اصلاح ديني

الاسلام والديمقراطية: متى يقرر الفاعلون الدينيون دعم عملية التحوّل الديمقراطي؟

المصدر: مبادرة الإصلاح العربي

عرفت العلوم السياسية لسنوات جدلاً حول مدى توافق الدين الإسلامي مع مبادئ الديمقراطية. لكنها استطاعت مؤخراً تجاوز هذا الجدل غير المجدي الى سؤالاً أكثر واقعية وهو: متى يقرر الفاعلون الدينيون دعم عملية التحوّل الديمقراطي، ومتى يقررون معارضتها أو البقاء على الحياد؟ الإسلام كغيره من الاديان، لا يحمل بالضرورة موقفاً موحداً من قضايا التحوّل الديمقراطي، لكن الفاعلين الدينيين يحددون موقفهم طبقاً لمصالحهم، ومدى تأثير التحوّل الديمقراطي على تلك المصالح. يسعى هذا المقال الى الإجابة على سؤال حول علاقة الاسلام بالديمقراطية، من خلال دراسة موقفي كل من الأزهر الشريف في مصر وحركة فتح الله كولن التركية من التحوّل الديمقراطي. فعلى الرغم من اختلاف المناخ المؤسسي، لعب كل منهما دوراً إيجابياً في الدفع بعملية التحوّل الديمقراطي قدماً، وبالتحديد حركة فتح الله كولن التركية بعد الانقلاب الناعم العام 1997، والازهر الشريف في مصر غداة الاطاحة بنظام حسني مبارك في العام 2011. 

الأزهر الشريف وحركة فتح الله كولن 

مع ثورة 1952، سعى جمال عبد الناصر إلى إحكام قبضة الدولة على الأزهر بهدف استخدامه لتحقيق مشروعه السياسي. فأصدر مجموعة من القوانين أهمها قانون إلغاء الوقف الأهلي، مما قضى على استقلال علماء الأزهر المالي، وقانون إلغاء المحاكم الشرعية.خلال عهدي السادات ومبارك، استعاد الأزهر حضوره في المجال العام، في ظل تنامي خطر الجماعات الجهادية، ممّا دعا النظام السياسي الى الاستعانة بالأزهر بهدف تدعيم شرعيته الدينية. فبعد اغتيال السادات العام 1981، سعى نظام مبارك إلى استخدام الأزهر في معركته في مواجهة الجماعات الإسلامية. من جانبه طالب الشيخ جاد الحق نظام مبارك بإعادة الاعتبار لمؤسسة الأزهر حتى تستطيع مواجهة الجماعات الإسلامية وأفكارها المتشددة. بينما رفض النظام مطلب الأزهر بإعادة صياغة القوانين المصرية طبقا للشريعة الإسلامية، إلّا أنه قرّر أن يُعطي للأزهر مساحات أكبر للتأثير على مؤسسات الدولة وما تتخذه من قرارات. وهكذا صار من المعتاد أن تقوم الحكومة بإرسال مشاريع القوانين إلى الأزهر، قبل أن تقدّمها إلى البرلمان بهدف التأكّد من موافقتها للشريعة الإسلامية، كما بدأ الأزهر التدخّل في المجال الثقافي بمباركة الدولة المصرية ومؤسساتها. توفي الشيخ جاد الحق في العام 1996، وخلفه في مشيخة الأزهر الشيخ محمد سيد طنطاوي. عُرف الشيخ طنطاوي خلال توليه لمنصب مفتي الجمهورية بمواقفه الأكثر اعتدالاً  وفي ما يتعلق بالسعي من أجل أسلمة مؤسسات الدولة، فقد اعتمد طنطاوي على استراتيجية أكثر هدوءاً محاولاً الحفاظ على علاقات جيدة مع مبارك وأركان نظامه، بهدف ضمان زيادة دعم النظام المالي للأزهر. توفي الشيخ طنطاوي العام 2010، وخلفه شيخ الأزهر الحالي أحمد الطيب والذي شهدت ولايته ثورة 25 يناير 2011 وما تلاها من تبعات، وصولاً الى اللحظة الراهنة.

أمّا بالنسبة إلى حركة كولن، أو ما يُعرف أيضاً بحركة الخدمة، فقد ولد قائدها الروحي فتح الله كولن في مدينة أرضروم في شرق الأناضول العام 1941. درس كولن المواد الدينية بشكلٍ غير رسمي، واجتاز امتحان الواعظين، وتمّ تعيينه كواعظ في عدة مساجد، حيث كانت البداية الحقيقة لنشاطه وبناء حركته الاجتماعية. اتسعت شهرة فتح الله كولن خلال السبعينيات، فصار يُدعى إلى الوعظ في جميع أنحاء تركيا. دارت دروس كولن حول ثلاثة تحديات تواجه تركيا: الجهل والفقر والانشقاقات داخل المجتمع، ولهذا وجّه كولن أتباعه إلى العمل في المجتمع المدني على مواجهة تلك التحديات، من خلال الاستثمار في التعليم والإعلام والعمل الإغاثي والخيري. شهدت الحركة عصرها الذهبي خلال الثمانينيات في عهد رئيس الوزراء التركي تورغوت أوزال، الذي سعى الى تحرير المجتمع المدني من سلطة الدولة، وشجّع الحركات الدينية على العمل بهدف ترسيخ الهوية الإسلامية للمجتمع التركي لمواجهة الانشقاقات على أساس سياسي ما بين اليمين واليسار، أو قومي ما بين الأتراك والأكراد.

إلّا أن وفاة أوزال في بداية التسعينيات، والصعود السياسي لحزب الرفاه الإسلامي وزعيمه نجم الدين أربكان أعادا التوتر بين مؤسسات الدولة والتيارات الاسلامية. وخلال الانتخابات التشريعية التي جرت في كانون الأوّل/ديسمبر 1995، فاز الرفاه بـ21.3% من الأصوات، فشكّل حكومة ائتلافية، ليصبح أربكان أول رئيس وزراء ذو خلفية سياسية إسلامية في تاريخ تركيا الحديثة. اتّهمت الدوائر العلمانية داخل الدولة وخارجها أربكان بمحاولة تغيير الطابع العلماني للدولة التركية. وفي ظلّ التوتر بين المؤسسة العسكرية وورائها القوى العلمانية في جانب، وحزب الرفاه في جانب آخر، طالب كولن أربكان بالاستقالة خوفاً من مواجهة شاملة بين الجيش والقوى الإسلامية، ما دفع أنصار حزب الرفاه إلى اتهام كولن بالاصطفاف مع الدولة في مواجهة أربكان. ومع ازدياد حدّة الأزمة، اضطرّ أربكان إلى تقديم استقالته في حزيران/يونيو 1997، وبعدها قامت المحكمة الدستورية التركية بحل حزب الرفاه. اتّخذت العلاقة بين كولن والدولة التركية منعطفاً جديداً عقب إطاحة أربكان، حيث بدأت مؤسساتها في التضييق على الحركات الدينية. وازدادت حدّة الأزمة، بعدما تمّ تسريب تسجيل مصوّر لكولن يتحدث فيه عن الحاجة الى اختراق الدولة التركية لتغييرها من الداخل. رُفع الأمر الى محكمة أمن الدولة في أنقرة، واتّهم المدعي العام كولن بأنه كان يخطّط لاستخدام الشباب لتأسيس دولة إسلامية تحلّ محل الدولة العلمانية التركية. لتجنّب الاعتقال، سافر كولن إلى الولايات المتّحدة وهو لايزال يقيم هناك في ولاية بنسلفانيا. 

المصالح المادّية والفكرية واستراتيجيات تحقيقها

يتشارك كل من الأزهر الشريف وحركة فتح كولن في المصالح نفسها، وإن اختلفت استراتيجيتهما طبقاً للمناخ المؤسسي لكل من مصر وتركيا وموقعهما، باعتبار أن أحدهما مؤسسة رسمية بينما الأخرى حركة مجتمع مدني. ويمكن تقسيم مصالحهما الى مجموعتين: المصالح الفكرية متمثّلة في إقامة المجتمع الإسلامي، والمصالح المادية متمثّلة في الحصول على النصيب الأكبر من “السوق الديني”، إذا جاز التعبير. إلّا أن المنفعة التي تجلبها تلك المصالح، تحدّها أيضاً مفسدة يسعى كل من الأزهر وحركة كولن إلى اجتنابها، استناداً الى فقه الموازنات والأولويات. فالمصلحة الفكرية المتمثّلة في إقامة المجتمع الإسلامي، تحد منها مفسدة الفتنة أو الفوضى التي قد تصيب المجتمع فينهار أو يقتتل أفراده في ما بينهم. وبالمنطق نفسه، فإن سعى كل من الأزهر وحركة كولن إلى زيادة حصتهما من المجال الديني، يحد منها مفسدة، وهي أن يؤدي نشاطهما المتزايد الى منعهما من الدخول إلى المجال الديني، خاصة في حالة كولن، أو أن يؤدّي التوسّع في نشاطهما إلى اختراقهما من قبل جماعات دينية أخرى، خاصة لدى الأزهر. وقد حكم سلوك ومواقف كل من الأزهر وحركة كولن دوماً عملية الموازنة المستمرّة بين المنافع والمفاسد، سواء على صعيد المصالح الفكرية أو المصالح المادية.

في سعيهما إلى تحقيق مصلحتهما الفكرية المتمثّلة في بناء المجتمع الإسلامي، قرّر الأزهر اتّباع استراتيجية التغيير من أعلى، من خلال الضغط على النظام السياسي بهدف أسلمة القوانين التي تنظّم شئون المجتمع، أمّا حركة كولن، ونظراً لهوية الدولة العلمانية وصعوبة العمل على تغييرها، فقد قرّرت اتّباع استراتيجية التغيير من أسفل من خلال الدعوة لأفكارها بين افراد المجتمع. وبينما سعى الأزهر إلى أسلمة القواعد القانونية التي تحكم المجتمع، اختار كولن العمل على أسلمة القواعد الاجتماعية والثقافية. على الجانب الآخر، فإن كلاً من الأزهر وحركة كولن، كانا حريصين على تجنّب أي تصرف يمكن أن تنتج عنه فتنة في المجتمع. فرفض الأزهر سلوك الجماعات الإسلامية التي كفّر بعضها المجتمع وأباح استخدام العنف في سبيل تطبيق الشريعة. وفي أعقاب حوادث العنفِ الديني التي شهدتها مصر نهاية العام 1988، أصدر الشيخ جاد الحق بياناً جاء فيه “ما كان الاسلام وما ينبغي أن يكون ستاراً للإخلال بالأمن والخروج على النظام العام” و “إن الأزهر يدعو أولئك الذين ضلّوا الطريق إلى الحق أن يعودوا الى رشدهم، وأن يوقفوا هذا الشغب وأن يعرفوا أن الإسلام حكم بحرمة الأنفس والأموال، وباحترام وطاعة أولياء الامور ونصحهم إذا استوجب الحال النصح”.1 كذلك الأمر بالنسبة إلى كولن، الذي أكّد في العديد من المناسبات، أن دولة غير الديمقراطية أفضل من اللادولة، داعياً إلى احترام الدولة وقراراتها.

أمّا في مايتعلّق بالمصالح المادية، فإن مصالح الأزهر المادية تقوم أساساً على زيادة نصيبه داخل المجال الديني من خلال زيادة موازنته، والتوسّع في أنشطته وزيادة عدد طلّابه والعاملين فيه. وشهد الأزهر خلال عهد الشيخ محمد سيد طنطاوي توسّعاً كبيراً في عدد المعاهد الأزهرية، حيث ارتفع عدد المعاهد من 4568 معهداً في 1997-1998 إلى 7310 معهداً في 2005-2006، قبل أن يقفز العدد إلى 8446 في 2009-2010 .2 ويقترب عدد المعاهد الأزهرية التي بُنيت في عهد الشيخ طنطاوي من العدد الاجمالي للمعاهد الأزهرية التي بُنيت قبل توليه مشيخة الأزهر. ويعود ذلك الى استراتيجية طنطاوي والتي أعطت لمصالح الأزهر المادية أولويّة على مصالحه الفكرية، فقرّر أن يدير العلاقة مع النظام السياسي بشكلٍ أكثر هدوءاً في ما يتعلق بتطبيق الشريعة مقابل التوسّع في مصالح الأزهر المادية. من جانبها، سعت حركة كولن هي الأخرى الى زيادة تواجدها داخل المجال الديني من خلال ولوج المجتمع المدني. فاستفادت من السياسات الليبرالية التي اتبعها تورغوت أوزال، وشرعت الحركة في بناء مئات المدارس داخل تركيا وخارجها. كما أنشأت الحركة جامعة فاتح في إسطنبول. وتشكّل هذه المؤسسات التعليميّة العمود الفقري للحركة، حيث يتمّ إعداد جيلٍ جديدٍ من الأتراك يجمعون ما بين المعرفة الدينية والعلم، وهو مايطلق عليه كولن “الجيل الذهبي”. وقد استثمرت الحركة أيضاً في قطاع الإعلام، وهي تملك أحد أكثر الصحف التركية انتشاراً، جريدة زمان، الإضافةً الى قناة Samanylou   التليفزيونية. كما دخلت الحركة أيضاً في مجال الاستثمار فأسّست شركات ومؤسسات مالية عدّة مثل مؤسسة Asya Finans، كما أسّست أيضاً جمعيات لرجال الأعمال مثل ASHAD، ومنظمة للعمل الخيري والإغاثي تحت اسم “هل من أحد هناك”، لتقديم المساعدات الإنسانية ومكافحة الفقر. 

وبينما يسعى كل من الأزهر وحركة كولن إلى زيادة حصتهما داخل المجال الديني، فإنهما ينظران بقلق إلى صعود حركات الإسلام السياسي التي تعدّ منافسة لهما داخل المجال الديني. ففي مصر، شهدت الثمانينيات صعوداً واضحاً في شعبية وموارد جماعة الإخوان المسلمين، وصارت منافساً ليس فقط لنظام مبارك في المجال السياسي، بل أيضاً للأزهر داخل المجال الديني. كذلك الأمر بالنسبة إلى الصعود السياسي لنجم الدين أربكان خلال التسعينيات في تركيا، والذي نافس كولن على زعامة المجال الديني، وعرفت العلاقة بينهما توتراً لايزال مستمراً إلى الآن، حتى بعد رَحيل أربكان، تجسّد في الصراع بين حزب السعادة، وريث حزب الرفاه، وبين حركة كولن.

لماذا قرّر الأزهر الشريف وحركة كولن دعم عملية التحوّل الديمقراطي؟

بينما التزم كل من الأزهر الشريف وحركة كولن الصمت إزاء التجاوزات السلطوية للأنظمة السياسية في مصر وتركيا، فقد اختارا في لحظة معيّنة التخلي عن موقفهما السلبي، للدفع باتجاه التحوّل الديمقراطي في كلا البلدين. فقررت حركة كولن أن تتبنّى خطاب داعم للتحوّل الديمقراطي في تركيا، في أعقاب الانقلاب الناعم الذي قام به الجيش ضد حكومة أربكان العام 1997، وكذلك فعل الأزهر خلال المرحلة الانتقالية التي أعقبت الإطاحة بحسني مبارك في العام 2011. جاء القرار بدعم التحوّل الديمقراطي في كل من الحالتين، في اللحظة التي شعر فيها حركة كولن والازهر الشريف أن مصالحهما باتت مهددة في ظل النظام الحالي، وأن دعم نظام ديمقراطي سيسمح لهما بمساحة أكبر لتحقيق تلك المصالح.

في أعقاب الانقلاب الناعم في العام 1997، بدأت الدولة التركية حملة من التضييق على نشاط الحركات الإسلامية، ما وضع قيوداً على سعى حركة كولن إلى تحقيق مصالحها الفكرية من خلال الدعوة إلى القيم الإسلامية داخل المجتمع، أو مصالحها المادية من خلال الاستمرار في استثماراتها في مجالات التعليم والإعلام والاقتصاد. فتوصّل قيادات الجماعة الى قناعة مفادها أن المناخ الأمثل الذي يسمح للحركة بتحقيق مصالحها، هو في إطار دولةٍ تركية ديمقراطية لاتسعى إلى السيطرة على النشاط الديني. سعت الحركة من خلال أحد مؤسساتها، وقف الصحافيين والكتّاب، في العام 1998 الى عقد سلسلة من اللقاءات ضمّت مثقفين وسياسيين من الأطياف السياسية كافة في إطار ماعُرف بملتقى الابانت Abant، لمناقشة القضايا المتعلّقة بالتحوّل الديمقراطي في تركيا. 

وقد أكّدت تلك اللقاءات في بياناتها الختامية على قضايا الحرية والديمقراطية وسيادة القانون. على سبيل المثال، في الاجتماع الأول الذي عقد العام 1998 لمناقشة علاقة الإسلام بالعلمانية، أكّد البيان الختامي أن الديمقراطية القائمة على الحرية وإزالة العقبات التي تواجه المنظمات غير الحكومية، هي التي ستمكّن تركيا من مواجهة مايعترضها من صعوبات.3 وفي الاجتماع الثاني تحت عنوان الدين والدولة والمجتمع العام 1999، أكّد الإعلان النهائي على أن إدارة علاقة الدولة بالدين، يجب أن تكون طبقاً لمتطلّبات الديمقراطية المعاصرة، ولذلك فإن حرية الفكر والاعتقاد والحرية الدينية يجب، أن تكون مصونة.4 وفي الاجتماع الثالث حول دولة القانون الديمقراطية العام 2000، أكّد البيان الختامي على أن الدولة الديمقراطية التي يحكمها القانون، هي التي تقبل إرادة المجتمع في إطار مبدأ سيادة القانون والحقوق والحرّيات الأساسية، وتستمد شرعيتها من هذه القيم العالمية، كما أن تلك الدولة تقف على مسافة متساوية من جميع نظم العقيدة والفكر. وأكّد البيان أيضاً على أن سلطة اتّخاذ القرارات هي فقط لممثلي الشعب المنتخبين ديمقراطياً، أمّا موظفي الدولة والجيش فمهمتهم الوحيدة هي وضع تلك القرارات موضع التنفيذ.5

خلال الانتخابات التشريعية التي جرت في العام 2002، فاز حزب العدالة والتنمية، الذي أسسه مجموعة منشقة عن حزب الرفاه بقيادة رجب إردوغان وعبد الله جول،  بـ34.2% من الأصوات، لتبدأ مرحلة جديدة في تركيا. دعا حزب العدالة والتنمية إلى إصلاحات ديمقراطية في النظام السياسي التركي، ودعمته في ذلك حركة كولن. كما ساندته الحركة في معركته بهدف إبعاد المؤسسة العسكرية عن المجال السياسي. إلّا أن العلاقة بين الحركة والحزب بدأت في التدهور، بعد سعي إردوغان الى تحجيم نفوذ حركة كولن، والتي وصفها بأنها صارت بمثابة دولة موازية. وخلال المظاهرات التي شهدتها محافظات تركية عدّة ضدّ إردوغان في منتصف العام 2013، أعلن كولن ان تلك المظاهرات لايجب أن يتم الاستهانة بها أو تجاهلها، وهو ما اعتبره البعض دعماً لتلك التظاهرات في مواجهة إردوغان. وفي كانون الأوّل/ديسمبر 2013، قامت الشرطة التركية بفتح تحقيق في قضايا فساد طالت أبناء 3 وزراء في حكومة العدالة والتنمية. اتّهمت بعض الأصوات القريبة من العدالة والتنمية، أنصار حركة كولن داخل الشرطة بالوقوف خلف تلك القضية لتشويه صورة حكومة العدالة والتنمية. وفي ظل سعي الحكومة إلى التضييق على نشاط الحركة، استعادت الأخيرة خطابها الداعي إلى إصلاحات ديمقراطية. وفي شباط/فبراير 2014، أصدر وقف الكتّاب والصحافيين بياناً أعرب فيه عن قلقه من التطوّرات المُقلقة تجاه الديمقراطية وسيادة القانون، في ظل ما يواجه الإعلام من ضغوط، وعملية استبعاد موظفي الدولة من وظائفهم من دون قرارات قضائية. البيان دعا أيضاً عبد الله غول إلى التدخل بصفته رئيس الدولة، لمواجهة المخاطر التي تتهدد النظام الدستوري، والفصل بين السلطات، واستقلالية القضاء ومبدأ سيادة القانون.6 

كذلك الأمر بالنسبة الى الأزهر الذي رأى في تنحّي مبارك فرصةً وتهديداً في آنٍ. فهو يمثّل فرصة تُمكّن الأزهر من إعادة التفاوض حول استقلاليته عن الدولة، إلّا أنّه يشكل خطراً في ظل الصعود السياسي للحركات الإسلامية كجماعة الإخوان المسلمين والدعوة السلفية، منافسي الأزهر داخل السوق الديني. توصّلت قيادة الأزهر إلى القناعة نفسها التي توصّلت إليها قيادة حركة كولن: فقط في ظل دولة القانون ونظام سياسي ديمقراطي تعددي، يستطيع الأزهر الحصول على استقلاله من الدولة، وأن يضمن أنه حتى في حالة وصول الإخوان المسلمين أو التيار السلفي الى الحكم، فإنهم لن يستطيعوا التدخّل في شؤونه. بدأ شيخ الأزهر أحمد الطيب في عقد جلسات حوار ونقاش بين كبار علماء الأزهر ومجموعة من المثقفين المصريين من مختلف الانتماءات الفكرية والدينية. أسفرت تلك الاجتماعات عن مجموعة من الوثائق التي سعت إلى إيجاد مساحة توافق بين مبادئ الشريعة الإسلامية وبين قيم الحرية وحقوق الانسان، وعلى رأسها وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر في حزيران/يونيو 2011. أكّدت الوثيقة في مادتها الأولى على “دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة. ويحدّد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيه هي نوّاب الشعب”، وفي مادتها الثانية على “إعتماد النظام الديمقراطي، القائم على الانتخاب الحر المباشر، الذي هو الصيغة العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، بما يضمنه من تعدّدية ومن تداول سلمي للسلطة، وتحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسؤولين أمام ممثلي الشعب، وتوخّي مصالح الناس العامة ومنافعهم المرسلة في جميع التشريعات والقرارات، وإدارة شؤون الدولة بالقانون والقانون وحده”.7 

مع انتخاب محمد مرسي رئيساً لمصر في حزيران/يونيو 2012، عرفت العلاقة بين الرئاسة ومؤسسة الأزهر، توتراً مكتوماً بدا في مواقف عدة سعت فيها الرئاسة إلى تجاهل الأزهر أو التقليل من شأن إمامه الأكبر.  وقد أدّت تلك العلاقة المتوترة بالأزهر الى التراجع عن دوره السابق في محاولة التقريب بين وجهات نظر الأطراف السياسية المختلفة. وفي ظل غياب أي محاولات للتواصل، عرفت مصر خلال فترة حكم الرئيس السابق محمد مرسي حالة متزايدة من الاستقطاب السياسي والمجتمعي بين جماعة الاخوان المسلمين والمؤيدين لها في جانب، والمعارضة من الجانب الاخر. واشتدت حدة الاستقطاب مع دعوة حركات سياسية الى انتخابات رئاسية مبكرة، وهو ما رفضه محمد مرسي الذي أصرّ على استكمال مدّته الرئاسية. فشهدت محافظات مصرية عدة مظاهرات حاشدة يوم 30 حزيران/يونيو 2013 للمطالبة بانتخابات رئاسية مبكّرة. 

رفضت مؤسسة الرئاسة الاستجابة لمطالب المتظاهرين، فأصدرت القوات المسلّحة بياناً يطالب بضرورة الاستجابة للشعب المصري في الأول من تمّوز/يوليو 2013 قبل أن تتدخل في الثالث من تمّوز/يوليو لعزل محمد مرسي وطرح خريطة طريق سياسية جديدة تتضمن إجراء انتخابات رئاسية مبكرة وتعطيل العمل بالدستور وتعيين رئيس المحكمة الدستورية رئيساً انتقالياً. إلّا أن محمد مرسي رفض القبول بهذا الإجراء وأصرّ على أنه لايزال هو الرئيس الشرعي للبلاد، ودعا المؤيدين له الى رفض تلك الإجراءات. اعتصمت جماعة الإخوان والمؤيدين لها في ميداني رابعة العدوية وللنهضة معلنين رفضهم التدخل العسكري ومطالبين بعودة محمد مرسي إلى الرئاسة. امتدّ اعتصام جماعة الإخوان المسلمين والمؤيدين لها لأكثر من 40 يوماً، اندلعت خلالها مصادمات عنيفة بين قوات الشرطة والجيش والمتظاهرين، قبل أن تتدخّل قوّات الشرطة لفض الاعتصام بشكل نهائي يوم 14 آب/أغسطس 2013. وقد سعى الأزهر الشريف خلال تلك الفترة الى استعادة دوره كوسيط بين الأطراف السياسية المختلفة لتجنّب مخاطر الفتنة، فدعا إلى الحوار بين الفرقاء السياسيين والابتعاد عن لغة التحريض واستخدام العنف. أصدر الأزهر بياناً في 5 تمّوز/يوليو 2013، وجّه فيه 10 نصائح للدولة والمجتمع، كان من ضمنها: ضرورة ألّا تزيد “الفترة الانتقالية عن الحد اللازم لتعديل الدستور، واجراء الانتخابات النيابية والرئاسية للإسراع في العودة الى الحالة الطبيعة الديمقراطية الدستورية التي ارتضاها الشعب”، كما طالب البيان: “الإفراج الفوري عن كل معتقلي الرأي والناشطين السياسيين والقيادات الحزبية غير المطلوبة في قضايا جنائية، وبمصالحة وطنية حقيقية بين الأطياف السياسية والفكرية من دون إقصاء أو استبعاد”.8 عقب المصادمات التي شهدتها منطقة المنصّة بين المتظاهرين وقوات الأمن في 27 تمّوز/يوليو 2013، أصدر الازهر بياناً ادان فيه تلك الاحداث، معلناً ان هذه التصرفات الدموية ستفسد على عقلاء المصريين وحكمائهم كل جهود المصالحة ومحاولات رأب الصَّدع ولم الشمل، وستعرقل عودة المصريين إلي توحدهم كشعب راق متحضر. وطالب الأزهر الحكومةَ الانتقالية بالكشف عن حقيقة الحادَث. 

كما أصدر الأزهر بياناً يوم فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة في 14 أب/أغسطس 2013، حذّر فيه من استخدام العنف وإسالة الدماء، مؤكدا أن استخدام العنف لا يمكن أن يكون بديلاً عن الحلول السياسية، وأنَّ الحوار العاجل والجاد هو الحل الوحيد للخروج من الأزمة، داعياً جميع الأطراف إلى ضبط النفس، والاستجابة إلى الجهود الوطنية للحوار والمصالحة الشاملة. إلا انه على الرغم من كل تلك الجهود التي بذلها الازهر وامامه الأكبر للوصول الى مصالحة وطنية، فأنها لم تكلل بالنجاح، حيث أصر كل طرف على موقفه الرافض للحوار لتستمر حالة الاستقطاب السياسي والمجتمعي.

خاتمة

على عكس الكثير من الدراسات التي تهتم بدراسة النصوص الدينية وعلاقاتها بالديمقراطية، فإن مواقف الفاعلين الدينيين من الديمقراطية لا تحكمها فقط النصوص الدينية، بل مصالح الفاعلين الدينيين والاستراتيجيات التي يتبعونها لتحقيقها.  ونتيجة لما سبق، فان موقف الفاعلين من الديمقراطية تحكمه الموازنة ما بين المصالح والمفاسد، ولذلك، فان قرار كل من الازهر وحركة كولن بالتحول عن صمتهما تجاه قضايا التحوّل الديمقراطي الى دعمها جاء كنتيجة لحساب عقلاني رشيد للمكاسب والخسائر، إذ حينما رأيا ان النظام الديمقراطي سيمكنهما من تحقيق مصالحهما، قررا دعمه. أخيرا، فان قرار دعم التحول الديمقراطي في حالتي الازهر وحركة كولن لم يأت بشكل منفرد من قبل الفاعلين الدينيين محل الدارسة بل جاء كنتيجة للتفاوض بين أطراف من توجهات سياسية عدة، كما هو الحال في حوار المثقفين وعلماء الأزهر حول وثيقة مستقبل مصر، وكذلك الحوار داخل ملتقى الابانت. فقرار دعم التحوّل الديمقراطي قد لا يعبر بالضرورة عما يحارب من أجله الفاعلون الدينيون، بل عما لا يمانعون في القبول به.  

من موقع مبادرة الإصلاح العربي

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate