قراءة في كتاب العلمانية من سالب الدين إلى موجب الدولة
يشتغل الكاتب سهيل الحبيّب على فرضية أن كتاب عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، هو إضافة نوعية على المستويين المعرفي والنظري إلى ما هو سائد في السياق الفكري والأيديولوجي العربي المعاصر والراهن من فهمٍ نظري للعلمانية، ومن تمثّل تاريخي لظواهرها. ويحاول الاستدلال على صحة هذه الفرضية بتحديد الوجوه المتعيّنة للإضافات المعرفية والنظرية التي يحويها كتاب بشارة، من حيث هو جهد يتتبّع ظواهر التديّن والتَّعَلْمُن على مدار قرون عديدة وفي سياقات عديدة من التاريخ الغربي الحديث والمعاصر والراهن، للوصول إلى الفهم التاريخي لظاهرتَي الدين والعلمانية.
تاريخية الدين والعلمانية
يتألف الكتاب (323 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من مقدمة وستة فصول وخاتمة. خصّص الحبيّب الفصل الأول، “حول مفهوم تاريخية الدين والعلمانية في منجز بشارة وسبل استقصاء رهاناته وراهنيته”، لمناقشة المسائل المنهجية المتصلة بتحديد الرهانات التي يمكن أن يحقّقها منجز بشارة، أو التي يمكن أن تكون ثاوية خلفه، بعد أن ناقش مسائل تتعلق بتحديد ماهية التنزيل التاريخي للدين والعلمانية، أو ماهية “التاريخية” في هذا المنجز. بدت له هذه المسائل إشكالية وخلافية، وعالجها في سياق جدالي، أي بالتفاعل مع قراءات نُشرت حول هذا المنجز، وخلص إلى بناء المقدمات التي سيؤسس عليها مقاربته لمنجز بشارة، وهي جملة فرضيات نظرية ومنهجية تجسّد البُعد المركَّب في المنهج الذي يقدّر وجوب التوسّل به في استقصاء رهانات التاريخية في منجز بشارة، ومفاده أنه حتى إن كان المقصد هو استقصاء رهاناته الأيديولوجية العملية في سياق صراع البدائل الأيديولوجية وفاعليتها داخل ساحة الفعل السياسي العربي، فإن المرور من تحديد رهاناته المعرفية التاريخية والنظرية المفاهيمية داخل سياق الفكر العربي المعاصر والراهن أمر ضروري ولازم.
من العلمنة إلى الوعي الدولتي
يمثل الفصل الثاني، “في نظرية الدولة المباطنة لنظرية العلمنة في منجز بشارة، أو من مفهوم العلمنة إلى الوعي الدولتي الحديث”، ملخّصًا مكثّفًا لأجزاء مخصوصة من كتاب الدين والعلمانية في سياق تاريخي، كما يمثّل قراءة محدّدة في هذا الكتاب. وبحسب الحبيّب، فإن الغاية الأساسية من هذا الفصل هي “أن نستدلّ على فكرة جوهرية نريد أن نخلص إليها في المطاف الأخير، ومفادها أن نظرية العلمنة/ صيرورة التمايز، كما أسّس لها بشارة، إنما هي نظرية تحليلية نقدية، تحيل، من جملة ما تحيل عليه، على نظرية في الدولة، قوامها فكرة مركزية ذات شطرين: الأول أن الدولة الحديثة إنما هي متغيّر سياسي واجتماعي وثقافي جديد ونوعي قائم بذاته في الحداثة، ومختلف بنيويًا عن أنماط الدول أو السلطات أو الكيانات السياسية التي عرفتها عصور ما قبل الحداثة. أما الشطر الثاني من هذه الفكرة المركزية فهو أن هذه الدولة إنما هي معطى قاعدي، أي فاعل ومؤثر، في صيرورة المجتمعات الغربية إلى العالم الحديث، بصرف النظر عن توصيفنا لهذه الصيرورة بكونها صيرورة إلى العلمانية، أو إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان، أو إلى المجتمعات المدنية، أو إلى الأمم المواطنية … إلخ”.
علمنة بشارة والفكرة القومية
يهتمّ الباحث، في الفصل الثالث، “نظرية بشارة في العلمنة بإزاء علمانية الفكرة القومية أو الوطنية”، بالفكرة العلمانية في أحد تجلّياتها الأولى في السياق الفكري والأيديولوجي العربي المعاصر، وهي الفكرة التي تعود جذورها إلى الطرح الذي صاغه فرح أنطون في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ومفاده ضرورة تسويد الرابطة الوطنية بدلًا من الروابط الدينية في بلدان “الشرق”. فالفكرة العلمانية المضمّنة في مقولة الرابطة الوطنية عند أنطون قد تطوّرت، في ما بعد، وأخذت زخمًا جديدًا وكبيرًا مع تنظيرات الفكرة القومية خلال الثلث الأوسط من القرن العشرين في كتابات ساطع الحصري وميشيل عفلق وجمال عبد الناصر. يقول الحبيّب إن الفكرة العلمانية التي عالجها في هذا الفصل انبنت على مبدأ تمايُز الرابطة الوطنية أو الرابطة القومية من الرابطة الدينية، “وهو ما يجعلها تتقاطع مع مفهوم العلمنة عند بشارة في حدود مقولة التمايز المجرّدة؛ بيد أن مناط التمايز من الدين في هذه الفكرة العلمانية، أو العنصر الموجب، هو الرابطة الوطنية أو القومية ذاتها، على خلاف نظرية العلمنة عند بشارة التي تدلّ على أن مناط هذا التمايز والعنصر الموجب إنما هو الدولة باعتبارها ظاهرة حديثة تختلف عن جميع أشكال الكيانات السياسية المعروفة قبل الحداثة”. وهو يرى أن وعي تمايز الرابطة القومية من الرابطة الدينية، مفصولًا عن وعي الدولة الحديثة، يكون وعيًا طفرويًا؛ فلا يقدر على أن يُنتج على المستوى السياسي إلا متخيّلات غير عملية وغير سياسية بالمعنى العملي (توحيد الثقافة العربية عند ساطع الحصري). أما الوعي التاريخي الصيروري الطبقي الذي استنجد به عفلق وعبد الناصر باعتباره ملهِمًا لتحقيق المشروع القومي، فكان بطبيعته مفارقًا لهذا المشروع؛ إذ لم يكن قادرًا على إنتاج متخيّلات عملية تتعلق بصيرورة الاندماج الوطني والقومي.
علمنة بشارة واليسار الجديد
وكان مدار الاشتغال في الفصل الرابع، “نظرية بشارة في العلمنة بإزاء أيديولوجيا العلمانية ومصائرها في خطاب اليسار العربي الجديد”، هو الفكرة العلمانية ذات المضمون العلموي الوضعي، وهي الفكرة التي تتبدّى من خلالها العلمانية باعتبارها أيديولوجيا معادية للدين وقائلة بحتمية أفوله. وإذ يمثّل شطر من كتابات ما يُعرف باليسار العربي الجديد الناشئ بعد هزيمة عام 1967، وتحديدًا خطاب نقد الفكر الديني، التجسيد الأهمّ لهذه الفكرة في السياق الفكري والأيديولوجي العربي المعاصر، فإن جذورها تمتدّ إلى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، إذ تتمثل تجلّياتها الأولى الأبرز في كتابات شبلي شميل. وما يميّز الأفكار والطروحات الفكرية في هذا الفصل هو أنها ليست علمانية فقط، أي لا تعتمد مرجعية غير دينية فحسب، لكنها تجعل من العلمانية، من حيث هي موقف يجسّد فكرة سالب الدين في صيغتها الأكثر حَدّية، مدارًا لتفكيرها، ومناطًا لدعوة أيديولوجية صريحة، ومصدرًا لمتخيّلات أيديولوجية ذات علاقة بمسائل النهوض العربي كذلك. بهذا المعنى، تدخل هذه الأفكار والطروحات في جنس أيديولوجيا العلمانية، أو العلمانية باعتبارها أيديولوجيا. وبحسب الحبيّب، إن مفارقة أيديولوجيا العلمانية كما صاغها شبلي شميل تكمن في أنها أرادت أن تؤسس للسلطة السياسية القائمة على العدل والحرية من مدخل الفكرة العلموية، في حين أن مخرجات منجز بشارة تُثبت أن العلمانية من حيث هي أيديولوجيا علموية، لم تكن، تاريخيًا، هي قاعدة النظام السياسي الديمقراطي، ولكن قاعدته كانت الفكرة التعاقدية التي بدأت “في الثقافة المسيحية وتعلمنت بالتدرّج، حتى أصبحت تضبط علاقة المؤسسات بالبشر، وتنظم مبادئها الأساسية الحاكمة”.
تاريخية حديثة.. تاريخية تراثية
محور الفصل الخامس، “المراهنة على تاريخية العالم الحديث بإزاء المراهنة على تاريخية التراث العربي الإسلامي”، معلم أساسي من معالم تطور الفكرة العلمانية وتطور إشكالاتها وتمثّلاتها من جهة الانتصار لها في الفكر العربي المعاصر. بحسب الباحث، حصل هذا التطور في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وامتد إلى السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، في سياق بروزٍ وتطورٍ لمشروعات وطروحات فكرية ذات بناء نظري نسقي واضح المرتكزات والصيرورات والنتائج، شهدها الفكر العربي خلال تلك الفترة. يقدّر الحبيّب أن أهم هذه المشروعات مشروع محمد عابد الجابري الذي اتخذ نقد العقل العربي عنوانًا رئيسًا له، ومشروع محمد أركون الذي عُرّب بالكامل تقريبًا من أصله الفرنسي بعنوان نقد العقل الإسلامي. يقول الحبيب: “إذ نبوّئ هذين المشروعين على وجه الخصوص منزلة الصدارة من حيث الأهمية، فليس ذاك من جهة طبيعة مخرجاتهما ونتائجهما، لكن من جهة الدور الذي اضطلعا به في تحديد الإطار الفكري العام الذي نسميه في هذا الفصل إطار المسألة التراثية العربية، وهو إطار فكري ما انخرطت فيه ولا سارت وفق مفترضاته أغلب، إذا لم نقل كل، كتابات الجابري وأركون فحسب، بل خضعت له أيضًا طروحات فكرية تفاعلت مع هذه الكتابات مباشرة، أو وقفت على أرضيتها واستبطنت مفترضاتها، بطرائق واعية أو غير واعية؛ أبرزها، في ما يتصل بإشكالية العلمانية، كتابات جورج طرابيشي وعزيز العظمة”. ويختم الباحث هذا الفصل بالقول إن الاستيعاب النقدي لصيرورة العلمنة التي أفرزت قيام العالم الحديث يبقى المجهود الفكري الألصق بمشاغل الواقع العربي الراهن، باعتبار أن ما تَحقَّق في سياق هذه الصيرورة من أوضاع سياسية واجتماعية يبقى من المطالب والطموحات الأساسية التي لا يمكن القفز عليها عربيًا، حتى إن بدت هذه الأوضاع قابلة للتجاوز في سياق المجتمعات التي بلغتها. وهنا بالضبط تكمن راهنية منجَز بشارة.
إعادة بناء العلمانية
ينحو الحبيّب في الفصل السادس، “إعادة بناء مفهوم العلمانية نظريًا بموجب الدولة الحديثة وراهنيته”، في اتجاه تعميم ما يراه علاقة قائمة بين منجَز بشارة النظري حول العلمانية والبديل الدولتي الحديث باعتباره خيارًا أيديولوجيًا وسياسيًا مطروحًا عربيًا اليوم. ويرى أن هذه العلاقة هي، على وجه الدقة، علاقة نظرية معرفية في العلمانية (أنموذج نظري) بوعي أيديولوجي وسياسي قابل لأن يقام عليها أو يُستوحى منها. يسأل الحبيّب: هل يحتاج وعي أيديولوجي وسياسي مثل هذا إلى مرتكَز نظري كالذي يجسّمه براديغم بشارة؟ ويحاول الإجابة عنه في هذا الفصل، من خلال استجلاء ما يعتبره وجهًا من وجوه الراهنية الأيديولوجية والسياسية للجانب النظري الصرف من مخرجات منجز بشارة، لكن بعد أن يبيّن، على وجه التدقيق، “كيف أن الأنموذج النظري الذي قدَّه بشارة قد أعاد بناء مفهوم العلمانية (لا تعريفها سياسيًا) عبر تجريدها وتعميمها في متغيّر الدولة الحديثة (ومتغيّر العلم الحديث) باعتباره متغيّرًا موجبًا قاعديًا أفرز عناصر مستحدثة في السياسة والاجتماع بالأساس، وفرض، من ثمّة، زوال عناصر أخرى تتعلق بمكانة الدين في هذين المجالين”. يكتب الحبيّب: “تبيّن تحليلات بشارة لصيرورات العلمنة في الغرب وتطوّراتها التاريخية أن الموجب الدولتي في السياسة والاجتماع مثَّل شرطًا لحدوث المتغيرات السالبة التي طرأت على مكانة الدين في هذين المجالين، وهو ما أفضى به إلى استنتاج مفاده أنه لا يمكن أن تنجح الدولة في التنافس مع المقدَّس والدين، وفي تسويق المعنى لحياة الأفراد بواسطة الخواء والحياد، ومن هنا تُمنح الدولة معنى طوال التاريخ الحديث. وحتى في الدولة الديمقراطية الليبرالية لا بد أن يُستعاض عن تفوُّق القوى التي تسوّق المقدَّس في سوق الأفكار على غيرها، بتوافق الشعور الوطني الدولتي لوضع مبادئ أخلاقية إنسانية وديمقراطية. إن مثل هذه المستخلَصات المستفادة من الاستقراء والتحليل التاريخيَّين هي التي ستتيح لبشارة بناء أنموذج نظري جديد يعيد بناء مفهوم العلمانية نظريًا”.
منجز نوعي
في خاتمة الكتاب، يقول الحبيّب إنه على الرغم من المحدودية الموضوعية لمدار المقارَبة في هذا العمل، مقارنةً باتساع مجالات المقاربات الممكنة التي تتيح إمكانية استقصاء إضافات منجَز بشارة واستجلاء رهاناته وراهنيته في السياق الفكري والأيديولوجي العربي المعاصر والراهن، فإن التحليلات التي قام بها والنتائج التي توصل إليها تبيح استنتاج أن هذا المنجز “لا يمثّل رقمًا جديدًا في عداد المصنّفات التي كُتبت حول العلمانية في الفكر العربي الحديث والمعاصر، ولا حتى مجرد مقاربة أخرى لإشكالية العلمانية الغربية في الفكر العربي الراهن، بقدر ما يشكّل منجَزًا نوعيًا فيه، وتحديدًا، في سياق ما يضطرم فيه من جدالات كلاسيكية ثابتة حول الدين (الإسلام) والعلمانية. إن بشارة إذ يعيد بناء المعرفة التاريخية، ومن ثمّة يعيد تشكيل الوعي التاريخي، بصيرورة العلمنة السياسية والاجتماعية في الغرب الحديث من حيث هي صيرورة قام فيها متغير الدولة الحديثة بالدور القاعدي والمحرّك؛ وإذ هو يعيد كذلك بناء مفهوم العلمانية نظريًا بموجَب الدولة الحديث بناءً على تحليل هذه الصيررة؛ فإنه يفتح، في تقديرنا، أفقًا جديدًا لجدالات العلمنة والعلمانية في السياق الفكري والأيديولوجي العربي الراهن”.
المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات-موقع حزب الحداثة