الفوتوغرافيا والحداثة الغربية.
منذ اكتشاف التصوير الضوئي، لم تتوقف التأملات حول دلالاته وآثاره في العالم والوجود الإنساني؛ بل وعلى الفنون الأخرى أيضًا؛ لأن فعل التصوير لا يمكن اختصاره فقط في كونه مجرد انعكاس مرآويٍّ لواقعة محددة أو نسخ ومحاكاة كاملة لها، فوراء هذا الفعل توجد دوافع وجودية عديدة تحرض الإنسان عليه. وبمجرد انتقال الصورة من القوة إلى الفعل؛ فإنها تدخل حيز التأثير في طبيعة عالمنا الإنساني؛ لكن قبل أن تكون التأثيرات الفوتوغرافية على عالمنا موضوعًا للتحليل الفلسفي، وهو ما حدث في وقت متأخر نسبيًّا، كان ينظر إلى الفوتوغرافيا بوصفها النموذج الأمثل للرؤية (فعل الرؤية) الحداثية للعالم؛ إذ كشفت الفوتوغرافيا عن التصور الإبستمولوجي الحديث للعالم بوصفه مكونًا من مجموعة من السطوح الخارجية القابلة للملاحظة.
زواج فريد من نوعه:
مع بداية هذا الاكتشاف الثوري، الذي أطلق عليه الفوتوغرافيا، نظر إليه الكثير من النقاد والمفكرين بوصفه زواجًا رائعًا فريدًا من نوعه بين العلم والفن، فيما وصفه الناقد الفرنسي فرانسيس واي Francis Wey بأنه «حلقة وصل بين الاثنين». وقد انتشر توصيف الفوتوغرافيا بأنها «علم وفن» في الوقت ذاته؛ إذ لأول مرة في التاريخ صار من الممكن صنع نسخة دائمة من صورة التقطت بصندوق الكاميرا المظلم، وتقديم صور غنية بالتفاصيل عن العالم الطبيعي؛ بل وإتاحة نسخ متعددة من الصورة نفسها.
وخلافًا لغيره من سبل التمثيل المرئي، مثل الرسم أو النقش، لا يعتمد التصوير الفوتوغرافي بصورة كلية على الإنسان، كصانع للصورة. والأكثر من هذا أن الصور التي يتيحها لا تُقدَّم بوصفها تفسيرات للعالم؛ بل هي بمثابة آثار مادية لهذا العالم، وتمثيل بصري للضوء المنعكس على الأشياء؛ وبالتالي يمكن للصور أن تشكل معرفة مستقلة عن ذات المراقب، وأن تقدم وسيلة للمعرفة والملاحظة عن بعد. ولم يقتصر الأمر على هذا فقط، وإنما حدث هذا التواؤم بين الكاميرا والأجهزة البصرية الأخرى مثل التلسكوب والمجهر، فتكيفت الكاميرا بسرعة لتلتقط أشياء تتجاوز قدرات رؤية الإنسان، بدءًا من سطح القمر وحتى نوع رفرفة أجنحة الطيور حال الطيران.
ما أود التأكيد عليه هنا أن الكاميرا جاءت مواكِبة تمامًا لمشروع الحداثة الغربي بما يحمله من قيم وأهداف كان من أهمها تحقيق الموضوعية والسيطرة على العالم وتسخيره، وهي مسألة بالغة الدلالة في سياقها، سنعود إليها بعد حين. وقد لاحظ العديد من المعلقين اللاحقين كيف دشن التصوير لتغييرات ثورية في الإحساس بالمكان والزمان والذاكرة والوعي البشري. ففي مقالته المعروفة «العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه آليًّا The Work of Art in the Age of Mechanical Reproduction»، يصف فيلسوف مدرسة فرانكفورت فالتر بنيامين Walter Benjamin، التصويرَ الفوتوغرافي بأنه «أول وسيلة ثورية حقيقية للاستنساخ»، معتبرًا أنه يتميز بقدرة استنساخية غير مسبوقة، وأن هذه القدرة قد عملت على تغيير طبيعة الزمان والمكان، خاصة فيما يتعلق بعمليتي إنتاج العمل الفني واستقباله. وقد زعم العديد من مؤرخي التصوير الفوتوغرافي أن هذا الوسيط قد أحدث ثورة في الإدراك البصري، فقد قدم، وقت اكتشافه، معنًى جديدًا أكثر اتساعًا للإدراك الحسي، وفي هذا يقول وليام ايفينز William Ivins: “بدأ القرن التاسع عشر باعتقاد أن كلَّ منطقيٍّ حقيقيٌّ، وانتهى بالاعتقاد بأن كلَّ ما له صورة فوتوغرافية هو الحقيقي وحده”.
