قراءة في كتاب: “سيكولوجيَّة الدِّين؛ النشأة والصيرورة”
مقدمة:
يغطي الدين وبالأولى التدين معظم حياة الانسان؛ فهو يشتبك مع الثقافة وتصورات الإنسان للكون والحياة، كما يشتبك مع التاريخ والتحولات التي عرفتها الإنسانية من حيث الوعي بالوجود؛ فالبحث في مجال الدين والتدين أمر جاري به العمل وفي هذا الصدد نستحضر؛ كتاب “الملل والنحل” لأبي الفتح الشهرستاني (-548هـ /-1086م)، وهو عبارة عن كتاب يتحدث عن الطوائف الإسلامية باختلافها ويتحدث عن الأديان السماوية وغير السماوية وعن بعض طوائفها.
فالبحث في الدين والتدين، يتصل بشكل أساسي ومحوري بطبيعة العلوم والمعارف التي عليها الإنسان في لحظة زمنية معينة، ولهذا من البديهي اليوم، بعد ما شهدت العلوم الإنسانية كما هو معلوم طفرة نوعية في القرن 19م، واستقلت عن الفلسفة مما جعلها تنصرف إلى ما هو عملي وتطبيقي، ظهر علم الاجتماع الديني كفرع من علم الاجتماع العام (الذي يدرس المجتمع وطبيعة الظواهر وأسباب تشكلها اجتماعيا…) بظهور مؤلفات في الموضوع من قبيل (البروتستانتية وروح الرأسمالية) لماكس فيبر (-1920م)ما حدث في علم اجتماع ينطبق على علم النفس؛ وهو علم في مفهومه العام يهتم بدراسة الأبعاد النفسية عند الإنسان من جهة السلوك والفعل ورد الفعل، وقد تفرع عن هذا التخصص العام مجموعة من التخصصات الجزئية من بينها علم النفس البيولوجي (علم الأعصاب السلوكي)، وعلم النفس المعرفي (علم الإدراك) وعلم النفس الاجتماعي (علم دراسة السلوك الاجتماعي والعمليات العقلية التي تتعلق بالسلوك الاجتماعي) … وعلم النَّفس الدِّينيُّ أو سيكولوجيَّة الدِّين، أو أعلم نفس الأديان؛ وهو علم يعمل على تطبيق طرق علم النفس والإطارات التفسيرية على التقاليد الدينية فضلاً عن الشخصيات الدينية وغير الدينية. ويحاول هذا العلم البحث عن وصف دقيق لتفاصيل ومصادر واستخدامات المعتقدات والسلوكيات الدينية.
والسؤال هنا ما دام علم النفس منصبًّا على معرفة بواطن النفس، هل للنفس حضور في الدين؟ أو بمعنى آخر كيف يرى الدين للنفس؟ طبعا هذا إشكال ليس من صميم الكتاب ولكن يفرض نفسه؛ ففي الخطاب القرآني نجد اهتماما وتصورا لموضوع النفس؛ فالنفس ليست هي الروح وليست هي الجسد أو الحواس؛ وهي منقسمة على نفسها بين جدل الخير والشر، والاهتمام بموضوع النفس له حضور بين وبارز في الثقافة الإسلامية من لدن الأدباء والفقهاء والفلاسفة…تبعا لهذا السياق العام، يتموضع كتاب “سيكولوجيَّة الدِّين؛ النشأة والصيرورة” للدكتور عبد الرحيم تمحري؛ والكتاب من إصدار دار مؤمنون بلا حدود؛ في طبعته الأولى سنة 2023م؛ الكتابات في هذا المجال ليست بالكثيرة والمتعددة؛ وليست بالنادرة والمنعدمة؛ فمثلا سبق أن نشر، محمد عبد الفتاح المهدي؛ كتاب: “سيكولوجية الدين والتدين” سنة 20002م.
الهدف من سيكولوجيَّة الدِّين:
من أهمِّ أهداف علم النَّفس الدِّينيُّ أو سيكولوجيَّة الدِّين، بتعبير المؤلف هي “تجاوز الوقائع الخام والحالات الفرديَّة الَّتي تقدِّمها وثيقة من الوثائق في حالة دينيَّة إلى رؤية مجموع الظَّاهرة الدِّينيَّة كَكُلٍّ، ودراسة الحياة الدِّينيَّة في ذاتها كما تجري فعلاً داخل الوعي الشَّخصيِّ لذات الفرد، ونشدان الحقيقة العلميَّة لذاتها، وليس للدِّفاع عن أطروحة دينيَّة بعينِها، أو لتأسيس عقيدة يُظنُّ أنَّها الأتْقى”. ويذكرنا الكاتب بكون هذا المبحث المعرفي مبحث “متشابك مع تاريخ الفلسفة الميتافيزيقيَّة، ومحايث للفلسفة القلبيَّة الحدسيَّة، وغير مُتعالٍ عن فلسفة المفاهيم الَّتي يُتوسَّل بها إلى الفهم والتَّحليل في كلٍّ من مجالَي الفلسفة وعلم النَّفس في موضوع الدِّين؛ ثمَّ لحاجته أخيراً إلى سماع صوت النُّصوص في الموضوع كما تتحدَّثُ عن نفسها؛ ومن دون ذلك سنجد أنفسَنا أمام إنشاءات تعوزها دقَّة وصف الظَّاهرة، وتفتقر إلى شرط الموضوعيَّة.”
فصول الكتاب:
يتكون الكتاب من ستة فصول: تطرق الفصل الأوَّل لإشكال، المفهوم، الطَّريقة، الأسس والتَّأريخ؛ إذ يصعب “الحسمُ في مفهوم التَّسمية الَّتي تُعطى لهذا العلم، تارةً السِّيكولوجيا الدِّينيَّة أو علم النَّفس الدِّينيُّ كما نجد عند جيمس هنري لوبا، وتارة سيكولوجيَّة العقيدة الدِّينيَّة كما نجد عند كارل فلوجل. وثانياً في الحقل السِّيكولوجيِّ الَّذي يتناول هذا الموضوع بالدِّراسة والبحث: هل هو التَّحليل النَّفسيُّ الكلاسيكيُّ كما افتتحَه فرويد؟ أم هو التَّحليل النَّفسيُّ المعدَّل (أي: علم النَّفس التَّحليليِّ) مثلما دشَّنه يونغ ودرس فيه الدِّين واللَّاشعور الجمعيَّ؟ أم هو التَّحليل النَّفسيُّ المجدَّد بالدِّراسات السوسيولوجيَّة داخل الرُّؤيا السِّيكولوجيَّة الإنسانيَّة كما عند فروم؟ أم هو التَّحليل النَّفسيُّ الَّذي يتخصَّص فيه رجال الدِّين والقساوسة كما عند أنطوان فرغوت في سيكولوجيَّة الدِّين؟” وقد صاحب المؤلف هذه التعريفات بنماذج علمية.
وتطرق الفصل الثاني لسيرورة البحث في سيكولوجيَّة الدِّين من التَّأسيس إلى التَّخصُّص إلى المختبر، تناول فيه المؤلف بالعرض والتحليل نماذج من الدِّراسات الأكاديميَّة ذات الصِّلة بالموضوع، من بينها الوقوف عند دراسة أرنيت وعنوانها الرُّوح: «دراسة في المعتقدات الماضية والحاضرة». ودراسة مولر، وموضوعها «طبيعة الدِّين وماهيَّته»، وفيها خَلَصَ إلى أنّ تصوُّر شلايرماخر، المعبَّر عنه في التَّحديد الشَّهير «الدِّين إحساس بالتَّبعيَّة»، غير كاف؛ لأنَّ الدِّين أكثر اتِّساعاً من الإحساس ودراسة هرفي كاريي: سيكولوجيَّة الانتماء الدِّينيِّ؛ وهي دراسة “ميدانيَّة قامت على تصوُّر مفاهيميٍّ واضح، وتعالقات مفاهيميَّة متكاملة من جهة؛ وعلى بحثٍ إحصائيٍّ من جهة أُخرى؛ لذا قارن هرفي كاريي بين بواعث التَّحوُّل الدِّينيِّ لدى 1011 رجل و254 امرأة، كما قارن بين الاتِّجاه الدِّينيِّ لدى الشَّباب الفرنسيِّ من الفئة العمريَّة (18-30) سنة، والاتِّجاه الدِّينيِّ لدى آبائهم؛ كما درس المرحلة العمريَّة الَّتي غادر فيها 350 فرداً ملحداً الكنيسة وتخلَّوا عن الإيمان”.
وتطرق الفصل الثالث للمنطلقات الكلاسيكيَّة لسيكولوجيَّة الدِّين عند كل من ماركس وفرويد، وتمحور حول سؤال مفاده “هل هناك ما يجمع بين الرَّجلين على المستوى الموضوعاتيِّ أو المفاهيميِّ أو المنهجيِّ أو التَّصوُّريِّ، حتَّى يكون هناك مُبرِّر لتناول سيكولوجيَّتهما في الدِّين؟ وهل من راهنيَّة لتصوُّراتهما في هذا الموضوع على الصَّعيد الغربيِّ عامَّةً، والصَّعيد العربيِّ والإسلاميِّ خاصَّةً؟” والمؤلف على وعي بالسؤال البديهي ما علاقة ماركس بسيكولوجيَّة الدِّين، لاسيَّما أنَّ أحدا لم يسبق أن عَرَّفَهُ كسيكولوجيٍّ، بينما عُرِّفَ كفيلسوف واقتصاديٍّ ومنظِّر للاشتراكيَّة الألمانيَّة؟ وهو ما سعى الكاتب لتبريره.
وتناول الفصل الرابع سيكولوجيَّة الدِّين في العالم العربيِّ والإسلاميِّ، والوفاء للمنطلقات الكلاسيكيَّة؛ فمن خلال هذا الفصل تمت النظر والبحث في “دراسات وأبحاث عالجت الدِّين -اليهوديَّ والمسيحيَّ عامَّة-، والإسلاميَّ خاصَّة في العالم العربيِّ، منذ سبعينيَّات القرن الماضي، واقترنت بموضوعات تُشكِّل طابوهات في العالم العربيِّ والإسلاميِّ – وحتَّى العربيِّ المسيحيِّ؛ مثل الجنس بالنِّسبة إلى الفئات الشَّعبيَّة، ومثل الصِّراع الطَّبقيِّ” وهذا لا يعني بكون هذا الفصل من الكتاب سيتناول “كلَّ الدِّراسات الَّتي تعرَّضت للدِّين من زاوية سيكولوجيَّة وبالأخصِّ تحليلنفسيَّة، بكونها وجدت المرتع الخصب في العالم العربيِّ على حساب سيكولوجيَّات أُخرى، لا لشيء إلَّا لأنَّ فرويد مِن معلِّمي الهدم، ومن أساتذة النَّقد، ومن محترفي الشَّكِّ في الرُّموز السُّلطويَّة بيولوجيَّاً وثقافيَّاً، أو من زاوية سيكوسوسيولوجيَّة؛ لأنَّها من الكثرة والتَّشتُّت في العالم العربيِّ” هذا الفصل يضم نماذج عن تلك الدراسات.
وجاء الفصل الخامس ليغطي سيكولوجيَّة الدِّين في العالم العربيِّ-الإسلاميِّ وبداية الأبحاث الإمبريقيَّة، وقد تطرق المؤلف لنموذجين من الدِّراسات الإمبريقية: الأولى لصالح الصّنيع، والثَّانية لمحمَّد المهدي. أما الفصل السادس، فقد تطرق، لسيكولوجيَّة الدِّين وبداية الدِّراسات التَّأويليَّة نموذج فتحي بن سلامة: التَّحليل النَّفسيُّ ومحنة الإسلام. والملفت للنظر ولأهمِّيَّته الكتاب أنه تُرْجِمَ من اللغة الفرنسية إلى عدَّة لغات، منها الإنجليزيَّة والإيطاليَّة والألمانيَّة واليابانيَّة والتُّركيَّة، وكذلك العربيَّة. ففتحي بن سلامة باحث تونسيُّ ومحلِّل نفساني، وأستاذ علم النَّفس العلاجي، ورئيس وحدة التَّكوين والبحث في علم النَّفس العياديِّ والمرَضِيِّ بجامعة باريس السَّابعة-يتساءل المؤلف بهذا بخصوص “هل بلغ هذا الكتاب من الشَّأْوِ الرَّفيع في سيكولوجيَّة الدِّين، أو بالأصحِّ في التَّحليل النَّفسيِّ للدِّين، ما جعل الغربيِّين يُقْدِمون على ترجمته تباعاً إلى لُغاتهم؟ هل وَصَلَ مؤلِّفه إلى نتائج كشفت عن مكبوتات الدِّين الإسلاميِّ لم يصل إليها أحد قبله، بمن فيهم الَّذين سبقوه من الباحثين -ومنهم كبوعلي ياسين وعلي زيعور-، أم إنّ هذا الطِّراز من البحث جديدٌ على العرب وعلى الغَرْبِ معاً؛ ومن ثمَّ استحقَّ كلَّ هذا الاهتمام؟”.
قضية الكتاب:
القضية المحورية التي شغلت الكتاب على طول صفحاته هي قضية الإمساك بخيط تشكل ونشأة علم النَّفس الدِّينيُّ أو سيكولوجيَّة الدِّين، وقد نجح المؤلف إلى حد كبير في الإمساك بالخيط ما بين تاريخ نشأة وظهور هذا العلم وطبيعة التطور والتحول الذي صاحبه حتى هذه اللحظة الراهنة؛ وذلك بالوقوف عند المفاهيم المحددة لهذا العلم، والاقتراب من المناهج المعتمدة فيه؛ والأسس التي بني عليها، مع استحضار مختلف المؤلفات والأعلام البارزين في هذا العلم؛ وقد ميز الكاتب بشكل منهجي ومعرفي البدايات الكلاسيكية لهذا العلم، والتي غلب عليها الجانب الأيديولوجي مع كل من ماركس (-1883م) وفرويد (-1939م)؛ والسؤال هنا بحسب المؤلف “هل هي صدفة أن يلتقي ماركس؛ صاحب التَّحليل المادِّيِّ الاقتصاديِّ، وفرويد؛ صاحب التَّحليل النَّفسيِّ؛ في وصف الظَّاهرة الدِّينيَّة، وداخلها الشُّعور الدِّيني، بمفاهيم نفسيَّة، حيث ترتدُّ الفلسفة المادِّيَّة إلى عناصر سيكولوجيَّة، كالخوف والعجز والطُّمأنينة؟
يرى المؤلف أن تاريخ علم النَّفس قصير، فهو لا يتجاوز مئة وخمساً وثلاثين سنة، منذ أن أنشأ فلهلم فونت مختبرَه بلايبزغ سنة 1879م، فلقد كان الدِّين موضوع اهتمام سيكولوجيٍّ، مساوقاً للدِّراسات الأنثروبولوجيَّة والسُّوسيولوجيَّة، بل وحتَّى للدِّراسات التَّربويَّة…
يرى المؤلف في خاتمة الكتاب أن إشكال “سيكولوجيَّة الدِّين والتَّديُّن إشكال متشابك؛ لأنَّ تناوله لا يفلت من تأثير التَّأويل، والانحياز إلى اختيار بعينه في النَّظريَّة والاتجاه والممثّلين، إضافة إلى الحدود المتداخلة مع الفلسفة عامَّة، وفلسفة الدِّين خاصَّة، وكما ينطبق ذات الإشكال على مفهوم هذا العِلم، يطال كذلك تسميته: علم النَّفس الدِّينيِّ، سيكولوجيَّا العقيدة الدِّينيَّة، سيكولوجيَّة الدِّين.. إضافة إلى التَّحليل النَّفسيِّ للدِّين، وعلم نفس اجتماع الدِّين، وسيكوسيولوجيَّة الدِّين والتَّديُّن؛ ما يمكن أن يفسِّر تباين التَّعريفات المقدَّمة لهذا العلم بتباين الاتِّجاهات النَّظريَّة للعلماء والباحثين، وميادين تخصُّصاتهم داخل مجال علم النَّفس”.
القارئ لهذا الكتاب سيلاحظ؛ بأن صاحبه؛ قد كرس كل جهده؛ من أجل تتبع موضوع سيكولوجيَّة الدِّين من جهة الكتابات والكتاب الذين اعتنوا بالموضوع؛ ومن جهة انتماءاتهم المدرسية أو الأيديولوجية؛ مع استحضار أهم الدراسات التي اهتمت بمعالجة الموضوع في العالم الغربي. واستحضار أبرز النماذج من الإسهامات العربيَّة والإسلاميَّة في الموضوع؛ من خلال دراسات بوعلي ياسين وعلي زيعور وفتحي بن سلامة… أما الجانب الذي يعنى بمقاربة الموضوع من جهة بسط تصورات ومناهج ومقاربات معرفية جديدة، فتستثمر ما هو سابق عنها، مع مراعاة السياق الثقافي والديني في العالم العربي والإسلامي؛ فربما أن المؤلف أجل كل ذلك لكتاب قادم؛ مع العلم أن هذا الكتاب يمثل الجزء الأول من الموضوع.
لمولاي أحمد صابر.
مؤسسة مؤمنون بلاحدود-موقع حزب الحداثة