اليسار والإسلام السياسي والديمقراطية
علاقة الاسلام السياسي واليسار في تونس، كما في العديد من البلدان التي يمثل فيها المسلمون غالبية السكان أو أقليات مضطهدة أو على الأقل معرضة إلى أشكال من الميز، ما انفكت تتأرجح في غالب الأحيان بين وطأة العداء الأيديولوجي وتأثيرات الشعبوية والحسابات السياسية الظرفية.
أما العداء الإيديولوجي فيقوم، من جهة الإسلام السياسي، على اعتبار الفكر اليساري فكرا دخيلا منبتا قوامه الإلحاد أو العلمانية –دون تمييز بين المفهومين- ومظهرا من مظاهر الهيمنة الثقافية للغرب الاِستعماري المعادي لهوية الشعب الإسلامية.
ومن جهة اليسار يقوم العداء على اعتبار الإسلام السياسي، ككل الحركات الدينية، جزءا من منظومة الهيمنة الطبقية ونوعا من الاِغتراب الذي يصرف الطبقة الشغيلة عن الوعي الحقيقي بأسباب ما يلحقها من استغلال واضطهاد وبسبل خلاصها وخلاص الطبقات المسحوقة معها عبر إقامة نظام اشتراكي ينتهي معه استغلال الإنسان للإنسان.
أما تأثيرات الشعبوية فقد كانت ومازالت تدفع في الاتجاه المعاكس، خاصة في صفوف اليسار الذي كثيرا ما انزلق إلى نهج سياسة المحاولات البائسة لسحب البساط من تحت أقدام الحركات الإسلامية بتبني بعض شعاراتها وتملق العواطف الدينية للشعب، وحتى مغازلة أطراف إسلامية أطراف إسلامية لإقامة تحالفات أو اتفاقات معها والتنكر في سبيل ذلك لما يتعارض في فكره وتقاليده مع مثل هذه المساعي. أما من جهة الحركات الإسلامية فالشعبوية ليست غريبة على أسسها الفكرية وعما طبع ممارساتها وتاريخها. وهي وإن لا تخفي سرورها بتنازلات اليسار لصالحها، فإنها كثيرا ما تقابلها بالسخرية والإحتقار. ولا يمنعها ذلك، خاصة عندما تتعرض إلى القمع والإقصاء، من السعي إلى إقامة تحالفات مع اليسار هدفها كسب مساندته وتأييده، والأهم من ذلك الحصول على مصداقية لدى أطراف تقيم لها وزنا أكبر، سواء على الساحة الداخلية أو على الصعيد الدولي، كما هو الحال بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية ودول المجموعة الأوروبية حيث تمكن الكثير من قيادييها من التمتع باللجوء السياسي وحتى تقبل بها هذه الدول كبديل يمكن التعويل عليه عند الحاجة. فدخولها في توافقات وتحالفات مع قوى تعادي فكرها، كما هو الحال بالنسبة لليسار “الشيوعي” “العلماني” “الملحد”، يرشحها لأن تكون حليفا يعول عليه لقوى ليس لها معها مثل هذا العداء. ولا مناص من الإقرار بأن حركات الإسلام السياسي التي أقدمت على مثل هذه التوافقات والتحالفات كانت الرابح الأول إن لم نقل الوحيد على حساب اليسار.
ولقد كانت الديمقراطية، وما يرتبط بها من دفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، أرضية التقاربات والائتلافات بين الإسلام السياسي واليسار، رغم أنها لم تكن من المقومات المميزة لكلا الطرفين.
فالإسلام السياسي يمثل، ككل أشكال الأدلجة الحديثة لمختلف الأديان، رد فعل على الديمقراطية باعتبارها “هرطقة” أو “نحلة ” الأزمنة الحديثة (l’hérésie des temps modernes) على حد تعبير رموز المسيحية السياسية، وهو يرفض الديمقراطية ، باسم الحاكمية الإلاهية، ويعمل على إقامة “الدولة الإسلامية” بدل دولة تجسد سيادة الشعب، ويعتبر الشريعة قانونا إلاهيا أزليا صالحا لكل زمان ومكان على الدولة الإلتزام به وتطبيقه بدل القوانين الوضعية والمرجعيات الدولية لحقوق الإنسان.
واليسار، وبصورة خاصة فصائله الملتزمة بالمرجعية الماركسية، قام على أساس تحقير الديمقراطية الليبرالية باسم ديكتاتورية البروليتاريا أو “الديمقراطية الشعبية” ويعتبر حقوق الإنسان – خاصة ما يتعلق منها بالحريات- حقوقا شكلية للإنسان البورجوازي. وبناءا على ذلك برر صراحة أو ضمنيا ما اقترف من جرائم وما قامت به الديكتاتوريات المنضوية تحت حلف فرسوفيا وغيرها من النظم الإشتراكية. ورغم أن اليسار في تونس لم يتورط في أعمال عنف مثل الإسلاميين فإن سكوته على هذا الجانب من تاريخ النظم الإشتراكية يحد من مصداقية تبنيه للديمقراطية. ولا يكمنه تبريرهذا السكوت بانحيازه في تونس إلى جانب المجتمع المدني والقوى الديمقراطية للدفاع عن الحريات وعن حقوق الإنسان ومكاسب الحداثة سواء ضد النظام السابق أو ضد حكومـة الترويكا وضد التوجهات الاستبدادية باسم الدين لحركات الإسلام السياسي بما فيها حركة النهضة.
ولقد عرفت علاقة اليسار بالإسلام السياسي في تونس مراحل تتالت وتزامنت خلالها علاقات العداء والتحالفات أو التقاربات. ويمكن التأريخ لهذه العلاقة منذ تشكلت النواتات الأولى للحركة الإسلامية في بداية السبعينات من القرن العشرين حين كان اليسار المعارضة الأساسية للنظام البورقيبي. وقد سعت وقتها الحركة الإسلامية للتقرب من السلطة والتعاون معها – رغم معارضتها لعدد من مظاهر التحديث لسياسة بورقيبة- على حساب اليسار، مستفيدة من المنابر التي وفرها لها النظام مثل جمعيات المحافظة على القرآن والنشاط الدعوي في المساجد وجريدة المجتمع ومجلة المعرفة المرخص لهما بالصدور على مطابع الحزب الدستوري. وكان العمل الدعوي من خلال هذه المنابر لا يخلو من مواقف سياسية تنتقد ما تعتبره سياسة تغريب تتناقض مع الهوية الإسلامية للبلاد ومن حملات عدائية على الفكر اليساري عامة والفكر الشيوعي الماركسي على وجه الخصوص، مركزة على ما تقوم في المادية الجدلية والمادية التاريخية من إلحاد تعتبره الحركات الدينية مدخلا للإباحية وللتفصي من القيم الأخلاقية، فضلا عن اعتبار الإشتراكية – كنظام اقتصادي واجتماعي- منافية للتصورات الدينية التقليدية القائمة على تبرير قيم الملكية و التمايز وعلاقات الإستغلال باسم الدين. وقد اعتمدت الحركة الإسلامية الناشئة، خلال هذه الفترة، على توجهات وزير التربية آنذاك، محمد مزالي، وعلى النهج الإقتصادي الليبرالي لحكومة الهادي نويرة، لتنخرط في سياقها مركزة على الإلتقاء معها على أرضية العداء للإشتراكية ولمطالب اليسار المتعلقة بالعدالة الإجتماعية وبرفض الطبيعة التسلطية للنظام. فكانت مقالات “المجتمع” و”المعرفة”، بإمضاء رموز الحركة الإسلامية الناشئة، تبرر وتسند إيديولوجيا الملاحقات البوليسية وحملات القمع والتشويه التي ما انفكت تستهدف اليسار طوال ستينات وسبعينات القرن العشرين. وكان اليسار يجد في مواقف الحركة الإسلامية ما يؤيد اعتبارها مكونا من مكونات منظومة الاستبداد والهيمنة الطبقية المعادية للتقدم ولمصالح الطبقة العاملة ولمطامحها الرامية للإنعتاق وتخليص الفئات الشعبية من نير الِاستغلال والاِضطهاد. وقد كان ذلك منطلقا لتباين اليسار في تونس مع قوى اليسار في الشرق الأوسط المتحالفة مع الإسلام السياسي، وبصورة خاصة في إيران إبان الثورة على نظام الشاه في 1979.
وقد ساندت الحركة الإسلامية في تونس نظام الخميني وانقلاب هذا الأخير على القوى اليسارية التي تحالفت معه، بما فيها الحركات التي ذهبت إلى حد التنكر لتوجهاتها وتبني جزء كبير من برنامج الحركة الدينية في إيران، على غرار “مجاهدي خلق” أو مجاهدي الشعب. وكان موقف الإسلاميين في تونس، بزعامة الغنوشي وعبد الفتاح مورو، من تطورات الوضع في إيران في ظل “الجمهورية الإسلامية” من العوامل التي زادت في تغذية علاقات العداء بينها وبين اليسار.
ومن تأثيرات الثورة وقيام “الجمهورية الإسلامية” في إيران تنامي التوجه السياسي للحركة الإسلامية الناشئة في تونس وطغيان هذا التوجه على الجانب الدعوي الذي كانت تتخفى وراءه. وفي هذا الإطار تم الإعلان عن حركة الإتجاه الإسلامي خلال فترة الاِنفتاح التي تلت عملية قفصة سنة 1980 مع ارتقاء حليف الحركة الإسلامية محمد مزالي لرئاسة الحكومة خلفا للهادي نويره. وكان البيان التأسيسي للاِتجاه الإسلامي بزعامة الغنوشي واضحا من حيث الأهداف وطبيعة الحكم الذي يسعى إلى إقامته في تونس والذي لا يخرج عن رؤية الإخوان المسلمين وتصورات الإسلام السياسي بمختلف تعبيراته : العمل على تشييد الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة على أنقاض الأنظمة المستوحاة من الإيديولوجيات الغربية وقوانينها الوضعية المنافية لتعاليم الإسلام والمتناقضة مع الهوية الدينية للشعب والبلاد والدولة التونسية. وقد أدى هذا التحول إلى حصول انقسامات في صفوف الحركة الإسلامية ذاتها إذ انفصلت عنها مجموعة الإسلاميين التقدميين الملتفة حول مجلة ” 15/21″-;- بزعامة حميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي. وانعكس ذلك على النظام نفسه حيث تباينت المواقف بين التيار البورقيبي المهيمن، بزعامة محمد الصياح، وتيار محمد مزالي الراغب في إدماج الحركة الإسلامية والتعامل معها. وانقسمت المعارضة، بما فيها اليسار، بين من يرى في تباين الحركة الإسلامية مع النظام دعما لصفوف المعارضة وداعيا للتقارب معها ومد اليد لها، بل والتحالف معها، من جهة، ومن رأى في بروز الإتجاه الإسلامي كحركة سياسية نموذجها النظام الإيراني خطرا على المكاسب الحداثية للبلاد. وذهب البعض إلى حد الدعوة للتقارب مع نظام بورقيبة لمواجهة هذا الخطر. وفي مقابل هذين الموقفين دافع تيار ثالث من اليسار عن رؤية ترفض الِاستقطاب وتدعو للتباين مع الإسلام السياسي ومع النظام في نفس الوقت، والعمل على بناء قطب ثالث بديل قوامه مناهضة النظام القائم والتصدي للمشروع الإسلامي.
ولئن صفق البعض في صفوف اليسار لما أصبح يستهدف الإسلاميين من قمع وإقصاء، فإن البعض الآخر رأى ذلك تبريرا لمواقفه الداعية للتحالف مع الاتجاه الإسلامي، في حين التزم الاِتجاه الثالث بتباينه مع التوجهات الرجعية للإسلام السياسي مع تنديده بما يستهدفه من قمع، وطالب السلطة بالكف عن ملاحقة التيارات المعارضة على اختلاف رؤاها السياسية والإيديولوجية والدينية من أجل أفكارها وممارسة الحريات التي يضمنها دستور البلاد والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وأن لا يتدخل في ما يدور من نقاشات ومواجهات بين مختلف الرؤى إلا فكريا. ( أنظر مقالي المنشور في مجلة الموقف بتاريخ 17 أوت 1984 “على هامش قضية مقال الشاعر أولاد أحمد : نداء إلى من يهمهم مصير مكاسب الشعب الديمقراطية” ).
وقد استمرت الخلافات – متعمقة أحيانا ومتراجعة أحيانا أخرى – في صفوف الإسلاميين كما في صفوف االنظام والمعارضات، بما فيها اليسار، خلال ثمانينات وتسعينات القرن العشرين وبداية هذا القرن حتى ثورة 210-2011. فداخل الإسلام السياسي، وحتى داخل حركة الاِتجاه الإسلامي ووريثته حركة النهضة – رغم دور القمع في تماسك الصفوف ولو ظاهريا–، لعبت أزمات الإسلام السياسي ومآزقه– في إيران والسودان وأفعانستان والصومال والجزائر وفي كثير من البلدان والأوساط الإسلامية – في اتجاه بروز توجهات متباينة إلى حد المصادمات والتكفير فيما بين الداعين إلى إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة – عوضا عن النظم والقوانين الوضعية المستوحاة من الغرب- بكل الوسائل بما فيها العنف المسلح، والقائلين بضرورة تحديث الفكر الإسلامي والقبول بالتعايش السلمي مع كل التيارات، والتنافس معها في إطار الديمقراطية ، مثلما نادي بذلك الإسلاميون التقدميون ودعاة الإسلام الليبرالي في العديد من البلدان. وانعكست هذه الخلافات داخل حركة النهضة بين دعاة السلفية بتوجهاتها الدعوية الجهادية، من جهة أولى، والراغبين في التصالح مع النظام من جهة ثانية والراغبين في التحالف مع قوى المعارضة بما فيها اليسار من جهة ثالثة. وقد أبدت أطرافها المتعاملة مع اليسار بعض القبول بمستويات متفاوتة من الديمقراطية تتدرج من اختزالها في الإنتخابات كوسيلة للوصول إلى الحكم، إلى نبذ العنف وتبني مبادئ الحرية والمساواة وحقوق الإنسان في إطار التلاؤم مع ما يعتبرونه من “ثوابت الشريعة”. وفي هذا الإطار جاءت موافقة ممثلي هذا التوجه على النصوص الصادرة عن ائتلاف 18 أكتوبر بين الإسلاميين وعدد من مكونات المعارضة واليسار. وفي نفس الوقت الذي كانت فيه بعض الأطراف الإسلامية – في صفوف النهضة و وخارجها- تمد يدها للمعارضة واليسار كانت أطراف أخرى تسعى إلى التصالح مع النظام عبر قنوات مختلفة مثل صخر الماطري، صهر بن علي المرشح لخلافته، وبعض دول الخليج والمجموعة الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية.
وفي صفوف النظام، رغم إزاحة محمد مزالي وأنصاره، تواصلت الإختلافات بين من يراهنون على تطبيع الإسلام السياسي والتعاون معه ومن يدعون إلى استئصاله بكل الوسائل.
أما في صفوف اليسار والمعارضات الديمقراطية فقد تعمقت الاِختلافات بين التوجهات التي برزت منذ بداية ثمانينات القرن العشرين وإن أخذ البعض مكان الآخر في قبول التوافق مع الإسلام السياسي ومعارضته[1] في حين تميزت مواقف “التجمع الاِشتراكي التقدمي ووريثه “الحزب الديمقراطي التقدمي” بعدم الثبات على موقف واحد مراوحا بين القبول والرفض بهذا التعاون. وقد عرفت باقي تيارات المعارضة نفس الإختلافات التي شقت صفوف اليسار.
ثم جاءت مفاجأة الثورة لتقلب كل المعادلات التي عرفتها فترة المواجهة لنظام بن علي.
فانهيار النظام وحل التجمع الحاكم والبروز العلني لحزب التحرير الإسلامي وللجماعات السلفية الرافضة للديمقراطية، واكتساحها للجوامع والفضاءات العمومية للدعوة لتصوراتها بكل الوسائل بما فيها العنف، أدى إلى تغييرات جذرية في مواقف جل الأطراف.
أما حركة النهضة فقد تراجعت عن التنازلات التي قدمتها للتيارات اليسارية والديمقراطية في إطار ائتلاف 18 أكتوبر حتى لا تترك للجماعات السلفية ولحزب التحرير راية الدعوة لإقامة الدولة الإسلامية ولتطبيق الشريعة، وحتى تأخذ نصيبها من الجوامع المفتكّة من أئمة نظام بن علي ومن وزارة الشؤون الدينية، مسفهة بذلك أحلام من أعلنوا قبل الأوان تحولها إلى حزب ديمقراطي مدني. وقد أدى ذلك إلى نهاية ائتلاف 18 أكتوبر وقيام تحالفات جديدة سبقت سريا الإنتخابات التأسيسية وتجسدت علنا في حكومة الترويكا.
وخلال الفترة الممتدة بين هذا الإرتداد عن مواقفها، قبل وبعيد، وطوال فترة الإعداد لانتخابات المجلس التأسيسي وحتى الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014، تميزت سياسة النهضة بإعطاء الأولوية لمرجعيات الفكر الإخواني ولتحالفها مع تفرعات الإسلام السياسي، بما فيها الجماعات السلفية الممارسة للعنف، للإعتماد عليها من أجل الحفاظ على مواقعها في السلطة ولتحقيق مشروع “أسلمة ” المجتمع والثقافة والدولة بكل الوسائل. وتجلى ذلك خلال فترة حكم الترويكا وفي إطار النقاشات المتعلقة بالدستور وبالقوانين والهيئات الخاصة بالصحافة والانتخابات والعدالة الِانتقالية…
ولولا ما آل إليه مصير الإخوان المسلمين في مصر نتيجة انقلاب السيسي، وتجند المجتمع المدني حول الحوار الوطني، إضافة إلى الضغوطات الخارجية لما قبلت حركة النهضة مكرهة بالتوافق مع نداء تونس على أرضية ما اتفق عليه الشيخان في باريس في صيف 2013، على حساب المطالب الديمقراطية للمجتمع المدني وكل القوى المناهضة لمشروع النهضة ولسياسة الترويكا في إطار جبهة الإنقاذ. ورغم الأمل الذي زرعته نتائج الجبهة الشعبية في الِانتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2014، فإن أزمة اليسار والِانقسامات التي كانت من عوامل تهميشه وعجزه على التحول إلى قوة فاعلة، تواصلت إن لم نقل تفاقمت إلى حد بات يهدد بنسف ما حققته من مكاسب ضئيلة وبفقدان مواقعه في النقابات وبعض منظمات المجتمع المدني التي يمارس من خلالها أنشطته الِاجتماعية والثقافية والسياسية. ومما سهل على خصومه تهميشه، عجزه عن توحيد صفوفه قبل الدخول في تحالفات مع خصومه سواء في المعارضة أو من أجل المشاركة في الحكم والاِقدام على تحمل المسؤوليات والتأثير على مجرى الأحداث. فكان بذلك ضحية من ضحايا التحالف بين حركة النهضة والجناح الأكثر رجعية في نداء تونس بعد أن اعتمد عليه هذا الأخير للوصول إلى الحكم بعد أن جنى نفس النتائج من تحالف بعض فصائله مع النهضة حيث ساعدها على الخروج من عزلتها وكسب مصداقية في الداخل وفي الخارج دون أن يعود عليه ذلك بأي فائدة. ومن بين أسباب هذا العجز – فضلا عن أزمة اليسار في سائر بلدان العالم- تلك المفارقة العجيبة المتمثلة في قبوله بتحالفات واتفاقات مع خصومه رغم أهمية ما يفصله عنها فكريا وسياسيا، وتهويله للتناقضات في صفوفه بصورة جعلت إلى حد الآن العلاقات بين مكوناته أكثر عدائية وإقصاء منها مع الخصوم رغم ثانويتها بالنسبة إلى التناقضات مع هؤلاء. فهو نظريا يقول بمبدإ إخضاع التناقضات الثانوية للتناقضات الرئيسية وعمليا يمارس العكس.
وما تشترك فيه أهم فصائل اليسار مع الإسلام السياسي موقفها من مسألة الديمقراطية. فهي تطالب الإسلام السياسي بأن يقطع بوضوح مع ما يتعارض في فكره وممارساته وتراثه مع الديمقراطية – مثل المطالبة بإقامة دولة إسلامية وبتطبيق الشريعة وما يترتب عن ذلك من خلط بين الديني والسياسي وتمييز بين المواطنين على أساس الجنس أو المعتقد، إلخ.- وهي على حق في ذلك، إذ من دون مثل هذا القطع وبمثل هذا الوضوح لا يمكن الكلام عن تحول أي فصيل من حركات الإسلام السياسي إلى حركة ديمقراطية.
ولكن هذه المطالبة تبقى دون مصداقية، بل ومثيرة للسخرية، عندما تصدر عن أفراد وفصائل صارت تتكلم عن الديمقراطية وعن الحريات وحقوق الإنسان دون أن تقطع بوضوح مع ما في فكرها وممارساتها السابقة، بل والراهنة في العديد من الأحيان، من تناقض مع الديمقراطية وحقوق الإنسان، مثل الدفاع عن “دكتاتورية البروليتاريا” أو “الديمقراطية الشعبية” التي كانت غطاء لأنظمة كليانية لا تقل تسلطا عن أعتى أشكال التيوقراطية، فضلا عن التحقير من شأن الحريات باسم أولوية الحقوق الاِجتماعية والاقتصادية، إلخ.
ولئن لم يتورط اليسار في تونس مثل حركات الإسلام السياسي على اختلاف توجهاتها في أشكال من العنف والإرهاب والفساد، وانحاز بوضوح إلى جانب المجتمع المدني والقوى المدافعة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وعن الحريات، مثلما سبق تذكيره، فإن ذلك لا يقلص من أهمية ما عليه أن يقوم به حتى يصبح جزءا من الحركة الديمقراطية ذا مصداقية. ولعل ذلك من شروط خروجه من أزمته لا فقط في تونس بل وفي سائر بلدان العالم.
لمحمد شريف الفرجاني
الحوار المتمدن ـ موقع حزب الحداثة