هل مثلت الفوتوغرافيا ثورة معرفية بالفعل أم أنها لم تتعدَّ مجرد كونها اكتشافًا تقنيًّا مثل أي اكتشاف آخر؟ من الواضح أن التصوير لم يبدد العديد من التقاليد أو المعارف القائمة والسابقة عليه. فقد خرج التصوير من رحم بحوث راسخة في بصريات العدسات الزجاجية وكيمياء الأملاح الحساسة للضوء، ولا يعد معرفة جديدة بزغت إلى الوجود بصورة مفاجئة. وقد ورثت الفوتوغرافيا، بوصفها تقنية للتمثيل البصري، التقاليدَ الجمالية مثل المنظور الخطي الذي كان راسخًا في الفنون البصرية الأخرى. والحقيقة أنه لم يكن للتصوير الفوتوغرافي أن يبرز بوصفه «وجهة نظر حديثة» من دون التقاليد التصويرية لواقعية المنظور التي ورثتها عن طريق رسم المناظر الطبيعية؛ وبالتالي عزز التصوير الفوتوغرافي من التقاليد الراسخة وواقعية المنظور التي ورثها من فن الرسم الغربي ولم يمثل تحديًا لها. وأخيرًا، شمل مصطلح «التصوير الفوتوغرافي» مجموعةً واسعة من التقنيات والأشياء – بَدءًا بالمجسمات إلى البطاقات carte-de-visites – والتي غالبًا ما كان لها تأثيرات بصرية مختلفة جدًّا على الرائي. وهكذا يمكن النظر إلى التصوير على أنه كان تقنية مثلت بعض استخداماتها أعراضًا، وليست أسبابًا، لتحولات أكثر عمقًا في إعادة تنظيم الرؤية في القرن التاسع عشر. ولهذه الأسباب كلها، يمكن القول إن التصوير وسّع من أنظمة التمثيل القائمة وعززها، بقدر ما أحدث ثورةً في وسائط المعرفة.
ومع ذلك، فقد أدرك العديد من كتاب القرن التاسع عشر الإمكانيات الثورية الكامنة في التصوير وتأثيرها على مختلف فروع الفن والعلم، وسارع النقاد بتحديد الموضوعات التي تبدو ملائمة للصور الفوتوغرافية، من اللوحات الإرشادية والدعائية إلى الأمور العامة، بالإضافة إلى مجالات جديدة للدراسة بوسعها أن تستفيد من تلك الوسيلة، من علم الفلك إلى الجغرافيا. وبالنسبة لهواة التنقل والترحال في القرن التاسع عشر، فقد بدا التصوير مناسبًا لتسجيل المعلومات وجمع البيانات. فيقول وليام ليك برايس William Lake Price، في عام 1868: “لقد أضاف التصوير الفوتوغرافي، وبطرق عديدة إلى المعرفة البشرية، وسوف يستمر وبشكل متزايد في تلك المساهمة: فقد أتاح لنا أن نكون على ألفة مع كل جوانب عالمنا، من المناطق الاستوائية إلى القطبين، وسكانه، من النوبي الأسمر حتى الإسكيمو الشاحب، وإنتاجاته الحيوانية والنباتية، ومدنه، وأشكال جباله”.
ومثل الوسائط المختلفة التي اكتشفها الإنسان لتيسير عملية الانتقال، كالبواخر والسكك الحديدية والتلغراف، بدا التصوير مذيبًا للمسافة التي تفصل بين «هنا» و«هناك»، مُسهِمًا بصورة رئيسة فيما أطلق عليه الناقد الماركسي ديفيد هارفي David Harvey انضغاطَ الزمان والمكان في القرن العشرين؛ إذ عمل التصوير على تقديم وقائع وأحداث كانت تبدو للجمهور بعيدة المنال إلى درجة بعيدة. وهكذا كان للتصوير دور محوري في إحداث تغييرات ثورية في المخيلة البشرية إبّان القرن التاسع عشر. وقد بين جوان شوارتز Joan Schwartz أن التفكير في التصوير الفوتوغرافي يكشف عن طرق جديدة لتصور العالم، فمن خلال عمليات الإنتاج والتداول والاستهلاك، أصبحت الصور «وسائط بصرية» كما وصفها شوارتز و«أداةً فاعلة للخيال البشري»، و«نشاطًا معرفيًّا وسيطًا بين العالم المادي والبشري».
بين العلم والفن:
يستند الجدال حول الصفة الإستطيقية للفوتوغرافيا («هل يمكن عدّها فنًّا؟») إلى الفارق الذي يميز الرؤية العلمية عن الرؤية الفنية، الحقيقة والخيال، والموضوعية والذاتية. وفي المجمل اعتمدت محاولات الانتقال بالفوتوغرافيا من فضاء العلم إلى فضاء الفن، في جانب كبير منها، على المحاولات الدؤوبة للتغلب على الطبيعة «الوقائعية المحضة» للصورة الفوتوغرافية. بطريقة تجعلنا نقول إن الفوتوغرافيا قد أحدثت هذا التلاحم بين العلم والفن في وسيط واحد. والواقع أن هذا الأمر قد حدث بصورة مبكرة تمامًا في مسيرة الفوتوغرافيا. ولنا في تجربة لويس داغير Louis Daguerre (1787 – 1851) مثالًا على هذا التلاحم. فقد ابتكر داغير، وهو مكتشف الفوتوغرافيا، طريقةً جديدة في التصوير من خلال تقديمه لمشاهد واقعية وظفت ما طوره من وسائل تقنية متقدمة. واتسمت العروض التي قدمها باستخدام التلاعب بالضوء واعتماد بعض الحيل بالإبهار؛ حيث مثلت بعض الأحداث الدرامية المتقلبة (مشاهد تنيرها النجوم، تتخللها العواصف…إلخ). وبدايةً من العام 1800 عمل على اختراع ما أطلق عليه البانوراما Panorama: «بنايات دائرية تنيرها السماء وتحدها جداريات ضخمة تصور المدن وساحات الحرب وبعض الأحداث التاريخية». غير أن العام 1822 شهد ذروة مسيرته المهنية التي تخصصت في الإيهام المسرحي: ما أطلق عليه الديوراما Diorama، والتي أضافت الإيهام بالحركة إلى ما اتصفت به البانوراما من إيحاء بالأبعاد الثلاثية. فمن خلال رسم مناظر مختلفة على خلفية وواجهة شاشة هائلة الحجم، أمكن لداغير عبر التلاعب بالإضاءة، الانتقال عبر المشاهد بطريقة تسلسلية توحي بالحركة، فيشعر المتفرج بالانتقال من مشهد إلى آخر بطريقة بدت آنذاك أقرب إلى السحر، وتكشف عن قدرات علمية واسعة.
إن الكتابات التي تناولت ديوراما داغير وقت ظهورها كانت تشير إليها بوصفها منجزًا تقنيًّا أشبه بالسحر؛ لأن طريقة عملها كانت مجهولة تمامًا، هذا بالإضافة إلى الطابع الرومانسي القوطي للمشاهد التي عرضها داغير، والأهم – بطبيعة الحال – الواقعية المفرطة التي قدمتها. واقعية توحي بالواقع لكنه ليس واقعًا فعليًّا؛ بل افتراضيًّا. كانت المشاهدة آنذاك بمقابل، أي يدفع الجمهور مقابلًا ماديًّا من أجل مشاهدة إعادة إنتاج للواقع، وليس مجرد صورة مطابقة له. وبصورة مشابهة لمن يدفع مقابل دخول السينما، أو أي مدينة للألعاب، أو شراء جهاز تلفزيون أو لعبة من ألعاب الفيديو؛ كان مُشاهِد الديوراما يدفع أيضًا حتى ينتقل إلى خبرة حية، تتولد من خلال عدة قنوات حسية، فيشعر بشيء ليس له وجود واقعي أبدًا، وإن كان يوحي بالواقع لأبعد الحدود. وتحقيقًا لهذه الغاية، لم يعتمد داغير على الصور الواقعية أو الإنارة والتلاعب بها فحسب؛ وإنما استخدم كذلك أشياء حقيقية:
«من أجل تصميم (منظر لمون بلو Mont Blanc) استقدم داغير من سويسرا كوخًا وحظيرةً وماعزًا وأشجار صنوبر، ودار هذا الحوار بين ملك فرنسا وابنه في أثناء مشاهدة العرض؛ إذ سأل الأمير الملك: «هل هذه الماعز حقيقية يا والدي؟»، فأجابه: «لا أعلم يا بني، عليك أن تسأل السيد داغير». وروى بعض النقاد أن داغير رد موضحًا: «كان هدفي الوحيد إحداث أعلى مستوى من مستويات الإيهام؛ أردت أن أسرق الطبيعة، وبالتالي كان علي أن أصبح لصًّا». لقد أضفى داغير على المشهد صوتًا؛ بينما كان بوسع الزوار الذين يعرفون سويسرا أن يحددوا لأصدقائهم أسماء الجبال المغطاة بالثلوج وكأنهم يجلسون في أحد مقاهي سويسرا، بينما تتصاعد أصوات الأبواق والأغاني».
كانت الديوراما مثالًا مهمًّا ودالًّا على ما يمتلكه العلم من قدرة على تحويل مادة العالم إلى تعبير؛ ومن ثم المزج بين العلم (التقنية) والفن (التعبير). وجسدت الديوراما أيضًا إحدى وسائل السيطرة على العالم والتحكم به عبر إعادة تقديمة (تشكيله) من جديد. ومن ثم تضمنت هذه التقنية تصورًّا جديدًا للواقعية؛ إذ وظفت التقنية من أجل القيام بعملية الإيهام، فكانت أشبه ما تكون بالعرض السحري؛ فنحن نعلم أن ما نراه لا يوجد بهذا الشكل، وهنا بالضبط تكمن متعة المشاهدة وطرافتها – بأعيننا نشاهد أكثر العروض واقعيةً لشيء لا يمكن أن يحدث في الواقع على النحو نفسه، إنها تلك المفارقة التي تميز عالم الفن على الدوام. تكمن الخدعة هنا في القدرات التقنية للفنان (لا نتحدث هنا عن قدرات سحرية لأننا نشاهد بعين حداثية لا تقبل السحر)، فكلما تسلح الفنان بتلك القدرات تولد لدى المشاهد إحساسٌ مضاعف بالمهارة الفنية. ويتمثل الشعور الطبيعي الذي يتولد لدى المشاهد في أثناء تجربة التلقي للأعمال الفنية الجيدة في مقدرة العمل على أن يعكس أسلوب الفنان وقدرته على التحكم بمادة العمل الفني، أي قدرته على تحويل العالم المادي بأشيائه إلى واقع جديد. ويمثل هذا الأمر أحد الجوانب المهمة للغاية في تجربتَي الإبداع والتلقي على حدٍّ سواء. ومع ذلك تضيف التقنية بُعدًا آخرَ في التجربة الجمالية للمتلقي؛ إذ يتولد لدى المشاهد شعورٌ مزدوج بالدهشة أو الانبهار؛ الدهشة المتولدة من خبرة الانتقال إلى عالم غير حقيقي لكنه متحقق بالكامل؛ والانبهار من التقنية (غير المفهومة والخفية) التي تحقق هذا العالم من خلالها.
ربما كان مثال ديوراما لويس داغير واحدًا من الأمثلة الداعمة التي تؤيد بالدليل ذلك التوجه الذي يضع الفوتوغرافيا ضمن مشروع أو تقاليد مغايرة لذلك التوجه الذي ظهر مع ظهورها، والذي يدرج الفوتوغرافيا ضمن تاريخ تطور التقنية فقط. فمن المعروف أن الفوتوغرافيا حين ظهرت تعرضت لهجوم كبير يهدف إلى نزع صفة الفنية عنها. لكن ديوراما داغير وقفت كحائط صد أمام هذا الهجوم، ففيها اجتمع العلم والفن داخل اكتشاف تقني جديد – مهارة فنية علمية، أداة تعمل على تحويل المادة، وفي الوقت ذاته تعلو على الواقع أو تعمل على محو الحدود بين ما هو واقعي وما هو غير واقعي.
هذا الجمع الفريد من نوعه آنذاك، الذي حققته الفوتوغرافيا بين الفن والعلم، أثار موجةَ رفضٍ عاتية من معظم الرسامين. لقد شكلت الفوتوغرافيا تحديًا كبيرًا لفن الرسم جعل بعضهم يراها شبحًا جديدًا جاء ليزعزع تلك المكانة الراسخة لهذا الفن وللقائمين عليه. وكأي مجهول قادم استقبله بعضهم بالرفض مستمرًّا في التعبير عن أفكاره ورسوماته بأدواته التقليدية البسيطة (الفرشاة والأقلام والألواح). في المقابل رحب به قلة قليلة من الرسامين والمنظرين الفنيين؛ إذ وجدوا فيه القدرة على نقل المشاهد بحرفية وتقنية تتحدى قلم أي فنان بارع وريشته. ذلك أن فن التصوير الفوتوغرافي لديه القدرة على التقاط المناظر الطبيعية Landscapes أو تصوير الأشخاص والنماذج Models كما هم موجودون في الأصل. واستخدم طرفٌ ثالث من الفنانين الصورَ الفوتوغرافية للأشخاص والمناظر بهدف الاسترشاد بها في صوره ورسوماته، فبدلًا من أن يمكث الشخص المراد تصويره وقتًا طويلًا أمام الرسام، أصبح بالإمكان رسم الأشخاص من خلال صورهم الفوتوغرافية. بالإضافة إلى ذلك، فإن قدرة الصورة الفوتوغرافية على تجسيد التعابير الإنسانية والمشاعر النفسية، فاقت بشكل كبير المحاولات كلها التي قدمت من قبل في فن الرسم. كما كان للصورة الفوتوغرافية القدرة على تبسيط الأشكال بخطوط ومساحات مجردة بعيدة عن تمثيل الأشياء كما هي في الواقع سواء من حيث الشكل أو اللون.
من هنا يستطيع المراقب لتاريخ فن الرسم وتطوراته، أن يدرك أن التحول الذي حدث من الواقعية إلى الرمزية التي بلغت أوجها مع التيار التجريدي، كان أحد الآثار التي تركها اكتشاف الفوتوغرافيا. نستطيع أن نراقب هذه التحولات في تعريف الأديب الفرنسي شارل بودلير C. Baudelaire للحداثة في مقالته الكاشفة رسام الحياة الحديثة Le Peintre de la vie moderne الصادرة عام 1863، حيث يقول: «إن الحداثة هي المؤقت، وسريع الزوال، والجائز، هي نصف الفن، بينما الأبدي والثابت هو النصف الآخر». فالفن وفقًا لبودلير هو استخلاص السرمدي من العابر والزائل، هذا الزائل أو العابر لا يمكن للفنان أن يتجاوزه «هذا العنصر العابر والمنفلت، والذي تكون تحولاته جد متواترة. ليس من حقك ازدراؤه أو الاستغناء عنه. إنك بإلغائه ستسقط لا محالة في تجريد جمالي، مُستعصى عن التحديد.. كجمال المرأة الوحيدة قبل الخطيئة الأولى». ومثلما كان بودلير سريعًا في رؤية ما إذا كان الدفق والتغيير، والتشتت والتشظي، قد شكلا القاعدة المادية للحياة الحديثة؛ فإن تعريفه السابق للفن الحداثي استند أيضًا، وعلى نحو حاسم، إلى التطورات التقنية العديدة التي اكتشفت في العصر الحديث، خاصة الفوتوغرافيا. ففي وسع الرسام الفرد تحدي الصيرورة تلك، أو التعايش معها والسباحة في مياهها؛ إلا أنه لا يستطيع، في الأحوال كلها، تجاهلها. وإذا عدنا إلى صياغة بودلير؛ فإننا نجده يقدم الرسام كشخص قادر على تركيز رؤيته على الموضوعات العادية للحياة المعاصرة، وعلى فهم خصائصها المتغيرة، ويستطيع مع ذلك أن يستخرج من اللحظة العابرة عناصر الخلود كلها الكامنة فيها. كان الرسام الحداثي الذي وصل إلى مرحلة النضج، وفقًا لبودلير، هو ذلك الذي يستطيع العثور على الكلي الدائم، وأن «يقطر طعم خمر الحياة المر» من «أشكال الجمال العابر والزائل في حياتنا اليومية»، وبمقدار ما ينجح الرسم الحداثي في ذلك، فهو يصبح فنًّا لنا؛ إذ إنه وبدقة «الفن الذي يستجيب لسيناريو فَوْضَانا».
كان هذا التوصيف الذي قدمه بودلير لطبيعة الفن الحديث، خاصة فن الرسم، انعكاسًا للتأثير الذي أحدثته الفوتوغرافيا في لغة التعبير التي سادت آنذاك. فقد شكلت الفوتوغرافيا، كما سبق القول، تحديًا لقدرة الرسام على التعبير؛ إنها تمتلك القدرة على التعبير عن موضوعات الواقع وتجسيدها بطريقة تتجاوز تلك التي يمتلكها الرسام بمراحل؛ لكنها مع قدرتها الفائقة هذه تفتقد إمكانية التعبير عن عناصر الخلود داخل الأحداث المتغيرة واللحظات العابرة، وتُعد هذه الإمكانية وفقًا لبودلير خاصةً فريدة لفن الرسم، وهدفًا ينبغي للرسام الحديث أن يضعه باستمرار نصب عينيه. على أن تلك العناصر الخالدة لا يمكن أن تتحقق عبر الركون إلى المؤقت والزائل؛ بل لا بد أن تُستخلص منه وعَبره، والأهم أن يُعبر عنها بلغة تكون هي الأخرى خالدة، ولن يتحقق ذلك إلا بتجريد الموضوع الواقعي من أبعاده الحسية الزائلة، والتقاط المعنى الكامن وراءه، هذا هو امتياز الرسم الحديث، وهو ما ليس بمقدور الفوتوغرافيا القيام به. والخلاصة أن التحول الذي حدث في فن الرسم من الأسلوب الواقعي إلى الرمزي، كان أحد أسبابه القدرة الفائقة التي وفرها التصوير الفوتوغرافي في تصوير الواقع وتجسيده؛ مما فرض شروطًا جديدةً على فن الرسم توجب عليه الاستجابة لها.
لم تكن الآلة الفوتوغرافية في نظر بودلير إلا اختراعًا يرجع إلى تفاهة الفنانين الحداثيين في عصره وملجأً للرسامين الفاشلين. وكانت الحركة الطبيعية في نظره علامةً على انحطاط الرسم “في هذه الأيام المنكوبة، ظهرت صناعة جديدة تساهم بشكل قوي في تأكيد البلاهة وتدمير ما يمكن أن يكون قد بقي من الروح في العقل الفرنسي… إنني أعتقد في الطبيعة ولا أعتقد إلا فيها…. وأعتقد أن الفن لا يمكن إلا أن يكون نقلًا للطبيعة… لذلك فإن الصناعة التي تعطينا نتيجة مماثلة للطبيعة ستصبح هي الفن المطلق”.
وعلى الرغم مما قدمته الفوتوغرافيا من مزايا في نظر بعض الرسامين، كواقعيتها المبهرة وقدرتها الفائقة على التسجيل والرصد؛ فإننا نجد بودلير يتحدث بسخرية لاذعة عن الرسامين الطبيعيين في عصره الذين اتخذوا الفوتوغرافيا نموذجًا لهم في الرسم «إنهم، أي الرسامين، دأبوا في رسوماتهم الزيتية على عدم إفساد النتيجة التي تم الحصول عليها بشكل آلي في البداية. إنه اليأس من الوصول للكمال الذي يرونه على اللوح المعدني. فكلما اجتهدوا في تقليده، كلما اكتشفوا ضعفهم، إن عملهم الفني ليس أكثر من نسخة باردة بوضوح من تلك النسخة غير الكاملة من نواحٍ أخرى. باختصار لقد تحول الفنان إلى آلة مرتبطة بآلة أخرى».
ومع ذلك فقد استمر الجدل صعودًا وهبوطًا حول السؤال: هل تعد الفوتوغرافيا فنًّا أم لا؟. وكان دائمًا ما يثار مثل هذا السؤال في السياقات التي تناقش العلاقة بين التقنية والفن بصفة عامة، غير أن التساؤلات من هذا النوع، كما تذهب سوزان سونتاغ، اختفت تمامًا عندما اقتحم الفوتوغراف أبواب المتاحف «احتضان المتحف للفوتوغراف كفن، كان بمثابة النصر الحاسم لحملة دامت قرنًا من الزمان شنها الذوق الحداثي لصالح تعريف مفتوح الحدود للفن». ويلخص فالتر بنيامين هذا الأمر قائلًا: «اليوم يبدو الخلاف الذي نشب في القرن التاسع عشر حول القيمة الفنية للرسم مقابل التصوير الفوتوغرافي خلافًا ملتويًا ومشوشًا؛ إلا أن ذلك لا يقلل من أهميته؛ بل يؤكدها. كان الخلاف في الحقيقة عرضًا لتحول تاريخي لم يدرك أيًّا من الجانبين المتنازعين تأثيره الشامل… في وقت سابق تم تكريس وقت كبير من التفكير العقيم لمسألة ما إذا كانت الفوتوغرافيا فنًّا. ولم يطرح السؤال الأساسي الذي كان ينبغي أن يطرح عما إذا كان اختراع الفوتوغرافيا قد غير من مجمل طبيعة الفن».
وهل كان للحداثة الغربية أن تطمح في أكثر من ذلك؟
«توقف الزمان والمكان عن الوجود. تصنع الطواحين دوامتها الهزازة، يتغلب المجداف على الأمواج، القاطرة تلهث في دوامة السرعة؛ الحوار متواصل بين شاطئ محيط وآخر؛ أضحى الدفق الكهربائي كساعي البريد؛ بسرعة البرق تنتقل الرسائل بطول الأسلاك. باتت الشمس رسام يصور الطبيعة، وأشكال البشر، والأحداث؛ وتفتح ألواح فضية عينها الزجاجية من تحت جفن نحاسي، لتلتقط في لمح البصر منظرًا طبيعيًّا أو تجمعًا من البشر أو أطلالًا مهجورة».
هكذا كتب الناقد والأديب الفرنسي تيوفيل جاوتييه Theophile Gautier في العام 1858، ليعبر عن تلك الروح الثورية في عصره التي حققها اكتشاف التصوير الفوتوغرافي في العالم الحديث؛ ليصبح بذلك، إلى جانب اكتشافات أخرى عديدة، إحدى وسائل سيطرة الإنسان الحديث على عالمه وأداةً من أدوات تحقيق رفاهية البشرية وتقدمها.
منذ نشأتها تم التعامل مع الفوتوغرافيا بوصفها وسيطًا واقعيًّا، يتمثل امتيازه الرئيس في قدرته على المعالجة الآلية الدقيقة غير الذاتية (الموضوعية) لمظهر الأشياء، فخلافًا لغيره من سبل التمثيل المرئي، مثل الرسم أو النقش، لا يعتمد التصوير بصورة كلية على الإنسان كصانع للصورة، وهي صفة تربط الفوتوغرافيا بالرؤية الحديثة، وبالأخص الرؤية (فعل الرؤية) المرتبطة بالعلم؛ حيث الرؤية أساس المعرفة والحقيقة في أي نموذج معرفي يعتمد على التجربة (وهو النموذج الحداثي بامتياز). فكيف حدث هذا التواؤم بين النموذج المعرفي للحداثة الغربية والفوتوغرافيا، وإلى أي مدى استطاعت هذه الأخيرة التعبير عن هذا النموذج؟
حاولت الحداثة الغربية منذ البداية أن تؤسس مشروعها على دعائم قوية أهمها هدم الخرافة وإقصاء التصورات السحرية عن العالم، وفي سبيل ذلك اعتمدت المنهجَ العلمي التجريبي طريقًا للمعرفة؛ المنهجَ الذي يعترف بالملاحظة والتجربة، ويجعل من التحقق التجريبي شرطًا للمعرفة. الحداثة مشروع يختزل العالم في مظاهره، السطح المرئي منه؛ أي إنه يختزل العالم المرئي المَعيش في صفاته التي يمكن ملاحظتها: (اللون، الكتلة، الشكل). فليس العالم، وفقًا للعلم الحديث، سوى مادة في حالة من الحركة. وقد عمل الجناح التجريبي لعصر التنوير على ترسيخ هذا التوجه، والذي تأسس بعد ذلك من خلال مختلف النماذج الوضعية في فلسفة العلوم، اعتمادًا على معيار الرؤية، فنحن لا نعرف سوى ما يمكن أن نراه، وما نراه هو المجال الوحيد الممكن للمعرفة؛ وعليه، فلا يمكن للأفكار والنظريات والمفاهيم والتعميمات الخاصة بالعلم وغيرها أن تنشأ إلا من الخبرات الحسية بمادية العالم. ويعد المنهج العلمي المتمثل في الملاحظة والتجريب وجمع الأدلة والتحقق منها… إلخ. تفعيل للتصور الرئيس القائل إن منبع الأفكار (الذاتية) يتمثل في العناصر الحسية للشيء (الموضوع كما يُدرَك حسيًّا بوضوح). ووفقًا لهذا المعنى نشأ التيار التجريبي في الفلسفة، خاصة مع جون لوك الذي أكد على أن العقل يولد صفحة بيضاء ثم تنقش عليه الانطباعات الحسية التي ترد من العالم الخارجي فيمتلئ بالسواد؛ سواد المعرفة.
إذا كان النموذج المعرفي للحداثة مبنيًّا على قاعدة تقول إن «المشاهدة» شرط «الاعتقاد»، أو على فكرة إن الرؤية هي الأساس السليم الوحيد للاعتقاد، فقد كان من الضروري باستمرار أن تنتج الحداثة، من أجل ترسيخ الاعتقاد، مشاهد بصرية تعمل على تقديم الحجة أو الدليل على المرئي. من بين الرسامين الذين عبروا عن هذا المعنى بقوة نجد الرسام الإنجليزي جوزيف رايت Joseph Wright في عمله المعنون بـ«تجربة على طائر داخل مضخة هواء» An Experiment on a Bird in an Airpump 1767 . حيث يصور تجربة علمية، تبين موت طائر بسبب سحب الهواء من حوله. وتنبع قوة لوحة رايت من المزاوجة التي أقامها بين الواقعية الكلاسيكية الجديدة المبنية على دقة الخطوط وتوزيع الإضاءة وانضباط التفاصيل، وبين الحس الرومانسي القوي الذي يضفي على اللوحة سحرها وعناصر الرهبة والإدهاش فيها. وتعد هذه اللوحة تجسيدًا لخصائص المنهج العلمي: فمن وسط الظلال يظهر العالم الأشبه بساحر، ونرى الدهشة الطفولية البريئة، كما نرى تلك الفتاة التي تضع يدها على عينيها خوفًا وشفقةً على الطائر، بينما هناك من يشجعها على أن تلتفت وتنظر دون أن تعبأ بتلك المشاعر (وهي ذاتها لو لاحظنا أزمة المشروع الحداثي).
ما الذي يراه هؤلاء؟ إنه استعراض لتجربة علمية تتوافر فيها شروط المنهج العلمي التجريبي، على اعتبار أن ذلك أساس المعرفة وكشف لأحد أسرار هذا العالم؛ فالعلم، وفقًا للمشروع الحداثي يقدم، الدليل كأساس عقلاني للمعرفة. وهكذا تمثل التوجه الرئيس للحداثة في تعريف الحقيقي على أساس المادي، ومن الطبيعي أن تكون الرؤية، وفقًا لهذا، هي أداة المعرفة الأكثر أهميةً. لقد اختزلت الحداثة العالم المَعيش في مجرد وقائع مادية يمكن ملاحظتها وقياسها، وقد عمل هذا التوجه المختزل للحداثة على نفي إمكانية وجود معنىً متأصلٍ في الواقع ومستقلٍّ عن الذات الرائية. وهكذا، كما ذهب بعد ذلك العديد من رواد مدرسة فرانكفورت، حولت الحداثة العالم إلى موضوع بحت، فالمعنى الوحيد الذي يمكن للعالم المادي أن يمتلكه هو معناه وفقًا للتطلعات البشرية، وتعمل تلك الأهداف على تحديد صفاته الأداتية. من هنا يمكن القول إن الرؤية الحداثية ارتبطت بالتقدم والتحديث من خلال معنيين مزدوجين: فهي عن طريق المعرفة تسيطر على السلوك الفيزيقي لموضوعات العالم، بالإضافة إلى أنها تنكر أي معنى أو «ذاتية» متأصلة لهذا الموضوع.
لقد دأبت نظرية المعرفة، إبان العصر الحديث، على طرح السؤال الخاص بماهية العالم ومعناه؛ غير أن محدودية العالم الواقعي عملت على تغيير طبيعة هذا السؤال تدريجيًّا ليصبح سؤالًا عن مكونات هذا العالم وطبيعة وجودها فيه. وفي هذا الصدد عملت الوضعية على توجيه المعرفة نقديًّا، نحو المحيط العملي، أي معرفة وظائف الأشياء وسلوكها. وعبر التجربة والاكتشافات التقنية يُتحكَّم بالأشياء من أجل السيطرة على سلوكها وفق احتياجات البشر، وهكذا يمكن تحويل عالم الطبيعة إلى موضوعات عقلانية أداتية. وتصير المعرفة مسألة مرتبطة بالحصول على المعلومات التي تساعد على إحكام السيطرة على الأشياء وتسخيرها لخدمة الإنسان. باختصار، كان الهم الأكبر بعد اكتشاف الطبيعة في العصر الحديث السيطرة عليها وتسخيرها لصالح الإنسان، ولن يتأتى ذلك إلا عبر الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عنها وعن مكوناتها.
كان طبيعيًّا، نتيجة هذا الاختزال الذي أجرته الحداثة على العالم في بعده التجريبي فقط، أن يكون الشكل الواقعي للتعبير هو الشكل المعتمد لديها؛ إذ توجب أن يكون التعبير عن شيء ما، متضمنًا لصفاته وأبعاده التجريبية التي يمكن ملاحظتها؛ وبالتالي تنقية الموضوع من أيِّ صفات لا يمكن ملاحظتها عن طريق الرؤية. وهي عملية منبعها الحاجة إلى توصيف العالم في شكل وقائعي يستبعد التصورات الخيالية والسحرية كافةً، أو بالأحرى الميتافيزيقية، ويعكس عالمًا مكونًا من الأشياء المادية التي يمكن تصنيفها تحت مستويات من التعميمات والمفاهيم والنظريات.
من هنا كما لنا أن نتوقع جاءت الفوتوغرافيا ملبيةً بصورة كبيرة لهذا التوجه الحداثي أو لنقل تتويجًا له؛ لكن ليس بالطبع بمنطق السبب والنتيجة؛ فقد حدث ارتباط، أو لنقل تناغمًا طبيعيًّ وثيقًا بين الفوتوغرافيا – منذ ميلادها – ومتطلباتِ هذا المشروع، وعُدَّت، على نطاق واسع تحديثًا للرؤية التي اختص بها العلم نفسه. وكان أساس هذه المواءمة ما يمكن أن نسميه «الواقعية المباشرة» لفن الفوتوغرافيا، وهي صفة تتواءم بصورة كبيرة مع لغة الملاحظة المحايدة التي اعتمدها العلم الحديث. وبسبب واقعيتها المباشرة – أي تعبيرها الدقيق والموضوعي عن الصفات الظاهرة للمادة – عُدَّت الفوتوغرافيا نموذجًا للرؤية الحداثية؛ إذ أصبحت موضعًا للنظر على أساس من صفاتها الواقعية، وهو ما بدا متوافقًا بصورة كبيرة مع الفلسفة الوضعية، بمعنى أن تغدو الفوتوغرافيا آلةً لإنتاج الرؤية الوضعية للعالم وترسيخها.
في مقالته عن الفوتوغرافيا يقدم دون سلاتر توصيفًا لتلك الواقعية الفوتوغرافية عبر تصنيفها إلى ثلاثة مستويات:
المستوى الأول- الواقعية التمثيلية representational realism: عُدَّت الفوتوغرافيا منذ نشأتها فنًّا واقعيًّا نجح في التعامل مع مستويات التعبير الواقعي مقارنةً بوسائط أخرى، وأهمها الرسم. وهي واقعية تقنية بالأساس. ذات مرة قال الرسام الفرنسي جان أوغست آنجر لزملائه الرسامين وهو يمسك في إحدى يديه صورة فوتوغرافية تمثل منظرًا من مناظر الطبيعة: «انظروا إلى هذه أيها السادة! من منكم قادر على تقديم عمل يتوافر فيه كل هذا الانضباط، قوة الخطوط، والبساطة في إبداع النماذج؟ الفوتوغرافيا منذ نشأتها فنًّا واقعيًّا نجح في التعامل مع مستويات التعبير الواقعي مقارنةً بوسائط أخرى، وأهمها الرسم. وهي واقعية تقنية بالأساس». من المهم هنا التأكيد بأنه على الرغم من أن الرسامين الرومانسيين، ومنهم ديلاكروا Delacroix، قد استخدموا الصور الفوتوغرافية كثيرًا؛ إلا أن الرسامين الكلاسيكيين، وهم رواد الاهتمام بالخطوط، ومنهم آنجر، كانوا هم من نظروا إلى الصور الفوتوغرافية بوصفها النموذج الأمثل للواقعية. وكانت التوصيفات الأولى للصورة الفوتوغرافية تنطوي جميعها على معاني التمثيل، والنقش، والخطوط، فالفوتوغرافيا تقدم واقعيةً فائقةً Hyper- Reality لأنها الرسم في صورته المثلى.
المستوى الثاني- الواقعية الأنطولوجية أو الوجودية ontological or existential realism: حيث يعتمد وجود الصورة الفوتوغرافية على الوجود الواقعي للموضوع المصور، ويعتمد على حدث يمكننا أن نصفه بـ«اللحظي»؛ بمعنى أن شيئًا ما قد مر بالضرورة أمام العدسة، وهذه السمة هي التي تؤسس لجدلية الحضور والغياب في الفوتوغرافيا؛ أي قدرتها المعرفية على أن تكون شاهدة على الأحداث الماضوية، وهي ذاتها السمة التي تستدعي الاعتقاد بصدقها من خلال افتراض وجود علاقة متفردة ومتميزة بين ما تصوره (العلامة sign) وما تشير إليه (المرجع referent)، يقول جورج غرينوف: “إذا كان هناك فن بعينه قادر على أن ينقل للعقل تصورًا لمثال ما… فلا شك عندي أنه يتمثل في التصوير الفوتوغرافي. فهو قائم على الانعكاس، ويمنح الصورة ديمومة بقدر يزيد أو ينقص؛ وما المسافة والتقريب والمنظور بالنسبة له إلا وسيلة غاية في السهولة تباري قلم الرسام؛ فهو فاعل في اللحظة الزمنية، وبيقين لا يخطئ”.
على أن هذه الواقعية الأنطولوجية لا تنفصل عن المستوى الثالث من الواقعية، وهو الواقعية الآلية mechanical realism: حيث تصل الفوتوغرافيا بالحداثة إلى لحظتها المثالية، فهي الأداة التي تجمع بين كونها وسيلةً لمعرفة العالم ووسيلةً للتعبير عنه وإنتاجه أو تحويله. فيصير كلٌّ من المعرفة والتعبير والتحويل أنشطةً محددة، ثلاثة أشكال لمواءمة العالم المادي تصب في النهاية في هدف الحداثة الأسمى؛ السيطرة على العالم وتسخيره من أجل الإنسان. وتصبح الفوتوغرافيا هنا هي الأداة والغاية في الوقت ذاته؛ أداة معرفة العالم وغاية السيطرة عليه. وتمثل الطبيعة الآلية التي تمتاز بها الفوتوغرافيا ضمانةً فعليةً لتحقيق الرؤية الموضوعية، فالآلية تعني عدم تدخل الذوات؛ ذات محايدة تراقب وترصد وتسجل كل ما يقع أمام عينيها، وهل كان لمشروع الحداثة الغربي أن يطمح في أكثر من ذلك؟! غير أن المفارقة هنا أن تلك الرؤية الموضوعية تتولد بالوسيلة الصناعية نفسها التي أنتجت موضوعاتها!.
ما يجدر الإشارة إليه هنا أيضًا، على سبيل الخاتمة، أن تلك الواقعية الأنطولوجية والآلية للتوجه التعبيري المحض قد عملت على تأسيس علاقة متميزة بعالم الأشياء. ومن هنا جاء العنوان الذي اختاره فوكس تالبوت Fox Talbot لأول كتاب عن الفوتوغرافيا ريشة الطبيعة The Pencil of Nature (1844). فالفوتوغرافيا هي النموذج الأكمل للتعبيرية المرتبطة بالمكان؛ حيث ترتبط فيه العلامة بمرجعها، فتعبر الطبيعة عن نفسها داخل الصورة عن طريق انعكاس ضوئها، كما هو الحال مع المرآة. يقول تالبوت عن أول صورة التقطها في العام 1835 «أعتقد أن هذا البناء هو أول بناء على الإطلاق يرسم صورته الخاصة. وقد كان عنوان أول تقرير يقدمه تالبوت إلى الجمعية الملكية، في 31 يناير 1839، هو «تقييم لفن الرسم الفوتوغرافي، أو العملية التي بها تقوم الأشياء الطبيعية بتحديد معالمها دون مساعدة من قلم الفنان». من هنا كانت الفوتوغرافيا في تماهيها مع النموذج المعرفي للحداثة، بمثابة تطبيق تقني لمفهوم الرؤية الحداثية للعالم. فالفوتوغرافيا، مثلها مثل الرؤية الحداثية، تختزل العالم إلى أسطح خاضعة للملاحظة الموضوعية دون معنى مُحايثٍ لها؛ أي تختزله إلى وقائع، فالكاميرا لا ترى إلا ما هو شاخص أمامها، لا ترى المعاني المجردة ولا تستحضر ما يتجاوز حدود الطبيعة، إنها التعبير الحقيقي عن عالم الأشياء بلغة كانط، وفي تعبيرها عن عالم الأشياء تنفي في الوقت ذاته إمكانية إخضاع عالم الأشياء في ذاته للملاحظة والتجريب. وثمة تبادل متواصل – يجمع بين التعبيرية والأنطولوجية والآلية – بينها وبين العالم المادي المتحرك. أخيرًا، تجمع الفوتوغرافيا بين كونها تقنيةً وواقعيةً: فهي ترى الأشياء على نحو جيد، وفي الوقت ذاته لديها القدرة على أن ترى كلَّ ما يقع داخل محيطها؛ وبالتالي تضع بصورة تلقائية كل شيء في مجاله التعبيري الخاص به.
لبدر مصطفى.
معنى-موقع حزب الحداثة.