حداثة و ديمقراطية

الديمقراطية بين التنظير و الممارسة.

إن الإشكالية التي تطرحها النظرية الديمقراطية ستتعقد أكثر بفعل تطور الدول والمجتمعات كالانتقال من محدودية الدولة – المدينة إلى شساعة الدولة – القومية الحديثة وما صاحب ذلك من تزايد كبير في عدد السكان داخل الدولة الواحدة، هذا ناهيك عن التحولات التي عرفتها القيم التي تعطي للديمقراطية أفضليتها عن غيرها، مثل الحرية والمساواة والمواطنة والعدالة، ثم تتعقد أكثر مع تطور نموذج الدولة القومية خلال القرنين الأخيرين ليأخذ صيغاً أخرى أكثر تشابكاً وأكثر صعوبة في الحصر والفهم، خاصة مع ما وصلت إليه المجتمعات الحديثة من تحولات شككت إلى حد الآن في كثر من المفاهيم الأساسية التي تشكل البنية الفعلية للديمقراطية، كمفهوم السيادة وتعارضه مع مفهوم العولمة، وتعارض الاختصاص ما بين المؤسسات الوطنية والمؤسسات فوق – وطنية، وما جعل الأمر أكثر إشكالاً انتقال المفهوم إلى مجتمعات ذات خصوصيات حضارية مختلفة عن خصوصيات مجتمعات النشأة.

إشكالية تحديد وتعريف الديمقراطية انطلقت مع ولادة مصطلح الديمقراطية. ولفهم ذلك دعونا نلقي نظرة على “حكم الشعب” الذي يعتبر مبدأ أساسياً، فمن اجل إعطاء تسمية لنمط حياتهم السياسية الجديدة وما جاءت به هذه الحياة من ممارسات في العديد من دول – المدن، بدأ اليونان القدماء وتحديداً في دولة المدينة أثينا باستخدام عبارة ديموكراتيا demokratia وذلك لحدود القرن الخامس قبل الميلاد، وفي ذلك يقول بريكليس perikles أبرز مؤسس الديمقراطية اليونانية القديمة – وصل إلى الحكم عام 466 ق.م –(لنا دستورنا الخاص بنا، لم نقتبسه من أحد من الجيران فنحن قدوة لغيرنا ولا نحاكي الآخرين، ونظراً لأن نظام الحكم بيننا يتمثل في سيادة الأكثرية وليس الأقلية، فقد عرف باسم الديمقراطية” .

على الرغم من البساطة التي يتسم به المعنى الاصطلاحي للكلمة – إذ أن “demos” تعني الشعب و “kratia” تعني الحكم أو السلطة – فإن الكلمة بشقيها تثير سؤالين: “ما الفئة التي تكون الشعب”؟ وماذا تعني لهم عبارة “ممارسة الحكم”؟ لقد ظلت هاتان الكلمتان: “الشعب” و “الحكم” تشكلان مجالاً خصباً للاختلاف بين كل من تعرض لهما بالبحث، كما أن الاختلاف في الدلالة والماهية واكبهما عبر مرور الزمن، فمثلاً إذا كان مفهوم “الشعب” الذي يشارك في الحكم في المدينة الأثينية يقصد به المواطن الأثيني الذكر الحر، فإن هذا المفهوم قد أخذ أبعاداً وتحديدات أخرى في المدن اليونانية الأخرى، وقد أخذ مفهوم “الشعب” الذي يشارك في الحكم أشكالاً أخرى مع مرور الوقت وتباين المجتمعات التي توسعت فيها حمولة مفهوم “الشعب” لتصل أخيراً إلى جميع المواطنين – ذكوراً وإناثاً – البالغين سن الرشد القانوني . “المواطن” بالمعنى اليوناني يتحدد معناه لا بانتمائه لوطن، بل لكونه يتمتع بحق المشاركة السياسية، حق المساهمة في تدبير المدينة وتسيير شؤونها. وفي هذا السياق يجب التأكيد على معنى “الحق” بالمشاركة وليس المشاركة حد ذاتها، فكثير من أصحاب الحق بالمشاركة لا يشاركون، أي لا يستعملون هذا الحق. وبعبارة أخرى: “المواطن” هو الذي يتكلم ويناقش الشؤون العامة التي تخص المدنية وفي هذا يقول بريكليس “إن المواطن العادي المهتم بأسباب رزقه لديه معرفة كاملة بشؤون الدولة، فنحن وحدنا لا نعتبر من ينأى عن شؤون السياسة شخصاً انعزالياً ولكن عديم النفع، كما أننا دوماً نستمع ونشارك بالرأي في شؤون الدولة عند مناقشة قادتها لها “.هذا التصور الأصيل للديمقراطية الذي يقرنها بالمشاركة السياسية للمواطن يبين لنا كم ابتعدت ديمقراطية اليوم عن الأصل إذا أخذنا بعين الاعتبار ضعف المشاركة السياسية بل جهل المواطن العادي بالأمور السياسية. ولقد تواصلت النضالات السياسية والفكرية طوال التاريخ البشري لكي ترسخ قاعدة “المواطنة” وتتوسع لتشمل كل من يوجد فوق ارض “الوطن من أهل البلاد” ولكن على أساس ألا يعني المواطن أحد أفراد الرعية ومن هنا شعار: “مواطنون لا رعايا” .

رقم المجهودات والتضحيات التي بذلت من أجل إضفاء المزيد من الديمقراطية على مفهوم “الشعب” فإن الاستثناءات لازالت تشمل فئات شاسعة من الناس، وعلى الرغم من أن الديمقراطية الأثينية ربما كانت تميل إلى التطرف في مجال اقتصار حقوقها على فئة معينة إلا أنها لم تكن فريدة من نوعها بأي شكل من الأشكال، فمنذ عصور اليونان القديمة حتى الفترة الحديثة كان هناك دائماً من تم استثناؤهم باعتبارهم غير مؤهلين وحتى حلول القرن العشرين عندما حصلت النساء على حق الانتخابات كان عدد الذين يتم استثناؤهم – كما كان عليه الحال أحياناً في أثينا – يزيد كثيراً على عدد المشمولين. وهكذا كان الحال في أول تطبيق للحكم الـ “ديمقراطي” في الولايات المتحدة الأمريكية حيث لم يقتصر الاستثناء على النساء والأطفال بل شمل أكثر المواطنين السود بل وحتى الأمريكيين الأصليين “الهنود الحمر” وإذا كان استثناء أو إقصاء شريحة كبيرة من المواطنين من حق المشاركة ولو في الانتخابات عبر التصويت مسلم به بحكم القانون الذي هو أسمى تعبر عن إرادة الأمة، فإن الواقع والممارسة الفعلية لحق المشاركة يزيد في توسيع دائرة الفئات المستثناة أو المقصاة من هذا الحق بفعل الأمية أو الفقر أو فقدان الثقة في النظام أو في العملية السياسية بشكل عام، كما أن التجربة الديمقراطية في الكويت اليوم تبين لنا اقتصار مفهوم المواطن السياسي على شريحة محدودة حيث يتم استثناء النساء و “البدون” والأجانب مما يجعل ديمقراطيتهم ديمقراطية النخبة.

الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية و الديمقراطية-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate