العلمانية وما بعد العلمانية
يؤدي النظر في طبيعة الأنظمة الاجتماعية والثقافية والسياسية لأغلب المجتمعات المعاصرة إلى القول إنَّ ما يميّزها هو طابعها العلماني والديمقراطي. ويبدو أنّ الجمع بين الديمقراطيّة والعلمانيّة ليس اعتباطيّاً، فمن الناحية الفكريّة والنظريّة لا تنفصل الديمقراطيّة، بوصفها نظاماً سياسياً أساسه الإرادة الشعبيّة التي تعبّر، في الوقت نفسه، عن الاستقلاليّة السياسية للجماعة ككل وعن حريّة الأفراد؛ عن العلمانيّة باعتبارها نمطاً من الحوكمة السياسيّة يقوم على مبدأ حياد الدولة إزاء المعتقدات والمذاهب التي يعتنقها المواطنون. إذا كانت الديمقراطيّة تتعلّق بتنظيم السلطة المشروعة وتوجيهها في سبيل تحقيق المصلحة العامّة، فالعلمانيّة تمثّل شرطاً ضروريّاً لبلوغ السلطة هدفها. إنّ حياد الدولة العقائدي هو أمر تقتضيه وظيفتها الأساسيّة: حماية حقوق الأفراد وضمان المصلحة العامّة. من البدهي أنّ حريّة الضمير والوعي والتعبير، وكذلك حريّة الاعتقاد والتديّن، باعتبارها حقوقاً أساسيّة، لا يمكن أن توجد في ظلّ دولة استبداديّة دينيّةً كانت أو غير دينيّة. لقد أصبح من المقبول تعريف الدولة العلمانيّة بأنّها الدولة التي تُحتَرم فيها حقوق الأفراد، وتُراعَى فيها المصلحة العامّة، من خلال سلطات منفصلة ومستقلّة ومؤسّسات عادلة.
يتميّز النظام العلماني باحترام الحريّات الأساسيّة للأفراد وبالمساواة القانونيّة بين جميع المواطنين، بغضّ النظر عن اختلافهم المذهبي والعقائدي، وتمايزهم الاجتماعي والاقتصادي.
بهذا المعنى، يُعرّف النظام العلماني بأنّه نظام ليبرالي تعدّدي. إلى أيّ حدٍّ يصحّ هذا التعريف إذا أخذنا في الاعتبار مبدأ العلمانيّة الأساسي؛ أي الفصل بين الدولة والدين، أو بين السلطة السياسيّة والسلطة الروحيّة؟إنّ وجود عبارتين أو مصطلحين للدلالة على معنى (أو معاني) العلمانيّة؛ أي الكلمة الفرنسية (laïcité) والكلمة الإنجليزية (secularism)، لدليلٌ على التباس المفهوم وعلى عدم استقراره. هل يتطلّب الفصل بين الدولة والمؤسسة الدينية إخراج الدين من الفضاء العام وحصره في الفضاء الخاص؟ كيف يمكن التوفيق بين مبدأ حياد الدولة العقائدي، الذي يتحقّق من خلال الفصل، ومبدأ احترام الحريّة والمساواة بين المواطنين؟ إذا كانت الدولة الديمقراطيّة الحديثة تعترف بالحريّات الفرديّة والجماعيّة، وتسعى إلى حماية كرامة كلّ المواطنين، فكيف يُقبَل استبعاد الدين من الفضاء العام وهو المجال الذي يتجسّد فيه جزء من تلك الحريّات؟
يتعلّق المشكل، الذي تتضمّنه هذه الأسئلة بالعلاقة بين الدولة والدين، وهي علاقة من الصعب تحديدها من زاوية نظر واحدة. يبدو أنّ الفكرة الشائعة، التي تقول إنّ العلمانيّة هي إخراج الديني من دائرة السياسي بهدف استبعاد كلّ إمكانيّة لهيمنة جزء من المواطنين، حتى وإن تمثّلَ في الأغلبيّة، على البقية، ليست صحيحة تماماً.
يندرج مفهوم العلمانيّة ضمن تاريخ فكري وثقافي ثريّ ومتنوّع، ويحيل على مؤلّفات فلسفيّة، ورسائل سياسيّة، وخطابات إيديولوجيّة، وسجالات بين دينيين وعلمانيين، كما أنّه يرتبط بتاريخ اجتماعي وسياسي حافل بالتناقضات والصراعات والثورات والحروب. ظهر هذا المفهوم واستُعمل في إطار الفكر الفلسفي السياسي الحديث، وتمثل مجاله الجغرافي في أوروبّا العصور الحديثة التي كانت بصدد التحول من المَلكيّات التقليدية ذات المشروعية الدينية إلى الجمهوريّات الديمقراطيّة الجديدة. لا يعني ذلك أنّ مسار العلمنة كان متجانساً في كلّ مناطق أوروبا، بل الصواب هو القول إنّ مسارات العلمنة كانت متعددة؛ وهو أمر ستترتّب عليه نتائج مهمّة فيما يتعلّق بتصوّرات العلمانيّة وبأشكال ترجمتها على المستوى الثقافي والسياسي.
لئن اقترن تصور العلمانية بحركة «الخروج من الدين»، بعبارة المفكّر الفرنسي مارسيل غوشيه (Marcel Gauchet)، فإنّه يجب التنبيه إلى أن تلك الحركة لم تكن تعني استبعاد الدين تماماً من الأفق الرّوحي للمجتمعات، كما أنها لم تُفضِ إلى إخراج الدين تماماً من الفضاء العام.
لقد أصبح من المتعارف عليه لدى الباحثين التمييز بين نموذجين للعلمنة: النموذج الفرنسي الذي يعبّر عنه قانون (1905) والنموذج الإنجلوسكسوني كما تحقق في إنجلترا بصورة خاصّة. يوصف الأوّل بأنّه جمهوري، ويوصف الثاني بأنّه ليبرالي تعدّدي.
أدّت أزمة الديمقراطيّة الليبراليّة، في أواخر القرن العشرين، إلى صعود التيّارات الشعبويّة، التي اعتمدت على استثارة مشاعر الشعب المقترنة بعناصر هُوويّة ودينيّة، وفي ذلك الوضع طُرحت مكانة الدين من جديد في الديمقراطيّة: هل من المشروع أن يكون الدين منطلقاً أو أساساً للفعل السياسي ومحدّداً للديمقراطيّة؟ هل يجوز إخضاع مؤسّسات الدولة الحديثة للسلطة الرمزيّة لرجال الدين وللمؤسّسات الدينيّة؟ لقد رأى بعض الباحثين في هذه التحوّلات التي يعبر عنها هذا النوع من الأسئلة انتكاساً لمسار العلمنة وتراجعاً للعلمانيّة من شأنه أن يؤدّي إلى استعادة الدين لهيمنته التقليديّة. وفي مقابل ذلك رأى آخرون أنّ مسار العلمنة كان، منذ البداية، مساراً خاطئاً؛ لأنّه طابق بين الدين والخيارات الروحيّة الأخرى.
يمكن القول إنّ «عودة الديني» تمثل دليلاً على فشل التوجّهات الأساسيّة للحداثة السياسيّة، التي لم تنجح في فرض الرؤية العقلانيّة الوضعيّة على المجتمع، على الرغم من عملها على كبت الدوافع الدينيّة بما هي تطلّعات روحيّة. طُرح تصوّر «ما بعد العلمانيّة» (post-secularism) للدلالة على ظهور سياق جديد لم تعد فيه العلمانيّة قادرة على توفير حلول للمشكلات الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة المستجدّة في المجتمعات المعاصرة. هل نستخلص من ذلك أنّ مفهوم العلمانيّة لم يعد صالحاً لفهم وتنظيم المجتمعات في «العصر ما بعد العلماني» بعبارة تشارلز تايلور؟ وهل يصحّ القول إنّ العلمنة لم تكن إلّا «استثناء أوروبيّاً»، وإنّ بقيّة مجتمعات العالم لم تخرج من الدين حتى تعود إليه؟
تتضمّن الدعوة إلى مراجعة العلمانيّة، وخاصّة في صيغتها الفرنسيّة (قانون الفصل بين الدولة والكنائس لعام 1905)، رفضاً للمبادئ الأساسيّة للعلمانيّة، باعتبارها مفهوماً تشكّلَ خلال التاريخ السياسي لأوروبّا، واكتسب دلالته عبر الصراعات اللّاهوتيّة-السياسيّة (الإصلاح الديني، الصراع بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين، الحروب الصليبيّة)، نقصد مبادئ حريّة الضمير والمساواة والتسامح والقبول بالاختلاف وغيرها من المبادئ والقيم الكونية. يرى بعض الباحثين أنّ المدافعين عن فكرة مراجعة العلمانيّة يريدون، تحت غطاء إعادة تعريفها، حيث تصبح «علمانيّة منفتحة»، أن تسترجع الأديان القديمة هيمنتها ونفوذها على المجتمعات والحكومات. وقد يحاجج أولئك الذين يحنّون إلى نفوذ الدين التقليدي أنّ العودة إلى الأديان أصبحت واقعاً لا يمكن إنكاره.
تزامنت فكرة «عودة الديني»، التي ظهرت في الثلث الأخير من القرن العشرين، مع افتتاح نقاش متعدّد الأطراف حول العلمانيّة تناول تعريفها وقيمتها ومكانتها في المجتمع الحديث، نقاش لا يزال مستمراً حتى اليوم. ولكن ما استجدّ، مع دخول الإنسانية الألفيّة الثالثة، هو أنّ النقاش حول مكانة الدين في المجتمع والسياسة والتشريع، وحقيقة العلمانيّة ومكانتها، لم يعد خاصّاً بالمجتمعات الغربيّة ذات التاريخ الديمقراطي العريق الذي تبلور فيه مفهوم العلمانيّة، بل إنّ مجاله اتّسع ليشتمل على مجتمعات وأمم أخرى ذات ثقافات تقليديّة يهيمن عليها الدين ويحدّد قيمها ورؤيتها للعالم. ينطبق هذا الأمر، بطبيعة الحال، على المجتمعات العربيّة التي لا تزال فيها البنى الاجتماعيّة التقليديّة فاعلة، والتي يمثّل الدين فيها المحدد الأساسي للتمثلات الجماعيّة والقيم. ولعلّنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إنّ الثقافة العربيّة، إلى الآن، لم تستوعب فكرة العلمانيّة بشكل تام. ولئن ألّفت بعض الكتب في الموضوع، وجرى استعمال المفهوم في بعض الخطابات، فإنّ استعماله، في أغلب الأحيان، كان استعمالاً سجالياً، ولم يخلُ من لبسٍ وغموض وسوء فهم.
قد يصح القول إنّ الإنسانيّة تعيش عصراً علمانيّاً بحق، وما يسمّيه البعض «ما بعد العلمانيّة» ليس إلّا لحظةً أو جزءاً من مسار العلمنة المتواصل. لا تعني العلمنة استبعاد الدين أو معاداته أو تجفيف المنابع الروحانيّة الكامنة فيه، بقدر ما تعني تحرير الإنسان كفرد وتخليص المجتمع من كلّ أشكال الهيمنة. تتمثل العلمنة في انفتاح الآفاق الروحيّة أمام الإنسان، حيث لا تبقى الروحانيّة منحصرة في التجربة الدينيّة.
ثمّة حاجة إلى التفكير في العلمانيّة، في السياقات التاريخيّة لتشكّلها مساراً ثقافياً واجتماعياً وسياسياً، في المرجعيّات الفلسفيّة والدينيّة التي تحيل عليها، وكذلك في بُعدها الوظيفي عندما تتجسّد نمطاً إجرائياً لتنظيم العلاقة بين السلطة السياسيّة والسلطة الروحيّة وبين الدولة والمجتمع.
لم تحُل طبيعة الأصل الثقافي الغربي للفكرة العلمانيّة دون انتشارها وانصهارها في ثقافات أخرى توصف بأنّها تقليديّة (اليابانيّة، الصينيّة، الهنديّة، الأمريكية-اللاتينية… إلخ). لا تستقيم، إذن، الحجّة القائلة إنّ خصوصيّة المصدر الثقافي للعلمانيّة هي ما يبرّر رفضها والاعتراض عليها بل مقاومتها، وهي حجّة لا يزال الكثيرون في العالم العربي متمسّكين بها. تمثل العلمانيّة، في نظر بعض الكتّاب الإسلاميين، خطراً حقيقيّاً على الإسلام، ولذلك وجب التصدّي لها، ليس من خلال توضيح أصولها الفكريّة والدينيّة والتاريخيّة فحسب، بل كذلك من خلال ترسيخ الهويّة الإسلاميّة الصافية. لنقلْ، إذن، إنّ مفهوم العلمانيّة الحقيقي لم يترسّخ في الثقافة العربيّة المعاصرة تماماً مثل مفاهيم الحريّة والمساواة والديمقراطيّة والعدالة والتسامح والعقلانيّة والمدنيّة وحقوق الإنسان و، بعبارة أخرى، كلّ مفاهيم الفلسفة السياسيّة الحديثة المتناقضة مع التسلّط والهيمنة اللّاهوتيّة-السياسيّة.
تندرج استعادة سؤال العلمانيّة واستئناف التفكير فيه من خلال أهمّ المؤلّفات والنصوص، التي تشكّل بواسطتها المفهوم ضمن هدف تأصيل التصوّرات والمفاهيم الفلسفيّة السياسيّة في الفكر العربي المعاصر. ولا شك في أنّ هذا الفكر مضطرٌّ إلى نقد ذاته باستمرار، وإعادة النظر في بعض القطعيّات والأحكام المسبقة الراسخة كما لو كانت حقائق بديهيّة.
لمنوبي غباش.
مؤسسة مؤمنون بلاحدود-موقع حزب الحداثة.