمانية مشتق من العالم وليس من علم والطريقة الصحيحة للنطق بها هي بفتح العين واللام معا، فالعلماني هو ما يشار إليه عادة في كتاباتنا المعاصرة بالعلموي غير أن لفظ علموي لا يمكن لغويا اشتقاقها من علموي الأصح لغويا أن نقول علماني بكسر العين بدل علموي، والعلماني بكسر العين هو من يتخذ العلمية كما هي ممثلة في العلوم الطبيعية بخاصة نموذجا لكل أنواع المعرفة. إنه يتبنى وجهة النظر الوضعية أو وجهة نظر مماثلة لها مما يعني عدم اعترافه بإمكان المعرفة الخلقية أو الدينية أو الميثافيزيقة؛ لأن القضايا المزعومة لأي منها لا يمكن إخضاعها حتى من حيث المبدأ لمعايير العلم..”. ونحن نميل إلى هذا كل الميل؛ لأنه بالفعل إذا أخذنا بعين الاعتبار قواعد الاشتقاق في اللغة العربية، العلماني بفتح العين شيء والعلماني بكسر العين شيء آخر. لكن مرة أخرى نؤكد، أن هذا الاختلاف بين نطق الكلمتين، لا يمنع من وجود تشابه بين العلمانية والعلم وفي هذا السياق نحن نعتقد أن أحد أبرز أغراض العلمانية في أوربا منذ بداية الصدام بين العلم الحديث القائم على أسس المنهج التجريبي وبين الدين المسيحي في القرن السادس عشر هو تمييز المجال الديني عن الحقل العلمي، وبعبارة أدق فصل المعرفة الدينية عن المعرفة العلمية وقد تحقق الانفصال شيئًا فشيئًا، ولكن بعد أن تم دفع ثمن باهض حيث تعرض العلماء لشتى أنواع الاضطهاد نذكر من بينهم وعلى سبيل المثال وليس الحصر عالم الفيزياء والرضيات (1564 – 1642) الإيطالي غاليليو غاليلي الذي تعرض للمحاكمة الفيلسوف واللاهوتي جوردانو برونو (1548 – 1600) الذي أُحرق حيًّا، وغيرهم كثير ممن تعرضوا للتعذيب والمحاكمات، وقد وصل الأمر إلى درجة الحكم الإعدام بسبب الاستبداد الديني وتسلط طبقة رجال الدين المتحالفة مع الاقطاع.

الصراع.. على المبنى وعلى المعنى

العلمانية في اللغة العربية، هي ترجمة الكلمات لكلمات أوروبية هي في الأصل كلمات إغريقية ولاتينية، تحولت عبر مسار تاريخي طويل إلى مفاهيم ومصطلحات خاصة في اللغتين الفرنسية والإنجليزية؛ فالفرنسيون يستخدمون كلمة -la laïcité- والإنكليز يستعملون كلمة sécularisme. وهنا لابد من لفت الانتباه إلى اختلاف معنى الكلمتين اللتين تحولتا إلى مفهومين مختلفين ليس فقط من حيث السياق التاريخي، ولكن أيضا من حيث الدلالة والمعنى إلى حد ما. وبالتالي، فإن مفهوم –sécularisme هو الدنيوية وقد استخدم هذا المفهوم لأول مرة عند توقيع اتفاقية وستفاليا عام 1648 وبداية ظهور الدولة القومية الحديثة أو ما يسمى بالدولة -الأمة، وكان يعني في ذلك الوقت علمنة ممتلكات الكنيسة، ومع التحولات الكبرى التي عرفتها أوروبا في القرنين السابع عشر والتاسع عشر، اكتسب المفهوم شحنات دلالية أعمق مع الصياغة الحديثة للمفهوم التي قام بها المفكر الإنكليزي جورج هوليك عام 1851؛ وذلك في إطار سعيه الحثيث نحو إبعاد تهمة الإلحاد وشبه معاداة الدين عن مصطلح العلمانية، حيث عرفه بأنه “.. الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان، سواء بالقبول أو بالرفض ومع مرور الوقت صار المصطلح يعي فقط فصل الدين عن الدولة…”

قبل الدخول في تفاصيل تعريفات العلمانية، لابد أن نعرج على الاستخدامات الأولى لكلمة العلمانية في اللغة العربية وخاصة في المعاجم والقواميس، وفي هذا الصدد يشير بعض الباحثين إلى أن أول من استخدم لفظ علمانية هو إلياس بقطر- أحد مترجمي الحملة الفرنسية على مصر في قاموسه “المعجم الفرنسي- العربي” الصادر سنة 1828، ثم تبعه بطرس البستاني في معجم “محيط المحيط” الصادر سنة 1870 وفيه محاولة لتقديم تعريف لكلمة اللائكية الفرنسية، ثم توالت استخدامات الكلمة في المعاجم الصادرة فيما بعد، إلى أن أقر مجمع اللغة العربية هذه التسمية عام 1950 وأضافها إلى معجم الوسيط. هذا على مستوى المعاجم والقواميس العربية، حيث كانت لفظة علمانية متواجدة بشكل أو بآخر، ولكن على مستوى الفكر كانت الكلمة السائدة هي المدنية civisme– التي ستختفي مع بداية القرن العشرين تاركة المجال لكلمة العلمانية طيلة قرن إلى أن عادت كلمة المدنية من جديد في السنوات الأخيرة كما سبق الإشارة إلى ذلك. والسؤال المطروح: ما هي العلمانية؟ من البديهي القول إنه لا يوجد تعريف واحد لأي مفهوم بما في ذلك العلمانية، فالتعريف لهكذا نوع من المفاهيم تتعدد وتتنوع لتعدد السياقات التاريخية والاجتماعية والثقافية، وكذلك اختلاف المستوى المعرفي، كما أن تحديد المفاهيم يخضع أحيانا لاعتبارات إيديولوجية ولحسابات سياسية كما هو شأن هذا المصطلح في العالم العربي؛ إذ تختلف التعريفات باختلاف المواقع وبتغير المواقف. وبناءً عليه، البعض يربط العلمانية –في تعريفها- بالظرفية التاريخية التي نشأت فيها كأن يقال إنها فكرة أوروبية مسيحية نشأت بسبب الصراع بين رجال الدين الكاثوليك والعلماء والبعض الآخر يحددها بالأغراض التي جاءت من أجل تحقيقها كأن يقال هي فصل الكنيسة عن الدولة، وهناك من يركز على علاقتها بالعلم كأن يقال إنها انتصار للثورة العلمية التي أكدت أن الحقيقة العلمية تستمد من التجربة العلمية، وليس من الدين وهناك من يلصقها بالشأن السياسي كأن يقال إنها فصل دائرة السياسية عن دائرة الدين. ونحن في هذه الدراسة نتعامل مع مفهوم العلمانية، باعتباره مفهوماً سياسيا بالدرجة الأولى، هو من موضوعات الفلسفة السياسية، بغض النظر عن الجوانب الأخرى التي يغطيها المفهوم، كما ننظر إليه على أساس أنه نظرية تبحث في ترتيب العلاقة بين الدولة والدين وبعبارة أخرى هي تقنية أكثر منها فلسفة، جاءت لحل معضلة الأصولية الدينية والاستبداد السياسي /الديني، كما نعتبر العلمانية سيرورة تاريخية processus– مثلها مثل الديمقراطية، تتوقف عند محطة فصل الدين عن الدولة أولًا وفصل الدين عن السياسة ثانيًا. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، العلمانية هي النقطة التي تتقاطع عندها الحداثة ومشتقاتها من قبيل العلم والعقلانية والتنوير والديمقراطية وحقوق الإنسان. ولتوضيح الأمر نقول إن من أهم الدلالات التي يمكن أن يأخذها مفهوم العقلانية هو سيادة العقلانية في تسيير الدولة وإدارة شؤون المجتمع، وإذا كان من أهم ركائز الديمقراطية هو مفهوم سيادة الشعب، وما دام الشعب هو صاحب السيادة، فأفراد الشعب هم مواطنون -citoyens- وليس رعايا -sujets- جلهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. ولهذا، فالعلمانية ليست شيئا آخر سوى ممارسة السياسة بشكل مدني – ديمقراطي، والديمقراطية ليست شيئا آخر سوى نزع القداسة عن الممارسة السياسية.

ومن هنا كان من الضروري لإنجاح السيرورة التاريخية للعلمنة من فصل الدين عن أجهزة الدولة وخاصة عن المؤسسات السياسية، وبالتالي تحرير الدولة والسياسة من الدين وتحرير الدين من الدولة والسياسة. وهذا التحرير المتبادل يسمح بتحديد دائرة الدين ودائرة الدولة، ويمنع تسلط السلطة السياسية على مؤسسات الدين ويحد كذلك من سيطرة رجال الدين وأفكار اللاهوت على الدولة والمجتمع. فالعلمانية ليست إيديولوجية، بل وكما قلت سابقا تقنية -THECNIQUE-، وإن كانت لها جذور فلسفية، بل هي طريقة أو إن صح التعبير قواعد لعبة للعيش المشترك والعيش في سلام بين الأفراد والأقليات والطوائف والإثنيات داخل المجتمع الواحد والوطن الواحد والدولة الواحدة. ولهذا تهدف العلمانية إلى تفعيل وتجسيد حقوق الإنسان. من هذا المنطلق العلمانية ترتكز على المبادئ الأساسية التالية:

1-حرية الضمير وحرية العبادة

2-   مساواة الجميع أمام القانون

3-   الفصل بين المؤسسات العمومية والهيئات الدينية

كما تقوم العلمانية على ضمان الحقوق والحريات التالية:

1-   تضمن للمؤمنين ولغير المؤمنين نفس الحق في التعبير عن معتقداتهم بحرية.

2-   تضمن حق تغيير الدين وحق الاعتقاد في أي دين أي تضمن حرية الاعتقاد وعدم الاعتقاد.

3-   تضمن حرية ممارسة العبادة للجميع.

هذه المبادئ التي ترتكز عليها العلمانية وهذه الضمانات التي تسعى لتحقيقها، تؤدي في نهاية المطاف إلى حياد الدولة تجاه الأديان والمعتقدات؛ أي إن الدولة تقف على مسافة واحدة من جميع الأديان.

العلمانية في اللغة العربية هي بالأساس ترجمة للكلمة الفرنسية – -la laïcitéوهو مفهوم مشتق من الكلمة اليونانية القديمة -laikos- والتي كانت تحمل معاني الشعب أي عامة الناس أو العامة، وعندما تحولت المسيحية إلى سلطة قهرية؛ وذلك بعد أن تبنت الإمبراطورية الرومانية المسيحية كديانة رسمية للدولة في القرن الرابع ميلادي على يد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين. ففي هذه الحقبة التاريخية من القرون الوسطى، تشكلت طبقتان داخل المجتمع البيزنطي، طبقة -laikos- وهو عامة الناس أي أفراد المجتمع المسيحي غير المتعلم، وطبقة -klerikos- وهم رجال الدين أو الكهنوت، وهي طبقة تحظى بامتياز المعرفة والسلطة والجاه والمال. وهكذا كانت كلمة laikos ترمز إلى عامة الشعب أو الدهماء الذين لا يملكون شيئا، وعلى العكس من ذلك كان رجال الدين يملكون المعرفة، السلطة والأسرار المقدسة. ولهذا كان من الطبيعي أن توضع القضايا الشعبية والعامية، وهي قضايا دنيوية بالأساس في الاتجاه المعاكس لمسائل الكهنوت وأمور المقدس، وهي مسائل أخروية في جوهرها.

تحولت كلمة -laikos- في السياق التاريخي الفرنسي إلى مصطلح له دلالة ومغزى وهكذا ظهر مفهوم la laicité الذي تم استخدامه في الكتابات الفكرية والدراسات الأكاديمية خاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وقد صاغه أحد أبرز المنظرين للعلمانية في ذلك العهد فرديا ندبويسن Ferdinand buisson كان ذلك في القاموس البيداغوجي الصادر سنة 1882، وفي سياق كان يتم فيه سحب بساط السلطة والنظام التعليمي من الكنائس إلى الدولة. ومن الواضح أن المفهوم ازداد شيوعا في الخطاب السياسي بصورة ملحوظة مع تزايد وتيرة العلمنة في التعليم والاجتماع والثقافة في نهاية القرن التاسع عشر. وفي بداية القرن العشرين، استحوذ المفهوم على نصيب الأسد في نسبة الانتشار، خاصة في أجواء كانت فيها عملية الفصل بين الدين والدولة جارية على قدم وساق، والذي تم الإعلان عنه رسميا سنة 1905.

وبعد هذا التاريخ، أصبحت كلمة اللائكية من الكلمات الأكثر استخداما والأكثر توظيفًا في الأوساط السياسية والفكرية الفرنسية المعاصرة، واللائكية اصطلاحا هي أن الدولة وبصفة عامة المؤسسات السياسية والإدارية منفصلة تمامًا عن المؤسسات الدينية، وبعبارة أخرى الدولة محايدة تقف على مسافة واحدة من جميع الأديان؛ فهي لا تتدخل في الدين والدين لا يتدخل في شؤون الدولة، فكل واحد في دائرته انطلاقا من مبدأ، أن الدين شأن خاص والمعتقدات الدينية مسألة شخصية وصحة العبادة كالصلاة مثلا قضية متعلقة بالضمير والنية. أما أمور الدولة وشؤون السياسية، فهي قضايا عامة. ومن هنا يمكننا تعريف اللائكية بأنها فصل العام عن الخاص، ومن البديهي القول إن السياسة تدخل في دائرة العام والدين يدخل في دائرة الخاص. العلمانية في الثقافة العربية هي أيضا ترجمة الكلمة الإنكليزية –sécularisme– والمعنى الذي كانت تحمله قديما هو الزمنية كما كانت تأخذ كذلك معنى الدنيوية؛ أي إنها القضايا المتعلقة بالزمن الذي نحياه والمسائل المرتبطة بالدنيا التي نعيشها، كما كانت أيضا تكتسب دلالة الجيل من الناس، كما اتخذت كلمة -spéculum- معنى خاصا في اللاتينية، حيث كانت تشير إلى العالم الزمني في اختلافه وتميزه عن العالم الروحي. بالإضافة إلى كل ذلك، فإن لفظة -saeculum- الإغريقية، عندما تحولت إلى كلمة لاتينية هي -saecularis- والتي كانت تحمل معاني القرن وحياة العالم، وبالتالي كان معناها كل ما ينتمي إلى القرن أي إلى العالم الزمني، وليس إلى عالم الروح عالم الدين والكنيسة.

ومن كلمة saeculum جاء مصطلح -sécularisme- الذي يعني ذلك النزعة العلمانية التي تسعى إلى جعل الأشياء دنيوية بإخراجها من خاصية الكهنوت وملكيته إلى عمومية العامة وملكيتها، وكذلك إخراج الشخص من جملة المقدس وجعله عاميا والشيء من الاستعمال الديني وتخصيصه للاستعمال الدنيوي.

وما نخلص إليه هو أن العلمانية كانت أفضل طريقة توصل أليها الفكر البشري لحلّ معضلة تسببت في كوارث، هي صداع الأصولية الدينية وإشكالية الدولة الثيوقراطية ولوضع حدّ لهم طالما أرّق الفكر البشري هو استغلال الدين لأغراض سياسية.

لمصطفى دحماني.

مؤسسة مؤمنون بلاحدودـ موقع حزب الحداثة

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate