الدكتاتورية والحزن
الحزن هو إحساس إنساني فردي، يدلّ على عدم قدرة الجسد على التعبير عمّا يستطيع القيام به وما يرغب في تحقيقه. فحتى لو ارتبط الحزن دائمًا بموضوع خارجي؛ حيث نحزن عندما نفقد حبيبًا أو قريبًا أو صديقًا مثلًا، فإن ذلك يأتي بالضبط لأن جسدنا لن يكون قادرًا على التأثير في موضوع الحزن، لن نستطيع مثلًا استعادة من فقدناه، ولن نستطيع تغيير ما وقع، فينفجر الحزن في الجسد دافعًا إياه نحو البكاء أو الحسرة أو القهر والغصّة والاكتئاب، وذلك نتيجة انعدام قدرتنا على التأثير، وعدم تحقق رغبتنا في تغيير ما حدث.
لا يمكننا الحزن على أشياء مجرّدة، بل نحن نحزن دائمًا لأشياء مجسدّة ومحددة ومشخصّة، أشياء نكون قادرين على التأثر والتأثير فيها، فإن لم نتمثل ما نحزن لأجله، لم نتمكن من الحزن عليه؛ ولذلك مثلًا قد تتحرك البشرية لرؤية طفل عالق في مكان ما بين الحياة والموت، ولكن لا يتحرّك أحد عندما يسمع أرقام ضحايا، مجرّد أرقام، ولذلك أيضًا نحزن أكثر على من نعرفهم وعاشرناهم، ونحزن أقل على من لا نعرفهم.
لكن الحزن ذاته قد يصبح مجردًا، عندما يتحول إلى حالة دائمة، جو عام ووضع اجتماعي، كآبة مديدة وفقدان للمعنى، وفقدان للقدرة على التأثير والتأثر بالعالم. الدكتاتورية، التي هي موضوعنا، هي مصنع لإنتاج الحزن، ومُولِّد دائم لكآبة المجتمعات وبؤس الدول. يمكننا الحديث بالطبع عن دكتاتورية الأب أو العائلة أو الدين، ولكن سنركز هنا على الدكتاتورية السياسية التي تجمع كل ما سبق وتحتويه وتولّده وتعزز حضوره. فما تفعله الدكتاتورية هو أنها تمنع البشر من تحقيق قدراتهم، ومن التعبير عن إحساساتهم ومشاعرهم علنًا، وتمنع أجسادهم من التعبير عن قواها وقدراتها ورغباتها. التعبير عن المشاعر يُصبح خطرًا، والجسد يُصبح مكبلًا بمخاوفه من الداخل، ومراقِبًا دائمًا لحركاته وإشاراته وتحولاته وكلماته. وانعدام التعبير يرتدّ حصرًا وكبتًا وانكفاءً نحو الذات. وهذه الأشياء مجتمعة، عندما تحصل لجسد الإنسان، ستجعل منه كائنًا أقلّ قدرة على المتعة في الحياة، أقل قدرة على الفرح، فالفرح هو بالضبط قدرة الجسد على إطلاق طاقاته. وليس انعدام القدرة على الفرح إلا انكماشًا للذات على نفسها، وبناء قدرة مضادة على الحزن، تبدأ كردة فعل على انعدام الفرح، وتتحول إلى نمط حياة وعيش في الحزن والقلّة والكآبة.
تراثنا العريق، تحت حكم الدكتاتوريات المتتالية، هو تراث الحزن، أغانينا الشعبية وغير الشعبية، أشعارنا وأمثالنا وحكاياتنا، وبطولاتنا، الموسيقى التي نطرب لسماعها (العود والبزق والناي مثلًا أصبحت آلات موسيقية لتمثيل الحزن فنًّا). علاقاتنا غالبًا ما تأخذ طابعًا تراجيديًا، تعلّق الأمّ بأطفالها له طابع تراجيدي، تعلّق الأبناء بآبائهم وأمهاتهم يأخذ طابعًا تراجيديًا، العلاقات العاطفية والزوجية تأخذ طابعًا تراجيديًا، بل إن العلاقات الأكثر متانة وحميمية تصبح علاقات الذين يفهمون أحزان بعضهم ويتشاركون الحزن. المجتمعات تحت الدكتاتورية تقدّس الحزن وتخاف الفرح وتتعوذ منه مع كل ضحكة. الحزن هو الأرضية، هو الفضاء الواسع، وليس الفرح إلا سُحبًا عابرة في ذلك الفضاء الواسع للحزن.
لكن الوجه الآخر للحزن والمتشابك معه بقوة هو العنف. فالمجتمعات الحزينة هي مجتمعات عنيفة، وتميل نحو العنف في كل سلوك يومي أو تفاعل ناشئ بين أفرادها أو جماعاتها. سواء كان العنف الذي تحتاجه ضد ذاتك من أجل القبول والرضوخ والصمت، أو العنف الذي تحتاجه ضد الآخر في حال الاختلاف والتمرّد والثورة. وأما عنف الدولة الذي سمّاه ماكس فيبر عنفًا شرعيًا، فهو لا ينطبق على دولنا وأنظمتنا السياسية، لأنه عنف لا يخضع لقانون يسود على الجميع. لم يوقع أحد من الأفراد العقد الاجتماعي مع السلطة، ولم ينتخبها أحد ولم يخترها أحد من بين متنافسين أحرار. ومن جهتها، لم تستشر السلطة أحدًا عند قدومها واستيلائها وبقائها في السلطة، بل حصلت على السلطة بالقوة المسلّحة والفرض، ثم بالوراثة وتوريث الحكم. ولذلك لا شيء شرعيًا في عنفها.
لكن العنف الذي يبدأ في السلطة، يتسلسل جذموريًا في كل شيء، وفي كل مجال اجتماعي. عنف في العلاقات العائلية، في علاقات الرجل بالمرأة، الكبار بالصغار، المديرين بالموظفين، الشرطة بالشعب، الأساتذة بالطلاب، المؤسسات مع بعضها، ضد بعضها، عنف في علاقات العمل، عنف في الكلام، في إشارات الجسد وتحركاته، عنفٌ حتى في نشرات الأخبار الرسمية التي تكذب وتفرض كذبها كقوة رسمية معتمدة ورمزية سائدة. والعنف ليس بالضرورة أن يكون مباشرًا وفيزيائيًا، بالرغم من أنه يقوم بالأصل على العنف الفيزيائي الجسدي. ولذلك قد يصبح شعورًا دائمًا بالتهديد، فعندما يطلب شرطي أو حاجز أمني هويتك، فإن طلبه قد لا يتحوّل إلى عنف فيزيائي أو اعتقال على الإطلاق، ولكن شعورك بالتهديد والخوف واحتمال العنف الجسدي سيبقى حاضرًا، لأن كل شيء تعسّفي في الأنظمة الدكتاتورية، غير الشرعية. والعنف بهذا المعنى هو عنف مالئ للأجواء، حيث إن عيشك الدائم في محاولات تجنّب العنف، وعدم التعرض له، هو بحد ذاته عنف، فتجنّب العنف هو نتيجة لعنف أصلي ممارس ضدك، ولو لم تره عيناك، فعقلك يتوقعه ويتحاشاه وقلبك يرتعب منه. عنف يتكرر عندما تكذب على والديك لسبب تافه أو معقّد، عندما تكذب على طفلك بأنك تحب الرئيس مثلًا، عندما تكذب على الجميع فقط لتخفي حقيقة ما تشعر به. كمّ العنف الذي تمارسه ضد نفسك، لتخفي حقائق تافهة أحيانًا، يجد مصدره هناك، في شخص الدكتاتور ذاته، مؤسس الخوف ومؤسس الحزن وحارسهما. والخوف هو أكبر مولّد لعدم الثقة، فلا أحد يثق بأحد في المجتمعات الخائفة، في المجتمعات الحزينة، وذلك ببساطة لأن الجميع يكذب، الجميع يتظاهر بما ليس هو، الجميع يتحدث عما تريد سماعه، لا عمّا يشعر به.
قد يظن المرء؛ إذا كان هيغليًا، أن الدكتاتور هو الوحيد الحرّ في البلاد التي يحكمها، ويعيش فيها الجميع مكبلين بقيودهم، فحريته مثل حرية الإله في العالم، يثيب ويعاقب ولا يُسأل عمّا يفعل. ولكن لا. لا يقلل الظلم من إنسانية المظلوم ويُفقرها فحسب، بل يُفقر إنسانية الظالم أيضًا، ويجعله عبدًا لظلمه بالذات، يجعله غير قادر على تطوير أي مشاعر أو تفاعل أو مشاركة بشرية صادقة مع الآخرين، يجعله خائفًا ممن يحكمهم، غير قادر على الثقة بأحد. وأما قوة الدكتاتور، فهي ليست قوة بالمعنى الحقيقي، بل ردّة فعل على الضعف، هي قوة خاصة بمريض، إنها القوة كما يتصورها مريض.ليس الحزن خاصًا بالدكتاتورية، ولكن الدكتاتورية خاصة بإنتاج الحزن.
لماهر مسعود.
مركز حرمون للدراسات المعاصرة-موقع حزب الحداثة