ثقافة

دينيس جونسون يكتب ذكرياته في رحاب الأدب العربي

صدر كتاب “ذكريات في الترجمة… حياة بين خطوط الأدب العربي”، Memories in Translation: A life between the Lines of Arabic Literature لدينيس جونسون ديفيز (1933 – 2017) بالإنجليزية عن دار نشر الجامعة الأميركية في القاهرة، ثم ترجمه إلى العربية كامل يوسف حسين، وصدرت الترجمة عن دار “اليربوع” في دبي عام 2007 بتقديم نجيب محفوظ، الذي ارتبط بصداقة طويلة مع مؤلفه بدأت في منتصف أربعينيات القرن الماضي. وعلى الأرجح نفدت تلك الترجمة لدى ناشرها الأصلي، مما دفع المركز القومي للترجمة إلى نشر ترجمة جديدة أنجزتها عفاف عبدالمعطي، لكنها جاءت حافلة بأخطاء في الصياغة، وفي النحو والصرف على حد سواء. ومن ثم فقد كان من الأفضل لو أعاد المركز نشر الترجمة الأولى، التي سبق أن أشاد كثيرون، ومنهم ديفيز نفسه، بدقتها النابعة من خبرة صاحبها الطويلة في الترجمة والكتابة، التي توجت بحصوله عام 2016 على جائزة العويس، ومن صداقة، أساسها علاقة عمل جمعتهما لسنوات عدة في دولة الإمارات العربية المتحدة. يهدي ديفيز كتابه الذي جاء مقتضباً، إلى زوجته المصورة باولا كروشياني، “عرفاناً بما أمدتني به من الصور الفوتوغرافية، ضمن الكثير الذي أعطت”.

أما تقديم نجيب محفوظ لترجمته العربية الأولى، فجاء عرفاناً بفضل ديفيز عليه هو شخصياً، بما أنه كان إلى حد بعيد وراء فوزه بجائزة نوبل في الآداب عام 1988، كما سيرد توضيحه في كتاب السيرة الذاتية الذي نعرض له هنا. وقد عبر محفوظ عن ذلك في مقدمته لترجمة هذا الكتاب: “إنه من دواعي سرور الكاتب أن تكون نصوصه مترجمة وتقرأ على الصعيدين المحلي والدولي. إنه لشيء عظيم. تعرفت على دينيس جونسون ديفيز منذ 1945، وأعجبت به منذئذ. هو أول من ترجم لي نصاً، قصة قصيرة، ومنذ ذلك الحين ترجم عدداً من كتبي، لذلك فأنا مدين له بامتنان استثنائي”. وأضاف صاحب رواية “أولاد حارتنا”: “لقد فعل حقاً أكثر مما فعله أي مترجم في ترجمة الأدب العربي الحديث للإنجليزية والترويج له، ولطالما بحث عن كتاب جدد مثيرين للاهتمام، كما عمل جاهداً، لا ليترجم رواياتهم ومسرحياتهم وقصصهم القصيرة وشعرهم فحسب، بل سعى لإيجاد ناشرين لهذه الترجمات أيضاً”.

المرشحون لـ”نوبل”

ومن هؤلاء الذين عرفهم العالم عبر ترجمة ديفيز أعمال لهم إلى الإنجليزية الكاتب السوداني الطيب صالح. ومما يكشف عنه ديفيز في مذكراته أن صاحب “موسم الهجرة إلى الشمال” كان أحد أربعة من الأدباء العرب، طلب منه أن يرشح أحدهم للفوز بجائزة نوبل في الآداب، فاستبعده هو وأدونيس ويوسف إدريس، مرجحاً كفة نجيب محفوظ، من دون أن يخبره، إلى أن فوجئ صاحب “زقاق المدق” بأنه أول عربي يفوز بتلك الجائزة الرفيعة.

