فلسفة التعايش والحوار بين الحضارات
في عصر العولمة، أصبح الحوار بين وجهات النظر ونظم القيم المختلفة، والمتناقضة ربما- كما تجسدها حضارات العالم- ضرورياً لتحقيق السلم العالمي. يكتسي اللقاء بين الثقافات والحضارات أهمية جديدة بوصفه عنصراً من عناصر النظام العالمي، بناء على الوعي الفلسفي بأصول «حياتنا-عالمنا» العابرة للثقافات. وقد أصبح الحوار عنصرا جوهريا من عناصر التماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي، لا سيما في الدول المترامية الأطراف ذات الثقافات المتعددة أو تجمعات الدول (مثل الاتحاد الأفريقي أو الاتحاد الأوروبي).
من المهم التأكيد، على ضوء اختلال توازن القوى على الصعيد العالمي (سواء من الناحية العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية) أن الحوار الموثوق والمستدام بين الثقافات والحضارات لا يمكن أن يتحقق إلا على أساس الاحترام المتبادل، الذي يعني القبول بتساوي جميع الثقافات بالمعنى المعياري. ومن ثمة، تتطلب التأويليات الثقافية مقاربة لا تمييزية تعالج الثقافات والحضارات، وإن لم تكن متطابقة في الواقع، بما هي تجليات لروح الإنسانية الكونية نفسها.
والحوار سمة أساسية في الوعي الفكري بالإنسان، أكان فردا أم جماعة، وهو يتحقق في إطار شمولي ومتعدد الأبعاد، ولا يمكن عزله عن وقائع الحياة-العالم (بما في ذلك الظروف السياسية والسوسيو اقتصادية الخاصة التي يجري فيها). وفي الآن ذاته، لن يصير الحوار موثوقا- ولن ينجح من ناحية السياسة الواقعية- إذا حاول طرف ما استغلال التفوق الذي قد يتمتع به في لحظة تاريخية معينة في المجال الاقتصادي أو الاجتماعي أو العسكري.
ثمة فيما يتصل بالنظام العالمي علاقة معقدة، وترابط بالفعل، بين الحوار والتعايش السلمي، ينبغي أن تعي بها فلسفة الحضارة، ولا سيما التأويليات الفلسفية:
أ. من الناحية الأولى، يعد حوار الحضارات مطلباً أساسياً لتحقيق السلم والاستقرار العالميين. وقد يساهم في نظام عالمي تدركه شعوب العالم بوصفه نظاماً عادلاً.
ب. ومن الناحية الثانية، يمثل نظام عالمي عادل ومتوازن شرطاً أساسياً للحوار، ما دام أي لقاء بين الحضارات لا يحصل في فراغ سياسي وسوسيو اقتصادي.
لا تنتج «دائرة الحوار التفاعلية»، كما نود أن نسمي هذه العلاقة المترابطة، عن تناقض منطقي، ولا تدل عليه. إنها شبيهة من الناحية البنيوية بالترابط القائم في فعل الفهم الإنساني (Verstehen)، الذي يصفه «غادامر» بالدائرة التأويلية، في كتابه الحقيقة والمنهج. يجب على التأويليات الثقافية أن تولي الاهتمام بهذا الترابط.
عندما حُدِّد «صدام الحضارات»، خلال التسعينيات، بوصفه تهديداً رئيساً للنظام العالمي، أكد الجميع تقريباً، بما في ذلك «صامويل هنتنغتون» الداعية الأول لذلك الأنموذج، على الالتزام بالحوار أساساً للسلم الدائم بين الأمم. تجلى هذا الإجماع، وإن كان سطحيا، في الخطاب العالمي المعاصر حول التعايش السلمي، الذي صاغته العديد من التصريحات الرسمية والمبادرات الدبلوماسية ومؤتمرات القمم، إلخ. وكلها مكرسة لتلك الغاية النبيلة التي لا يجرؤ أحد على رفضها. ووجد الإجماع شبه العالمي تعبيره السياسي في إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة 2001 «سنة الحوار بين الحضارات»، وفي عقد ما سمي بـ «تحالف الحضارات» (سنة 2005) بمبادرة مشتركة بين الوزيرين الأولين لإسبانيا وتركيا.
غير أنه في معظم الحالات، تم ببساطة تجاهل الشروط المسبقة للحوار الفعال والهادف في إدارة السياسة الواقعية الدولية. هنا تبرز فلسفة الحوار، بما هي تفكير وتصحيح لاستغلال الاختلافات الحضارية والثقافية لأغراض خفية، غالباً ما تكون مرتبطة بتأكيد السلطة والمصالح الوطنية.
سأحاول بإيجاز تحديد المبادئ والمقتضيات التي يجب الاعتراف بها، ليصبح «حوار الحضارات» سمة مستدامة في العلاقات الدولية:
- مساواة الحيوات-العوالم الحضارية (الثقافية)، بما في ذلك نظم القيم، بالمعنى المعياري: يستبعد هذا الأمر أي موقف من مواقف الرعاية التي تمارسها حضارة (ثقافة) على أخرى. من هنا، قد يقول قائل إن ‘المساواة في السيادة’ ليست فحسب سمة تصف الدول بوصفها كيانات خاضعة للقانون الدولي، بل أيضاً مبدأ يعكس حق الشعب غير القابل للتصرف في الهوية الحضارية والثقافية.
- الوعي بــ «جدلية» الفهم الذاتي الثقافي وإدراك الذات: لا يمكن للحضارة (الثقافة) أن تفهم ذاتها تماما، ومن ثمة تدرك هويتها، إلا إذا كانت قادرة على الارتباط بــ «الآخر» بما يعنيه من تعبير مستقل عن وجهات نظر ونظم قيم متمايزة، لا تمثل مجرد نتاج حضارة (موروثة) معينة. تشبه سيرورة الإدراك الذاتي الحضاري أو الثقافي من الناحية البنيوية كيفيةَ تحقيق الفرد الوعي الذاتي؛ إذ ينطوي الانعكاس ‘reflexion’ (المشتق من المصطلح اللاتيني ‘re-flexio’) ضمنا على أن الذات تنظر إلى نفسها من منظور خارجي، جاعلة نفسها موضوعا للإدراك («جدلية الذات- الموضوع». لقد أوضحت فلسفة العقل، لا سيما منذ «فيشته» و«كانط»، أن الوعي الفردي بالذات هو تركيب ينشأ عن سيرورة جدلية تحدد فيها الأنا نفسها في علاقتها بــ «الآخر» (بمعنى ‘de-finitio’؛ أي رسم الحدود). وينطبق هذا الأمر أيضاً على الوعي الذاتي الجماعي بحضارة أو ثقافة معينة. لن تبلغ حضارة ما مقامَ النضج (بمعنى تطورها الداخلي)، إلا إذا كانت قادرة وراغبة في رؤية ذاتها عبر عيون «الآخرين». وحده هذا الأمر هو ما سيسمح لها بالتغلب على الخوف من «الآخر» بوصفه «غريباً»، ومن ثمة على الانخراط في التفاعل العالمي مع حضارات أخرى.
- الاعتراف بالأعراف السامية أساساً للحوار: هذه الأعراف المستمدة من المساواة المعيارية بين الحضارات هي، على المستوى الفوقي، سابقة من الناحية المنطقية عن الأعراف المادية؛ إذ يجب أن يقبل بها جميع الشركاء في أي مبادرة بناءة إلى الحوار. يمثل «التسامح» و«التبادل» (الاحترام المتبادل) مثالين دالَّين على الأعراف السامية؛ إذ يمكن أن يفهما بوصفهما قيمتين رسميتين تجعلان التفاعل بين الحضارات أمراً ممكناً في أي حال من الأحوال. وعلى النحو ذاته، لا تقبل هذه الأعراف التفاوض؛ كونها «شروط الإمكان» (Möglichkeitsbedingungen) لأي سيرورة تدرك من خلالها حضارة فردية ما نظامها القيمي الخاص؛ أي المتميز من الناحية المادية. وبالنظر إلى طبيعتها (الرسمية) العامة بوصفها شروطاً قبْلية شبه متعالية بالمعنى الكانطي، فهي لا تنسب إلى حضارة معينة فقط؛ ذلك أن وضعها كوني على نحو جلي؛ أي عابر للثقافات.
- القدرة على تجاوز الدائرة التأويلية لتأكيد الذات الحضارية: يجب على أي مجتمع حضاري أو ثقافي معين، ليصير قادراً على موضعة نفسه مشاركا حقيقيا في التفاعل العالمي بين الثقافات والحضارات، أن يتجاوز ما وصفه هانز جورج غادامر بــــــ’Wirkungsgeschichte’ «تاريخ التلقي». يشير غادامر بهذه العبارة إلى الأثر الحصري لتقاليد المجتمع «الأصيلة» في الهوية السوسيوثقافية؛ إذ يمكن أن تجسد الإشارةُ إلى المركزية الأوروبية بوصفها سمة أساسية في تشكل هوية «الغرب» الجماعية هذه المعضلة التأويلية بدقة أكبر. لقد اعتادت أمم الحضارة الغربية، على مدى مئات السنوات، على نشر رؤيتها إلى العالم ونظامها القيمي وأسلوبها الحياتي في «باقي» العالم، وهي عملية صاحبتها في الغالب استراتيجية تروم إعادة تشكيل- أو إعادة تعريف- هوية تلك الثقافات والحضارات الأخرى. ومقابل هذه الخلفية، ظلت التبادلات الثقافية الدولية في الغالب مجرد لقاءات ذاتية- أو «مناجاة حضارية»- مع فاعل مهيمِن، غير أن أي حضارة لن تستطيع فهم ذاتها فهماً كاملاً، وتحديد مكانها في حقل الأفكار العالمي، إلا إذا كانت راغبة وقادرة على الاشتباك بشكل بناء مع تصورات العالم التي تطورت بصورة مستقلة عن نفسها؛ أي تلك التي لم تشكلها بعد تلك الحضارة الخاصة. هذا هو جوهر جدلية فهم الذات الحضارية أو تحديد الذات. فإذا اتبعنا مجدداً أصل كلمة ‘de-finitio’ اللاتيني، سنجد أنها تعني القدرة على رؤية ما يقع وراء الحدود (الحضارية)، وعلى فهم حضارة الفرد أو ثقافته فيما يتصل بالآخر، مع الحفاظ في الآن نفسه على نزاهة موقف الفرد- وتطويرها قلباً وقالباً.
قد تساعد فلسفة الحوار، وفق المبادئ والمقتضيات الأربعة حول فهم الذات وإدراك الذات التي أجملتها، على فهم وقائع التنوع الحضاري والثقافي الأكثر تعقيداً على الإطلاق، على الأصعدة العالمية والإقليمية والمحلية. فمن الضروري أن تعترف السياسة بالحضارات والثقافات في تعددها القائم، وأن تتبنى جملة من القواعد المحددة بوضوح، تضمن احترام الحق في التنوع على أساس التبادل. وكل رفض لهذا المبدأ (الحق في التنوع) يصير وصفة للصراع قد تهدد استقرار النظام السياسي، بل وبقاء نظام الحكم نفسه على المدى البعيد.
لقد ولّى زمن اتخاذ تدابير لضمان «واقع ثقافي أحادي» – أو لإعادة تأسيسه- خاصة في بلدان أوروبا التي قدحت شرارة تطور متعدد الثقافات، وإن عن غير قصد، في البداية عبر الكولونيالية، ولاحقاً عبر عولمة الاقتصاد (هذا الأخير جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية). ولا يمكن وقف أو «قطع» الحركيات الثقافية التي نشّطتها هاتان السيرورتان التاريخيتان على حين غرة، مثلما لا يمكن قلب سيرورة التصنيع من أجل انبعاث الحنين إلى اللقاء مع الطبيعة، كما كان قبل العصر الحديث.
يجب على السياسة المسؤولة أن تخلق الإطار التنظيمي الذي يمكن أن تتطور فيه هويات ثقافية وحضارية متمايزة- ومتباعدة في الغالب (ليس فقط من الناحية الجغرافية) -وأن تتفاعل دون تهديد استقرار النظام العالمي، ودون إقصاء بلد ما من بقية العالم. إن التزامن بين حضارات متمايزة، كل منها يشهد مرحلة مختلفة من حيث تشكل الهوية، وفي المكان نفسه، في المدينة (polis) نفسها، لَيُمَثِّل تحدّياً وجودياً لا يمكن أن يتهرب منه صناع القرار خشية أن «يعاقبهم التاريخ». وهذا أيضاً هو تحدي التعددية الثقافية الذي تواجهه أوروبا في بداية القرن الحادي والعشرين.
يجب أن يتذكر أولئك المنخرطون في خطابة وسياسة التعايش والشراكة بين الحضارات- وهم يمثلون بالتأكيد غالبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، خاصة تلك المجتمعة في «تحالف الحضارات» – مبادئ الحوار الفلسفية التي لا تسمح بسياسة «المعايير الحضارية المزدوجة». تستلزم المساواة بين التعبيرات الحضارية الاعتراف المتبادل. ويجب على الدول أن تكون مستعدة لتمنح بعضها البعض ما تطالب به لنفسها (من حيث السيادة الوطنية). إن إعمال مبدأ المعاملة بالمثل على قضايا الهوية الجماعية يعني أن الدول ينبغي أن تستنكف عن أي ادعاء بالتفوق أو الهيمنة الحضارية. ومن الناحية التاريخية، وفي كثير من الأحيان، خاصة منذ زمن «حلف أوروبا المقدس» (خلال القرن التاسع عشر)، استخدمت دول قوية الحضارة لشرعنة ما سمي بــ «التدخلات الإنسانية»، التي كانت حروباً عدوانية في الواقع. من هنا، يجب أن تتضمن سياسة الحوار العالمي- سواء داخل الأمم المتحدة أو خارجها- مبدأ المعاملة بالمثل حتى تكتسب المصداقية وتكون مستدامة.
لقد أغرق الواقع المتعدد الثقافات، الذي أضحى أمراً واقعاً في أنظمة سياسية عديدة ظلت تعرّف نفسها لحد الآن وفقا لتقاليد الدولة-الأمة، في أزمة هوياتية عميقة. وما لم يتم الاعتراف أيضاً بالواقع الجديد على الصعيد العالمي، سيدخل العالم حقبة المواجهة الدائمة على طول الخطوط الحضارية. ومن ثمة، لا يمكن لأولئك الذين ينهضون بغاية الحوار على الصعيد الدولي أن يفعلوا ذلك بمصداقية وثبات إلا إذا اعترفوا بالحقوق المتساوية للأقليات الثقافية والدينية في بلدانهم. وفي عصرنا المتسم بالترابط العالمي، يرتبط «السلم في الوطن» و«السلم في العالم» ارتباطاً جوهرياً.
يجب أن يفسح الحنين إذن إلى الثقافة الأحادية المجال للانفتاح بين الثقافات والفضول الحضاري، اللذين سيضمنان وحدهما جدوى النظام السياسي ونجاحه على المدى البعيد (بما في ذلك التنافسية الاقتصادية) في ظروف ترابطٍ أضحى أكثر تعقيداً من أي وقت مضى بين المجتمعات المتنوعة ثقافيا على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية. لا يقصي هذا الأمر، بحسب جدلية فهم الذات الموصوفة آنفا، تأكيد هوية وطنية متميزة بأي حال من الأحوال.
يتجذر احترام نظام القيم لدى بعضنا البعض في حقوق الإنسان الأساسية (الفردية والجماعية)، التي أكدها المجتمع الأممي بشكل رسمي في مناسبات متكررة منذ سنة 1948. وكما قلنا في البداية، تمثل قيمتا الحرية والتسامح، اللتان تعبران عن جوهر الكرامة الإنسانية، معيارين على أساس المعاملة بالمثل. وهما شرطان مسبقان للتمتع بحقوق اجتماعية وثقافية متميزة وخاصة تحددها جملة الثقافات والحضارات التي تشكل عالم اليوم، وهي كونية بهذا النحو. فضلاً عن ذلك، «من الضروري التوصل إلى توافق تصير بموجبه معايير معينة كونية وأخرى ثقافية وخاصة» قصد تطوير روح عالمية- بما هي أساس التعايش السلمي، كما صرح بذلك عن حق المشاركون في المؤتمر حول حوار الحضارات سنة 2001 في كيوتو. كما دعوا إلى «حوار محترم بين أعضاء الحضارات المختلفة»، مشددين على أنه «لا ينبغي إصدار أي حكم حول أعراف الثقافات الأخرى ما لم يعالج المرء أولا أعرافا مماثلة في ثقافته بنفس نقدي».
يتغذى الحوار، بحكم طبيعته -بما هو بحث عن التفاهم والتعايش المتبادلين- من موقف الانفتاح على التعابير الإنسانية المختلفة، بصورة متزامنة ومتعاقبة. ففي كل الحقب التاريخية، تطورت الإنسانية وعبرت عن نفسها بمجموعة متنوعة من الحيوات -العوالم و«الآفاق المعرفية» – وهي سيرورة تتواصل وتتسارع في زمننا، الذي اعتدنا على الإشارة إليه بالحقبة العالمية. إن «نهاية التاريخ» لم تَأتِ بعد، بخلاف ما أعلنه أحد المدافعين عن التفوق الغربي («فرنسيس فوكوياما»). وليس بمقدور أي حضارة، سواء كانت شرقية أو غربية، شمالية أو جنوبية، أن تدعي أنها نموذجية. ويبقى الحوار بين الحضارات مشروعاً مفتوحاً.
ما من بديل، في العصر النووي، يغني عن التعايش بين الثقافات والحضارات التي تقبل ببعضها البعض على قدم المساواة. لقد أصبح الحوار شرطا للبقاء الجماعي.
لهانس كوكلر ترجمة حميد لشهب
مؤسسة مؤمنون بلاحدودـ موقع حزب الحداثة