العنصرية و نظريات علم النفس السياسي
”ولكي نقيس التسامح، يبدو واضحاً أننا لا نكون بحاجة إلى قياس اتجاهاتنا نحو جماعات نحبها؛ لأن جوهر التسامح يكمن في الاستعداد للعيش جنباً إلى جنب مع أفراد نعارضهم، وأفكار لا نتفق معها. يبدو واضحاً تعريف مقولة فولتير الشهيرة: أنا أمقت وجهات نظرك، لكن على استعداد لأن أموت دفاعاً عن حقك في التعبير عنها“. (من كتاب دايفد باتريك هوتون: علم النفس السياسي، ص 327- 327).
إن عدم التسامح السياسي يرتبط بنزعات شخصية معينة تتسم بالثبات منها التصلب بالرأي والتسلطية والتفاؤل، ومنها أيضاً عدم الأمن النفسي والدوغمائية وعدم الثقة بالآخرين، أو الحقد على بعض، والاعتقادات المتصلة بالقيم الديمقراطية فيما يصلون إليه من قرارات.
يعد علم النفس السياسي مجالا أكاديميا متعدد الاختصاصات، يقوم على فهم السياسة والسياسيين والسلوك السياسي من منظور نفسي. وتعتبر العلاقة بين السياسة وعلم النفس ثنائية الاتجاه، فيستخدم العلماء علم النفس كمرآة لفهم السياسة، وكذلك السياسة مرآة لعلم النفس. ويعد هذا العلم مجالا متعدد الاختصاصات؛ لأنه يأخذ مادته من مجموعة واسعة من التخصصات الأخرى، بما في ذلك: علم الإنسان، وعلم الاجتماع، والعلاقات الدولية، والاقتصاد، والفلسفة، والقانون، ووسائل الإعلام والصحافة بالإضافة إلى التاريخ. ويعرف مورتون دويتش علم النفس السياسي بأنه: دراسة تفاعل علم السياسة مع علم النفس، خاصة أثر علم النفس في السياسة. ومن الجدير بالذكر أن هذا العلم الوليد قام على أسس موجودة في العلوم النفسية وهي دراسات الشخصية، وسيكولوجية وديناميات الجماعة والقيادة، والأسس النفسية لتكوين الاتجاهات، ومهارات حل الصراع … وغيرها، مع تعديل جوهري، وهو تطبيق كل ذلك على مجموعات كبيرة وقوى ضغط ومصالح متباينة.
يهدف علم النفس السياسي إلى فحص مسائل التعصب والعنصرية والتمييز العرقي والتسامح ومحاولة فهمها. عن طريق النظريات النفسية الكثيرة مثل: نظرية الإحباط والعدوان، والنرجسية ويستطيع علم النفس السياسي مساعدة صناع القرار في اتخاذ القرارات الصائبة في مجال العلاقات الدولية، وفي التنبؤ بردود الفعل المحتملة للدول الأخرى لتلك المبادرات والاتفاقيات السياسية.
بالمقابل، ركز علم نفس العنصرية عبر التاريخ على سيكولوجية الفرد، كيف تدفع المعتقدات والسلوكيات الفردية العنصرية (المقاربة النفسية الاجتماعية)، لكن قيدت رؤية العنصرية من هذا المنظور وحده حدود شديدة. واليوم، يستخدم بعض الباحثين في علم النفس المقاربة الثقافية الاجتماعية ويدافعون عنها، والتي تنظر إلى العنصرية على أنها أفكار وممارسات راسخة في الثقافة وتكون جزءاً لا يتجزأ منها؛ إذ يشكل الأفراد الثقافة وتشكل الثقافة الأفراد.
بناءً عليه، يتساءل علماء نفس السياسة المهتمين بجذور التعصب العنصري من بينهم فيديريكو ولاكس Federico and Luks، ما الذي يجعل أفراداً عاديين عقلانيين وأصحاء نفسياً يتحيزون ظاهرياً أو باطنياً ضد شخص معين أو جماعة بكاملها، ويمثل هذا التحيز في الحقيقة واحداً من أكبر الألغاز التي يواجهها علم النفس الاجتماعي والسياسي، وربما العلوم الاجتماعية قاطبة، والنظريات النفسية التي تصدت لتفسير العنصرية ونشوء التوترات العنصرية عديدة ومتنوعة، ومن هنا نجد الكثير من هؤلاء العلماء يتصدى لدراسة أسباب انتشار هذه الظاهرة الموجهة نحو جماعة عرقية معينة وتستند إلى نظم من القوة والقمع. يُنظر إلى العنصرية أحياناً بأنها مشكلة مع الأحكام المسبقة العنصرية للفرد، لكن من المهم إدراك أنها متعددة الأوجه ومنهجية.
يذخر التفكير الإنساني بالعديد من التفسيرات العنصرية من حيث تصرفات وإيديولوجيات الفرد العلنية (الفهم الاجتماعي النفسي)، إلا أنها موجودة أيضاً ضمن الأنظمة، المؤسسات، والثقافات (الفهم الثقافي النفسي). بهذه الطريقة، فإن العنصرية جزءً لا يتجزأ من واقع الحياة اليومية. وبما أن التمييز العنصري هو جزء من الحياة اليومية، الأنماط الثقافية والقصص التاريخية، فمن الصعب أحياناً على أفراد المجتمع رؤية كيف تحرض الأفكار المألوفة والعادية وجهات النظر والسلوكيات ذات الطابع العنصري، كما لا يتمحور التمييز العنصري فقط حول إظهار الأفراد الأفكار المسبقة العرقية أو الانخراط في أفعال مباشرة تنم عن التمييز العرقي؛ إذ تكون أحياناً أقل وضوحاً وأكثر مكراً، وتؤثر على المؤسسات مثل نظام العدالة، حيث يواجه المتهمون ذوو البشرة السوداء أحكاماً أقسى مقارنة بالمتهمين البيض بنفس الجريمة على سبيل المثال.
قد يشير تزايد التعبيرات العلنية عن التحيز العرقي أن الأحكام المسبقة العنصرية (وبالتالي العنصرية) أقل تطرفاً في أمريكا المعاصرة على سبيل المثال، لكن يوضح العديد من علماء النفس أن التحيز العرقي قد دفن لكنه نما وازدهر بأشكال أكثر مكراً، مُقدمين أدلة دامغة على ذلك. وفي حين أن أغلب التصرفات الفردية الصارخة، والتي تنم عن العنصرية لم تعد مقبولة في “الاتجاه السائد” في المجتمع الأمريكي المعاصر، إلا أن فهم مجتمعنا لماهية العنصرية يستمر في التطور والتغير.
في حقيقة الأمر، إن مؤسساتنا ليست بعيدة جداً عن سنوات الاستعمار والعبودية والفصل العنصري، ولا يزال تجاهل العنصرية أو التغاضي عنها قائماً أو حتى دعمها بشكل نشط في العديد من جوانب الحياة الاجتماعية. لذا يجب علينا في سبيل فهم أفضل لآلية عمل العنصرية، من المهم النظر إلى ما هو أبعد من سيكولوجية الفرد أي إلى الممارسات المنهجية والثقافية التي تستمر في دعم العنصرية.
أجرت سوزان فسك Susan Fiske القدر الأكبر من البحوث حول العنصرية racism والتعصب prejudice والتمييز discrimination في الولايات المتحدة. وتفسر فسك ذلك بقولها: “إن قروناً من الهجرات الشديدة التنوع التي دخلت في أمة واحدة، دفعت القضايا الإثنية إلى السطح في الولايات المتحدة أسرع من أي مكان آخر، ولكنها تؤكد أن كثيراً من النظريات التي استخدمت لتفسير العنصرية تنطبق على التعصب في السياسة الأوروبية بالقدر الذي تنطبق فيه على التعصب في السياسة الأمريكية”. والحقيقة أن معظم النظريات التي تفسّر هذه الظاهرة يمكن تطبيقها على أي منطقة من العالم، حيثما يكون هناك فروق عنصرية وإثنية بارزة داخل الدولة الواحدة.
إن النظريات النفسية التي تصدت لتفسير العنصرية ونشوء التوترات العنصرية عديدة ومتنوعة إلى حد يبعث على الدوار في الحقيقة، ولا يسعنا استعراضها على قدم المساواة هنا، ولكننا نستطيع الإشارة إلى الخطوط العامة للواحدة منها بالتأكيد.
كما تذهب فسك أننا نستطيع تصنيف جميع هذه النظريات في صنفين: نظريات تفسر ظاهرة التعصب على مستوى فردي (individual – level theories) ونظريات تفسرها على مستوى السياق أو الإطار المحيط (contextual – level theories). بوجه عام يمكننا النظر إلى العنصرية، كغيرها من الظواهر السياسية، باعتبارها نتاجاً الاعتقادات يحملها أفراد معينون أو نتاجا للشخصيات الخاصة بهؤلاء الأفراد، أو قد تكون نتاجاً لعوامل موقفية تشجع أو تسمح بممارسة سلوك عنصري.
وفي هذا المقال، سنحاول تفسير العنصرية من خلال مناقشة نظرية الشخصية التسلطية، والسيطرة الاجتماعية، ونظرية التنميط الاجتماعي (الوصم الاجتماعي)، من خلال ما يلي:
– نظرية الشخصية التسلطية: يرى بوب ألتيماير Bob Altemeyer أن أساس نظرية الشخصية التسلطية القديمة قد ارتبط بتيودور أدورنو Adoro Theodore وزملائه، ولكنه حاول أن يزيل شيئاً من الغموض الذي اعترى تلك النظرية. فقد حددت نظرية أدورنو في الأصل تسع سمات شخصية يفترض أن تميز الجناح اليميني التسلطي من الناس، لكن ألتيماير اختصر هذه السمات في ثلاثة مجموعات من الاتجاهات، وهي: الخضوع للسلطة: (ويعني ذلك ميلاً شديداً لدى الفرد إلى الخضوع للسلطة). والعدوان التسلطي (العدائية تجاه الجماعات الخارجية). والتقليدية: وتشير إلى الامتثال للمعايير الاجتماعية وعدم الاستعداد للتصدي للواقع القائم)، وأطلق ألتيماير على الصيغة المنقحة من النظرية تسمية (تسلطية الجناح اليميني) وطور مقياساً لقياس درجة اتسام الأفراد بهذه الصفات. ويمكن النظر إلى العنصرية ببساطة، من وجهة نظر ألتيماير، كواحدة من خصائص هذا الصنف من الشخصية التي تتسم بالتعصب الشديد إزاء الجماعات الخارجية من أي نوع، بما في ذلك الأميركيين من أصول إفريقية، يقول ألتيماير بهذا الصدد: يحمل أصحاب هذه الشخصية الكثير من التعصبات، فهم معادون لكثير من الأقليات، ويظهرون تعصباً على الجميع على قدم المساواة. ولكنهم لا يدركون في العادة أنهم متمرکزون حول ذواتهم، ولا يرغبون في اكتشاف ذلك، وهم على استعداد دائماً لمساعدة الحكومة في اضطهاد أي جماعة تخطر ببالك، بما في ذلك هم أنفسهم.
وتثير نظرية التسلطية اليمينية، التي يطرحها ألتيماير إشكالية أخرى تتعلق بالتمييز بين الموقفية والنزوعية. فمن الناحية الأولى، ليس هناك من شك في أن الأفراد يصبحون متعصبين نتيجة للبيئات أو الظروف التي يجدون أنفسهم فيها، وليس لأنهم ولدوا على هذه الشاكلة. وبهذا المعنى تكون معظم النظريات موقفية في جذورها؛ لأن الناس لابد أن يحصلوا على نزعاتهم من مكان ما والاستثناء على ذلك هو النظريات البيولوجية التي تؤكد أننا نولد بشيء من النزعات الموروثة في الأقل ولا نولد صفحات بيضاء.
ويعتقد ألتيماير أن اليمينيين التسلطيين يتعلمون اعتقاداتهم التسلطية في الطفولة كما يفعل ذلك غير التسلطيين، لكن الفروق تكمن في أن غير التسلطيين يكونون أكثر وعياً بأنفسهم، ويعملون على تعديل اعتقاداتهم المبكرة بالخبرة، في حين أن التسلطيين يحافظون على تلك الاعتقادات. ومن ناحية ثانية، يمكن اعتبار هذه النظرية نظرية نزوعية من حيث إن الاتجاهات التسلطية، وإن كانت متعلمة، إلا أنها تمثل نزعات تستعصي على التغيير لاحقاً، وتستمر مدى الحياة. ومع أن السبب البعيد لهذه النزعات قد يتصل بعوامل موقفية، إلا أن السبب المباشر، أو القريب، يكون سبباً نزوعياً.
ومع أن نظرية ألتيماير أصبحت معروفة على نطاق واسع الآن واكتسبت بعض المناصرين، إلا أنها لا تتمتع بالقبول الذي تتمتع به نظريات أخرى في هذا المجال. وبعيداً عن الانتقادات الأساسية حول هذه النظريات المبسطة في الشخصية، فإن نظرية الشخصية التسلطية تدعو إلى التساؤل عن السبب الذي يجعل مناطق بكاملها تعبر عن عواطف عنصرية شديدة إزاء جماعة أو جماعات معينة أو تمارس التمييز ضدهم، أو تفعل الأمرين معاً. وقد يكون نظام جيم کرو Jim Crow الذي قام على الفصل العنصري في الولايات المتحدة الجنوبية قديماً هو المثال الكلاسيكي لهذه الحالة أو الإشارة هنا إلى تعصب جماعة بكاملها وليس إلى تعصب أفراد.
– نظرية السيطرة الاجتماعية: يعدّ جيم سيدانيوس Jim Sidanius هو المدافع البارز عن نظرية السيطرة الاجتماعية في العلاقات بين الجماعات. وهذه النظرية، خلافا لسابقتها، نظرية عامة في العلاقات بين الجماعات، ويمكن الاستناد إليها الفهم أنواع مختلفة من الصراعات غير الصراعات القومية.
وتركز هذه النظرية على الدافع إلى السيطرة الاجتماعية والمقصود هنا سيطرة الجماعة التي ينتمي إليها الفرد، وتميز بين الأفراد من حيث توجهاتهم نحو هذا النوع من السيطرة؛ فالأفراد الذين يظهرون توجهاً قوياً نحو السيطرة الاجتماعية يرون جماعتهم على أنها جماعة مختلفة – تتميز عن الآخرين – ويرغبون في أن تحتل مركز السيطرة في المجتمع. هذه النظرية وإن كانت أكثر تعقيداً من سابقتها، إلا أنها تشترك معها في جذورها النظرية. وكما سبق أن أشرنا، فإن هذه النظرية تزعم أن الأفراد ذوي المكانة الميدانية يمكن أن يأخذوا بالأساطير التي تسبغ شرعية على التراتبية القائمة في المجتمع إلى حد يجعلهم يحابون الجماعة الخارجية ذات المنزلة العالية. ويعتبر سيدانيوس تفضيل السود لـ العم توم، الأبيض أثناء حقبة الفصل العنصري في الولايات المتحدة، أوضح مثال على هذه الظاهرة في العصر الحديث، والتي نجمت عن خضوع السود للبيض تاريخياً.
ولقد كرس أنصار هذه المقاربة الكثير من الجهد لدراسة العنصرية على وجه الخصوص. ووفقاً لما ترى فيليشيا براتو Felicia Pratto وزملاؤها، فإن التوجه للسيطرة الاجتماعية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعنصرية المناوئة للسود، والتعصب على مجموعات الأقليات بشكل عام. وتؤكد فيليشيا وزملاؤها أن إيديولوجية العنصرية المناوئة للسود لم تتمثل في أفعال شخصية تمييزية فحسب، بل شملت تمييزاً مؤسسياً ضد الأميركيين الأفارقة في المجالات المختلفة، مثل البنوك، وهيئات النقل العام، والمدارس، والكنائس، وقوانين الزواج، ونظام العقوبات. ولا تأتي النظرية بالكثير عن المصدر الذي خرجت منه الأساطير المشرعة للعنصرية أو طبيعة هذه الأساطير أكثر من القول إنه يجري تناقلها من خلال الجماعات المسيطرة، غير أن أنصار هذه النظرية يرون أن المصدر الذي تنبثق منه الإيديولوجية العنصرية، والأشكال التي تأخذها ليست ذات أهمية. ومن هنا، فإن هذه النظرية لا تمتلك الكثير لتقوله عن الميكانزمات النفسية التي تعزز التفكير العنصري، على الرغم من أن طبيعتها غير المحددة تسمح بتطبيقها على نطاق واسع من مواقف الصراع بين الجماعات.
– نظرية التنميط الاجتماعي (الوصم الاجتماعي): تعود جذور هذه النظرية إلى خمسينيات القرن الماضي كتفسير للسلوك الانحرافي ويعتبر عالم الاجتماع الأمريكي “أدوين ليمرت” أول من تحدث عنها، وكلمة (وصم) تعني باليونانية النقطة السوداء في الصفحة البيضاء، إذن فهي تصمها أو تميزها. وفي اللغة العربية هو العار والعيب. اصطلاحاً هي صورة ذهنية سلبية تلتصق بالفرد كتعبير عن الاستياء والاستهجان لهذا الفرد نتيجة اقترافه سلوكاً غير سوي يتعارض مع القيم والمبادئ السارية في المجتمع.
وفي سياق أدبيات علم النفس السياسي تعدّ واحدة من النظريات الواقعة ضمن المعسكر النزوعي التي حظيت باهتمام واسع في السنوات الأخيرة. وكواحدة من نظريات العنصرية، تُرجع نظرية التنميط هذه الظاهرة إلى الطريقة التي يصنف بها العقل البشري المعلومات. بالمقابل تنطبق هذه النظرية أيضاً على الصور النمطية العنصرية في هذا النطاق. ينبثق التنميط العنصري جزئياً، وفقاً لهذا المنظور، من حاجة الإنسان الأساسية إلى تبسيط الواقع، ووضع الناس والأشياء في أصناف. وتفيد فسك وتايلر في كتابهما الكلاسيكي المعرفة الاجتماعية، الصادر عام 1984 أن النظرة إلى الصور النمطية كجانب اعتيادي من جوانب العملية المعرفية، حين تطبق على الناس، أصبحت مقبولة على نطاق واسع، وهي تختلف اختلافاً بيّناً عن النظرة التقليدية إلى الصور النمطية كظاهرة غير عقلانية معزولة عن غيرها من العمليات المعرفية. ويبدو أن الصور النمطية السلبية تتكون، في جانب منها، نتيجة لنزعتنا إلى إقامة ارتباطات وهمية بين الأفراد والجماعة التي ينتمون إليها في نظرنا، وتفيد فسك وتايلر، في هذا الصدد: قليلاً ما يتصل أعضاء جماعة الأكثرية بأعضاء من جماعة الأقلية (هذا من جهة، ومن جهة أخرى قليلاً ما يصدر عن الناس سلوك سلبي لأن السلوك الإيجابي أو المحايد هو الغالب)، وربما تُقيم جماعة الأكثرية ارتباطاً وهمياً بين مثل هذين الحدثين النادرين (أي عندما يصدر سلوك سلبي عن فرد من جماعة أقلية)، وتستنتج أن أعضاء جماعة الأقلية أكثر ميلاً إلى القيام بالسلوك السلبي من جماعة الأكثرية.
ولعل المثال التالي يوضح مفهوم الارتباط الوهمي هذا. تخيل مثلاً أنك طالب جامعي أبيض من منطقة ريفية تستأجر شقة من مالك باكستاني في مدينة ليدز بإنكلترا. والباكستانيون يشكلون أقلية كبيرة في المملكة المتحدة، ولكنهم يفضلون الإقامة في المدن الكبرى في الشمال والوسط، مثل بيرمنغهام، ومانشستر، وليدز. ودعنا نتخيل أن الماء أخذ يتسرب من سقف شقتك، لكن المالك لم يرد على مكالماتك ورسائلك المتكررة طالباً إليه إجراء الإصلاح اللازم، ونتيجة لذلك نشأ لديك نفور شديد منه واستغراب، وقررت الانتقال من الشقة بأسرع ما يمكن. ففي مثل هذا الموقف، وخصوصاً إذا لم يكن لديك أصدقاء باكستانيون، ولم يكن لديك كثير من العلاقات مع باكستانيين آخرين؛ أي لا يوجد لك علاقة بأحدهم على الإطلاق، فإنك ستميل على الأرجح إلى استنتاج وجود صلة (أو ارتباط وهمي) بين سلوك هذا الشخص والباكستانيين کجماعة. وقد تجد نفسك تنعت الباكستانيين جميعاً بنعوت عنصرية، على الرغم من أنك لم تعتبر نفسك يوماً شخصاً متعصباً. ومن حيث إن هذه المقاربة المعرفية التي نحن بصددها تفترض كذلك أننا “علماء بالفطرة”، فقد يجد الواحد منا نفسه منقاداً إلى بناء استنتاج غير سليم على أساس من حالة منفردة واحدة.
وليس مستبعداً أن تتطور لدينا مشاعر عنصرية إزاء الباكستانيين في المثال السابق. أما إذا كانت لدينا معرفة بعدد كبير من المالكين، وكانت لدينا خبرة مماثلة مع معظمهم، فإننا قد تلحق هذا الفرد وصمة المالكين، بدلاً من وصمة الباكستانيين. وستؤدي تلك الحالة إلى مشاعر تعصبية على جميع المالكين بدلاً من الباكستانيين، وعليه، فإن نظرية الوصم ترى أن العنصرية ليست أمراً حتمياً، فهي تعتمد على الوصمة المستثارة، وعلى مخزون الوصمات الذي يمتلكه الفرد ومضامينها. وهذا هو العنصر الذي يجعل مقاربة الوصمات مقاربة نزوعية من حيث الأساس.
وقد جرت دراسة التنميط ودوره في التعصب منذ بداية الثلاثينيات في الأقل، وكانت معظم البحوث فيه تنطلق من منطلق فرويدي کلاسيکي، أو تحليلي نفسي، وتنظر إلى العنصرية كشكل من الإسقاط يقوم فيه أفراد مضطربون نفسياً بإسقاط مشاعر النقص التي يحملونها على الآخرين، ولكن الرائد الحقيقي لدراسة هذه الظاهرة كان عالم النفس الاجتماعي الشهير غوردون البورت الذي ظل كتابه (طبيعة التعصب) الصادر عام 1954 مؤثراً في هذا المجال لفترة طويلة حتى بعد وفاته.
وقد نظر ألبورت إلى التعصب على أنه كراهية مبنية على تعميم خاطئ ومتصلب، قد يظل شعوراً أو يجري التعبير عنه، وقد يتجه نحو جماعة أو نحو فرد من تلك الجماعة. وعندما وضع البورت كتابه، كان ينظر إلى التنميط العنصري كخلل في الشخصية، ولكنه كان أول من تطرق إلى الفكرة المقلقة بأن العنصرية قد تنجم عن عمليات طبيعية لا تعدو أن تكون جزءاً من العمل المعتادة للذهن الإنساني، وأصر ألبورت على أن العقل الإنساني لابد أن يستند إلى التصنيفات ليفكر ويضيف ما أن تتكوّن التصنيفات، حتى تصبح الأساس المعتاد للأحكام المسبقة. بذلك مهد ألبورت لتطوير المقاربة المعرفية في التعصب، ولكنه تبنى وجهة النظر القديمة، واعتبر التعصب كراهية غير عقلانية متجذرة تنجم عن الجهل وتعكس مناورات دفاع نفسية يتوسلها ذوو البناء الشخصي الضعيف من الناس، كما أكد ألبورت دور العوامل الانفعالية والدافعية في التعصب، الأمر الذي مهد لأجيال من الباحثين أخذ أفكاره والانطلاق بناء عليها في اتجاهات مختلفة. أسفل النموذج
وبنى الباحثون لاحقاً على أساس هذا البعد المعرفي في تحليل ألبورت بوجه خاص، على الرغم من أنهم خالفوا حُججه أحياناً، كما يمكن أن نتوقع. وقد افترض ألبورت، كما غيره من الباحثين، أن وجود الصور النمطية يقود إلى اتجاهات تعصبية لا محالة.
وعلى العموم تتبنى غالبية البحوث في التسامح السياسي (منحي نزوعي)؛ فقد وجدت الدراسات المبكرة في هذا المجال أن التسامح يرتبط بنزعات شخصية معينة تتسم بالثبات نسبياً منها: التصلب بالرأي، والتسلطية، والتفاؤل، عدم الأمن النفسي، والدوغمائية، أو التصلب بالرأي أيضاً، وعدم الثقة بالآخرين. وقد سعت بعض الدراسات في هذا السياق إلى تحليل العوامل التي تؤثر في صنع القرارات المتعلقة بالتسامح، وبالأخص فيما يتعلق بدور الانفعال في صنع القرارات، وهو منظور نزوعي أيضاً من حيث إنه يركز على الفروق بين الأفراد في الاستجابة للبيئة المعلوماتية المحيطة بهم ذاتها. كما تلعب الفروق الفردية دوراً هاماً في اختلاف الناس في الطريقة التي يصنعون بها الأحكام المتعلقة بالتسامح، وفي الطريقة التي يتعاملون بها مع المعلومات الراهنة، فالناس يختلفون في ما يحملونه من نزعات، وفي ما يصلون إليه من قرارات، وقراراتهم القائمة تلك تؤثر في مدى تسامحهم أو عدم تسامحهم. فقد يختلف الناس، مثلاً، في مستوى معرفتهم السياسية وخبرتهم، وطريقة معالجتهم للمعلومات الجديدة. وهذا يعني أن القرارات المتعلقة بالتسامح هي في نهاية المطاف نتيجة المزيج من العوامل، تتضمن: النزعات القائمة لدى الأفراد والمتعلمة مبكراً في الحياة، والاعتقادات المتصلة بالقيم الديمقراطية، والمعلومات المحددة المتعلقة بالحالة قيد البحث.
إننا عندما تواجه حجم العنـصرية الكبير في العديد من البلدان، فمن السهل أن تشعر بالعجز أمامه، لكن هناك بعض الأشياء التي يمكنك القيام بها على المستويين الفردي والمجتمعي للتأثير على العنصـرية الشخصية والمنهجية على حد سواء. فيما يلي بعض الإجراءات التي يمكن من خلالها مكافحة العنـصرية: ففي البداية يجب علينا العمل على بناء نظام قائم على المساواة تشترك فيه المجتمعات كافة بشكل عادل. والانتباه المباشر إلى مشكلة التمييز العنصري بدلاً من إخفائها أو التظاهر بعدم وجودها، كما يجب علينا عندما نواجه موقفاً عنصرياً، أن نتحدى ونسأل الناس عن سبب تفكيرهم بهذه الطريقة وشجعهم على أخذ البدائل بالاعتبار. بالإضافة إلى ذلك ينبغي علينا أن نتذكر أن التغيير لا يحدث بين ليلة وضحاها والتحلي بالصبر إذا كان التقدم باتجاهه بطيئاً، فحتى التغييرات الصغيرة بإمكانها أن تؤدي إلى نتائج كبيرة عندما يكون الفعل مستمراً ومتسقاً، كما يجب علينا تعليم الأطفال الاندماج والتعاطف مبكراً، حتى يكونوا قادرين على تحديد العنصرية ومواجهتها عند البلوغ، وإجراء بحوث نفسية تتناول كيفية تغيير المعايير الاجتماعية وأفضل الطرق لتطبيق النظم التي تؤدي بالنتيجة إلى تغيير مواقف الناس في المجموعة السائدة (المهيمنة)، حيث تتأثر النظم أيضاً بهذا الاتجاه، والسعي إلى تصميم مناهج تعليمية تتناول تاريخ العنصرية وتعلم التلاميذ كيفية إدراك التحيزات الموروثة لديهم. بالإضافة إلى القيام بعملية التواصل في ظروف مواتية مع مجموعات أخرى، والعمل نحو تحقيق أهداف مشتركة مع أشخاص من أعراق مختلفة، كما يجب علينا السعي إلى تكوين صداقات بين الأعراق وتعزيزها، حيث يستطيع أعضاء المجموعات رؤية بعضهم كأفراد بدلاً من اعتبارهم مجرد جزء من الطائفة أو العرق.
باختصار شديد، إن مكافحة العنصرية أبعد من مجرد أن تكون شخصاً (غير عنصري)، والتي تعادل أحياناً العنصـرية السلبية، تعلم كيف يكون الفرد مناهضاً نشطاً للعنـصرية وهو أمر أساسي. فعلى سبيل المثال، أظهرت الأبحاث أن اتباع نهج أكثر مباشرة ومناهضة للعنصـرية في تعليم الأطفال عن تاريخ العنصرية له التأثير الأكبر على فهمهم للأثر الحقيقي لها.
وفي الختام، نهى الإسلام عن ممارسة العصبية والعنصرية وحاربها باعتبارها من صفات أهل الجاهلية، وهي في وقتنا الحاضر تلازم الشعوب المتخلفة، والدول الممزقة والمتقدمة أيضاً باعتبارها انعكاساً لتشوهات التربية العقيمة، ومظهر من مظاهر الأمراض الاجتماعية والثقافية، التي تنذر بالعواقب الوخيمة، والنتائج الخطيرة على تماسك المجتمع ووحدته، وفي تجاهل أسبابها ومسبباتها أو التساهل مع متعاطيها محفز لانزلاق المجتمع نحو التناحر فيما بينه، وبالتالي يصبح مجتمعاً ممزقاً يسهل افتراسه.
لحسام الدين فياض
مؤسسة مؤمنون بلاحدود-موقع حزب الحداثة.