قراءة في كتاب العـــودة إلى إيمانـويل كانـط

لا يمكن الحديث عن فلسفة التّنوير دون الحديث عن إيمانويل كانط (1724/1804)، الّذي حلت يوم 22 أبريل 2024، الذكرى المئوية الثالثة لميلاده. ولإيمانويل كانط، كما يعلم الدارسون للفلسفة، كتب مهمة، مثل “نقد العقل المحض“، و”نقد ملكة الحكم“، و”نقد العقل العملي“، وكلّ هذه الكتب، كما يبدو من عناوينها، نقديّة، ولا غرابة في ذلك إذا علمنا أن الحداثة الغربيّة ترتكز على النّقد، بل إن من مبادئ التّفكير الفلسفي أنّه تفكير نقدي.

ومن الملاحظ أن هذا النّقد لم يعد يمارس في أوروبّا الحديثة بالشكل الّذي كان عليه، خصوصاً في السّنوات الأخيرة، ممّا جعل الكثير من المفكرين والمثقفين المعاصرين ينظرون بنظرة الشكّ والريبة إلى الفكر الأوروبي، وإلى فلسفة إيمانويل كانط الأخلاقيّة الّتي هيمنت على التّفكير الأخلاقي منذ بزوغ عصر التّنوير.

يمكن القول، ومن دون أي مبالغة، إن كانط هو ضمير الحداثة الأوروبيّة، صوت التّنوير والتّقدم والإيمان بالإنسان. فقد علمنا أن للعالم هدفا نبيلا ينبغي أن يتحقق، وأن على الإنسان أن يعامل غيره على أنّه غاية وليس وسيلة، وأن الفكرة التي تقود التّاريخ هي فكرة القانون؛ أي الحقّ في أن نمتلك حقوقاً مثل الحرّيّة والكرامة والمساواة…إلخ، بيد أن مجموعة من الفلاسفة المعاصرين لاحظوا أن أوروبّا، والغرب بمفهومه السياسي، تخلّوا عن المُثل أو القيم الحداثيّة الّتي فكر فيها كانط، أو لنقل تخلّوا عن “ضمير الحداثة الأوروبيّة”، وأن الانهيار الأخلاقي أصبح السّمة البارزة للعالم المعاصر، فقد كتب “سلافوي جيجيك” مقالاً بعنوان “لا همجيّة بدون شعر” . تحدث فيه عن الانهيار الأخلاقي الّذي يشهده العالم المعاصر، وألمح إلى أن الاضطرابات تحـــدث في البلـدان المتقدمة عندما يتراجـــع معدل الفـــقر، ويضرب مثـــالاً بحركــة الهيّبيّ Hippie الّتي ظهرت في العصر الذهبي لدولة الرفاهيّة، كما يربط الاضطرابات بالرغبات وبالانحرافات الأخلاقيّة. وقد سجل جيجيك أن من مظاهر هذه الانحرافات الأخلاقيّة قيام الجيش الروسي بتعذيب المشتبه بهم في العمل الإرهابي الّذي تعرضت له روسيا، بل وإظهار التعذيب بشكل علني وعادي في وسائل الإعلام. وأكد أيضاً أنه في بعض الولايات الأمريكيّة هناك من يطالب بشنق المحكوم عليهم بالإعدام علنا؛ وهكذا يوضح سلافوي أننا نجد أنفسنا عائدين لمرحلة ما قبل الحداثة التي تجد ضالتها في الشّعر وفي الخطاب الأسطوري، وهو بالضبط ما توظفه الجيوش المتحاربة، وما صرح به نتنياهو من اقتباسات من التوراة التي تتحدّث عن صراع اليهود مع عدوهم التّاريخي “العماليق” . في النّهاية يدعو جيجيك إلى مواجهة هذا الوضع المأساوي من خلال الاستماع إلى القضاة والمفكرين عوض الاستماع إلى الشّعراء والجلادين.

وأمام هذا الوضع السوداوي القائم، والّذي صوره جيجيك في مقاله، نستحضر أفكار كانط الأخلاقيّة المتفائلة، بوصفها حلاًّ لأزمة القيم التي يشهدها العالم؛ فكانط صاحب كتاب “مشروع للسلام الدائم” الّذي حاول من خلاله أن يفكر في كيفيّة إحلال السّلام العالمي، عن طريق إنشاء اتحادات أمميّة، وهو ما تم فعلاً بعد ما يقارب قرنين من طرحه لكتابه؛ إذ تم تأسيس عصبة الأمم، الّتي تحولت فيما بعد إلى الأمم المتحدة، كما تشكل الإتّحاد الأوروبي أيضاً. وكانط أيضاً صاحب مقال “ما التنوير؟” وفيه يتحدث عن المعيقات الّتي تمنع الأفراد من استخدام عقولهم خارج أي وصاية، ويدعونا إلى التّخلص من الكسل والجبن الّذين يقفان عائقاً أمام استخدام فهمنا الخاص دون توجيه من الغير.

اليوم أصبح الإرث الّذي تركه كانط مهدداً، فالصراع العالمي القائم صراع أيديولوجي، وليس صراع على الموارد الطبيعية أو على الاقتصاد؛ إذ إنه أصبح من الجلي أن قيم الحداثة الأخلاقيّة والقانونيّة من قبيل الكرامة الإنسانيّة، والحريّة وسيّادة القانون، تتعرض لنقد عملي وفعلي، وليس نظري فقط كما كان مع تيار ما بعد الحداثة، وهذا النّقد يتمثل في الانتهاكات الجسيمة للكرامة الإنسانيّة وفي عدم الامتثال للقوانين وللمعاهدات الدوليّة ، بشكل يجعلنا نستحضر ما ذكره أفلاطون من كون العدالة ليست في حقيقة الأمر سوى مصلحة الأقوى.

لكن المثير للاستغراب أن أعداء كانط وفلسفته ليسوا فقط ممن يمكن أن نسميهم بالرجعيين؛ أي الّذين يناصرون الاستبداد وينادون بقمع الحرّيّات، وإنّما أيضاً “التقدميين” الّذين يناهضون الاستعمار، والمركزية الغربيّة، وهيمنة الرجل الأبيض؛ فهؤلاء التقدميون يرون في كانط مُنظراً للعنصريّة، وأن أفكاره عن الكرامة الإنسانيّة لم تكن موجهة إلا للإنسان الأوروبيّ فقط، بل أكثر من ذلك، هناك من اعتبر كتاباته الأنثربولوجيّة دعوة للتطهير العرقي للشعوب وللثقافات الأخرى ؛ وهكذا يظهر أن هناك تحالفا بين “الرجعيين” و”التقدميين” في محاربة أفكار كانط، وهذه المحاربة لا تتمثل في كتابات بسيطة أو في مقالات صحفيّة، وإنّما تمثل في عمل مجموعة من الدّراسات والمؤلفات الأكاديميّة.

لقد بدأ التحول الفكري والفلسفيّ في نقد قيم الحداثة الأوروبيّة في أواسط القرن العشرين، وقوي بعد سقوط جدار برلين وحلول القرن الحادي والعشرين، الّذي لم يعد فيه إعمال الفكر النّقدي مطلوباً، وأصبح الكسل وعدم الاستخدام العمومي للعقل هو السّائد، ولم يعد مهماً التّفكير في التقدم، أو في الإنسانيّة وفي مختلف المثل العليا، وإنّما تم اختزال كلّ شيء في ما هو نفعي بحث ومثمر اقتصادياً. بعبارة أخرى، أضحى التّنوير والالتزام الكانطي غير مرغوب فيهما، ولا حتّى القانون الأخلاقي الذي من المفروض أن يسكن ضمائرنا.

إن العالم الذي شكله كانط قبل ثلاثة قرون بدأ ينحل ويتفكك، وكأننا أمام عمليّة نكوص، ورفض للعقل “السيّد الأكبر” و”القوّة العليا في النّفس”، وبالتّالي لم يعد شيء يملأ قلب الإنسانيّة بالنبل، لا السّماء المرصعة بالنجوم، ولا القانون الأخلاقي ، بل أضحت الانفعالات العمياء والقلق والخوف من العودة إلى حالة الحرب، وانحلال العقد الاجتماعي، هي ما يشغل المؤمنين بقيم التّنوير، التّيار المقاوم الحقيقي، الذي يُعْملُ أصحابه فهمهم الخاص، ولا يتركون مجالاً للأوصياء على العقول، المهيمنون على عالم اليوم، سواءٌ كانوا “ذكاءات اصطناعيّة” أو “دعاة أدلوجة”، من التكفل بمشقة التّفكير نيابة عنهم.

إن أمام هذا العالم المظلم الذي نشاهد فيه عودة الماضي البشري التعيس، من استبداد وهمجيّة وعنف، لا يمكننا إلا أن نقف فيه مستحضرين الإرث الفلسفيّ الكانطي الّذي ساهم في تحرير الإنسان من التّطرف والتّعصب، وهو إرث حريّ بأن يُسْتَحضَر في عالمنا المعاصر بوصفه علاجاً للأمراض السياسيّة والأيديولوجيّة المزمنة الّتي أصابت الإنسانيّة في هذا القرن.

لمحفوظ ابي يعلا.

مؤسسة مؤمنون بلا حدود-موقع حزب الحداثة