وإلى نجيب محفوظ، شهدت بدايات المترجم دينيس جون ديفيز، الذي لطالما آمن بأن “الترجمة فن”، ترجمة أعمال لكل من محمود تيمور وتوفيق الحكيم ويحيى حقي. وفي هذا السياق يجدر ذكر أنه صاحب أول مجلد لقصص باللغة العربية يصدر مترجماً إلى الإنجليزية. كان ذلك عام 1947، وقد نشره على نفقته الخاصة متضمناً مجموعة قصص قصيرة لمحمود تيمور. تيمور أعطاه شيكاً بالكلفة من دون أن يطلب. وعندما عرض على توفيق الحكيم أن يترجم له كتابه “يوميات نائب في الأرياف” أخبره بأنه أعطى تصريحاً لضابط استخبارات بريطاني يدعى أبا إيبان، لينجز ترجمة للعمل نفسه. أبا إيبان هذا سيصبح لاحقاً وزير خارجية إسرائيل، وقد أنجز تلك الترجمة التي لا تزال متداولة، تحت عنوان “متانة العدالة”. أما ديفيز فترجم عدداً من مسرحيات توفيق الحكيم وكتابه “يا طالع الشجرة”. وعلى الرغم من أنه بدأ تعلم العربية وهو في سن المراهقة، أكاديمياً، فإنه يمكن القول إنه أجاد الترجمة من العربية بمثابرته الشخصية وحرصه على التقاط مفرداتها الفصيحة والدارجة على حد سواء، عبر احتكاكه مع الناطقين بها خصوصاً خلال سنوات عمله في القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية، ثم عندما عمل في جامعة فؤاد الأول (القاهرة) حالياً، ودأبه على مصادقة كتاب بارزين في الوسط الأدبي المصري بدءاً من عام 1945.

جهد شخصي

بريطاني ولد في كندا، وعاش جانباً من طفولته بين مصر والسودان وأوغندا، بما أن والده كان موظفاً في الحكومة البريطانية. طاف بين عدد لا بأس به من الدول، منها فرنسا وإسبانيا والإمارات العربية المتحدة ولبنان والمغرب، ليستقر في السنوات الأخيرة من عمره المديد في مصر وتوافيه فيها المنية ويدفن تحت ثراها. بدأ بترجمة مختارات قصصية لمحمود تيمور سنة 1947، وأسس مجلة الأدب العربي “أصوات”. في بداية الستينيات عمل بالمحاماة، في بريطانيا، وأدار محطة راديو محلية باللغة العربية في الإمارات، وعمل مترجماً فورياً في دبي أثناء المفاوضات التي أفضت إلى استقلال الإمارات عن بريطانيا. كان ديفيز يترجم، ويسعى لنشر ترجماته، في غياب أي دعم عربي، وهكذا يمكن القول إنه لولا مجهوداته الشخصية لما نُقلت كثير من النصوص العربية إلى الإنجليزية.

كان ديفيز في الـ18 من عمره، عندما عمل في هيئة الإذاعة البريطانية، فلاحظ أن معرفة الإنجليز باللغة العربية في ذلك الوقت تكاد تكون معدومة، إذ كان ينظر إليها على أنها “لغة ميتة”، ومن هنا عانت بريطانيا طوال سنوات الحرب العالمية الثانية من عدم وجود أي مستعربين بين مواطنيها تقريباً. فرتبت الحكومة لمنح دراسية خاصة لأولئك الراغبين في تعلم اللغة العربية وغيرها من اللغات الشرقية. قضى خمس سنوات في “بي بي سي”، حيث كان يتحدث اللغة العربية في شكليها المكتوب والمنطوق لساعات طويلة مع زملائه العرب، ومعظمهم مصريون. بعد انتهاء الحرب تقدم لشغل وظيفة في المجلس البريطاني في القاهرة لتدريس اللغة العربية. ومن خلال لويس عوض الذي سبق أن تعرف عليه في كامبريدج، أقام علاقات صداقة مع كثير من المثقفين المصريين. كانت مدة العقد عامين، ولم يقبل المعهد البريطاني تجديده. ولحسن حظه تلقى عرضاً لتدريس اللغة الإنجليزية في جامعة فؤاد الأول، فقبله واستمر في هذا العمل عامين ثم استقال عام 1949 وغادر مصر، لكنه كان حريصاً على زيارتها بانتظام.

مع نجيب محفوظ

وقبل أن يغادر ديفيز مصر، كان قد ارتبط بصداقة مع نجيب محفوظ، وترجم له أولاً قصة “همس الجنون”. وفي عام 1947 قرأ رواية “زقاق المدق”، “فشعرت أنه لا توجد كتابة مثيلة لها في اللغة العربية”. ويضيف ديفيز في هذا السياق: “عندما حضرت إحدى أمسيات طه حسين الأسبوعية مع لويس عوض، ذكرت الرواية فلم أجد أحداً قد سمع بها أو بصاحبها”. ويقول ديفيز، إنه اختلف مع نجيب محفوظ في شأن استخدام العامية في الكتابة الأدبية. كان محفوظ يرى أن اللغة العربية الكلاسيكية هي اللغة التي يقرأها كل عربي وأنه بإدخال العامية مثلاً في الحوار سيستغرب غير المصريين تلك اللغة… “أما بالنسبة للقراء المصريين فإنهم يحولون الحوار تلقائياً في أذهلنهم إلى لغة عامية مناسبة”، صـ 36.

ويذكر ديفيز في كتابه أن المستعرب الكندي تريفور لابرسيك، سبقه إلى ترجمة “زقاق المدق” إلى الإنجليزية، ونشر الترجمة في بيروت. ويرى ديفيز الذي امتدت صداقته لنجيب محفوظ لستة عقود أن الأخير “كان ذكياً”، عندما تعاقد عام 1980 مع قسم النشر في الجامعة الأميركية في القاهرة على ترجمة أعماله إلى الإنجليزية واللغات الأخرى، ومن ثم فقد فاز بـ”نوبل”، “لأن تسع روايات له صدرت ترجمتها عن الجامعة الأميركية إلى جانب عنوان أو اثنين في سلسلة ’الكتاب العربي’ التي شرعت في تقديمها مع مؤسسة ’هيمن’ البريطانية التعليمية” صـ 44.

رأى ديفيز أن أدونيس لم يكن شاعراً شعبياً، ثم إن قراره بالبعد عن اسمه العربي لم يحبه العرب، فضلاً عن أن شعره فوق مستوى تلقي شريحة كبيرة من القراء. أما يوسف إدريس فرأى شيخ مترجمي الأدب العربي إلى الإنجليزية، أنه –في ذلك الوقت– يحظى بشهرة واسعة بين القراء في العالم العربي، لكنه لم يحظَ بقدر كاف من ترجمة نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية، ليتمكن مانحو الجائزة من قراءتها.

سلسلة المؤلفين العرب

وفي تلك الأثناء –يضيف ديفيز– لم يكن قد صدر للطيب صالح سوى “موسم الهجرة إلى الشمال”، و”عرس الزين”، وعدد من القصص القصيرة باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وذلك ليس كافياً لترشيحه لنيل الجائزة. ويستطرد ديفيز: “بات جلياً أن نجيب محفوظ هو الأفضل، ليس بسبب إبداعه الفائق فحسب، لكن –بشكل استثنائي– لكثرة إصداراته الروائية والقصصية، ولذلك آثرت التعبير عن إمكانية أن يكون الكاتب العربي الفائز بجائزة نوبل”.

وللمفارقة فإن رواية “أولاد حارتنا”، التي استوقفت مانحي الجائزة، وراج أنها أهم ما راقهم من بين ما قرأوا له من أعمال، لم يترجمها ديفيز. ترجمها فيليب ستيوارت تحت عنوان “أبناء الجبلاوي”، لنيل درجة الماجستير من جامعة أكسفورد، وقد جرى حظرها في مصر، ثم ترجمها مجدداً بيتر ثيرو لحساب الجامعة الأميركية في القاهرة. ومما يذكر لديفيز من فضل على الأدب العربي الحديث، هو قيامه بتأسيس “سلسلة المؤلفين العرب” التي نشرت 24 كتاباً، “ومن ثم فقد لعبت دوراً حيوياً في تقديم أفضل كتابات النهضة الأدبية العربية لجمهور القراء الذين يقرأون بالإنجليزية”. كانت تلك السلسلة تصدر بالتعاون مع “مؤسسة هاينمان التعليمية”، وتوقفت قبل أشهر من حصول محفوظ على نوبل. كانت –كما يقول ديفيز- في حاجة لخمسة آلاف جنيه استرليني لتستمر، “لكنني لم أتمكن من الحصول على هذا المبلغ الضئيل من أي مانح عربي”.

لعلي عطا.

أنديبندنت عربية-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate