التعايش السلمي و قبول الآخر في فلسفة «كانط»
المقدمة
تعد إشكالية التعايش وقبول الآخر من تحديات العصر الراهن فلسفيا وسياسيا، كما إنها مسألة معقدة نظريا وصعبة التطبيق في الواقع أيضا، خاصة في مجتمعات متعددة الأعراق والأديان والمذاهب. لذا لانبالغ إذا قلنا إنها تضع المجتمعات أمام خيارات صعبة: إما حرب داخلية بين الفئات والجماعات الإثنية، التي تؤدي إلى فوضى سياسية، وبالتالي التفكك الاجتماعي؛ وإما الاستبداد وسيطرة النظرة الآحادية في الاعتقاد والتسلط وغلبة فكرة إقصاء الآخر وفق إيدولوجيا شمولية متفردة بالسلطة. فضلا عن ذلك، لاشك في أن التعايش شرط ضروري لسيرورة النظام الديمقراطي وإقامة حكومة مدنية. لذا يبدو التعايش وقبول الآخر من المرتكزات الأساسية في السياسية والفلسفة، بغية رسم خارطة سلمية للتنوع العرقي والديني من ناحية، ومن ناحية أخرى هو بمثابة مؤشر أخلاقي في التطبيق العملي؛ لأنه يبين مدى عمق المسؤولية الأخلاقية تجاه الذات أولا، ثم الغير والعكس.فالتعايش كمبدأ أخلاقي ورؤية سياسة، مطلوب لدى الجميع إلى حد يعده البعض من البديهيات الخلقية والفلسفية، ولكن ترجمته للواقع، خاصة في القرار السياسي ليست هينة لأسباب ذاتية وموضوعية، كما إنها من الناحية المفهومية لاتخلو من إشكاليات نظرية وتطبيقية من جانب آخر. لذا يمكننا بتعبير آخر، أن نقول إن التعايش “السهل الممتنع” في الواقع. ما يؤكد هذا الاستنتاج، النظرة الخاطفة علی الظروف السياسية والدينية المحيطة مثلا کدولة «العراق»، نلمس صعوبة التعايش وتحديات قبول الآخر، وإفرازاتها في صراعات ومشاكل ذات صبغة إيديولوجية ومذهبية وعرقية. كذلك يشكل التعايش علی الرغم من معانيه وأشكاله المختلفة، تحديا سياسيا واجتماعيا لأي نظام یبغي الاسقرار والسلم الاجتماعي والوفاق الوطني.
ولأجل توضيح هذه الصعوبات من خلال بعض الطروحات الفلسفية الموجودة، يحاول هذا المقال قدر الإمكان التحدث عن أهمية وضرورة التعايش فلسفيا. كما لابد من الإشارة إلى حقيقة أخری: إن اختيارنا للفلسفة دون سواها لمعالجة هذا الموضوع راجع إلی:
أولا: إلى أن التعايش وقبول الآخر في الفلسفة يعد ضرورة اجتماعية ووجودية؛ أي تعني الاعتراف بوجود الذات، سواء كان هذا “الأنا” أو “الآخر”.
ثانيا: إن كافة الحلول والنظريات، لابد أن ترجع للفلسفة السياسية والاجتماعية من حيث المعنى والتحليل بشكل أو بآخر لعمقها وأسبقيتها في هذا المجال.
ثالثا: إن اختيار “كانط” هنا يعود إلى قناعة ذاتية بفلسفته، علی الرغم من أنه لم يكتب كتابا خاصا تحت عنوان “الفلسفة السياسية والاجتماعية”، إلا أنه أشار إلى ها في كتاباته المختلفة وضمن مواضيع مختلفة. ويمكننا الرجوع إلى كتابه “أسس ميتافيزيقا الأخلاق” في الجزء الأول منه. أيضا كتابه “نحو سلام دائم” ومقالته الموسومة بـ “ما التنوير”.
لذا نستطيع من خلال الرجوع إلى كتب «كانط»، استنباط أفكار جمة حول الفلسفة السياسية والاجتماعية (Rauscher, 2012). كما إن أفكاره حول السياسة، القانون والدولة والعقد الاجتماعي، تكمن ضمنا وشكلا في فلسفته الأخلاقية؛ لأن مفهوم الأخلاق عنده لاینفصل عن السياسة؛ أي إن المجتمع الأخلاقي عبارة عن مجتمع سياسي أيضا والكائن الاجتماعي، كائن خلقي أيضا، مادام القانون الأخلاقي مصدره العقل، فالشيء ذاته فيما يتعلق بالسياسة؛ أي لابد أن تكون عقلانيا وفق النظم الأخلاقية. إذن، هنا نجد أنه لاتعارض بين السياسة والأخلاق عنده، وأن السياسة مبنية على أسس أخلاقية وعقلانية.إن مفهوم التعايش بقدر ماهو سائد في الفلسفة وشائع في الحوارات والمناقشات السياسية، يحتاج إلى تعريف وتفسير جديد؛ لأنه في الظاهر يبدو كأنه مفهوم واضح لكثرة تداوله على الألسنة، لكنه لايخلو من إشكاليات نظرية. لذا یحتاج إلی تفسیر جدید وتوضیحات ضروریة.
من هنا، یرکز البحث علی رؤية «كانط» حول مفهوم التعايش من خلال قراءة أخری، وطرح بعض الأسئلة التي تدور حول إشكاليات مختلفة كالتالي:
-لماذا التعايش ولیس التسامح؟ هل هو ضرورة اجتماعية أو أكثر من ذلك؟
– مالأسباب التي تؤدي إلى عدم التعايش؟
– لماذا نرجع في قضية سياسية واجتماعية كالتعايش إلى مفهوم “قبول الآخر”؟
– هل قبول الآخر شرط للتعايش؟
– وهل يكمن قبول الغير أو الآخر من دون معرفة الآخر والإقرار الكلي أو الاعتراف بهويته؟
– ما الحلول المطروحة لحل إشكالية التعايش وأين تكمن قوتها ونقاط ضعفها؟
وللجواب عن الأسئلة المطروحة هنا، يستند الباحث على تحليل الفيلسوف الألماني “كانط”(1724–1804) في مسألة التعايش وقبول الآخر، علی الرغم من أن الشائع لدى الفلاسفة والباحثين عند مناقشة مسألة التعايش وقبول الآخر، هو الرجوع إلى كتابات الفلاسفة فرنسيين ك» ريكور» (1913–2005) و«ليفيناس» (1905–1995) والفيلسوف الألماني المعاصر «هابرماس». ولكن، قلما يتم الرجوع إلى «إيمانويل كانط”. ربما هناك جانب من الصواب في الاعتقاد بأن أكثر المشاركات والمطارحات حول إشكالية التعايش، تنطلق من مشاركات هؤلاء الفلاسفة الآنف ذكرهم، لكن كما سيبدو أن «كانط» من الأوائل الذين تطرقوا إلى هذا الموضوع في كتاباته، ولكن بأشكال مختلفة وكما أنه تناولها في فلسفته الأخلاقية بشكل خاص ضمنا.
لذا، فإن البحث يستند إلى «کانط» وليس غيره عن طريق قراءة متأنية لكتاباته حول هذا الموضوع؛ فآلية العمل هنا وفق المنهج المستخدم كالآتي:
أولا: تأويل وتفسير نصوص «كانط» وتوضيح مفاهيمه حول “الاستقلال الذاتي” و”الإرادة الحرة” للفرد كشرط لأفعاله وسلوكه عموما في فلسفته كما متبع عند المدرسة الهرمنوتيقية؛ لأن الأسلوب التأويل (غادامر، ريكور) تستند إلى كل الأقوال الفردية والتصرفات الاجتماعية من خلال تفسيرها وتوضيحها (بيتر كونزمان، بیتر بورکارد وفرانز فیدمان، 2003، صفحة 103).
ثانيا: استخدام كتاب “أسس ميتافيزيقا الأخلاق” للحصول على مبادئ خلقية في هذا المجال. وهذا مبني علی قناعتنا بأن طرح «كانط» حول التعايش أصيل، ویمكن تسميته بـ”أخلاقية التعايش” كعملية مبنية علی أسس عقلانية وكونية شاملة.
لذا، تكمن أهمية «كانط» في رأي الباحث، في أنه سبق غيره في هذا النقاش، كما أنه يتبع نهجا عقلانيا وكونيا ولا يحصر حلوله فقط في نطاق المجتمعات الأوروبية، بل يتعدى إلى غیرها من المجتمعات. وأنه يعتبر هذه المفاهيم مسألة أخلاقية وقيمة أزلية في المجتمع الإنساني علی العموم وأساسا لما يسميه بالسلام العالمي-الكوني.
1- تحديد المفاهيم
إن الرجوع إلى الجذور الفلسفية التحليلية في حل هذه التساؤلات والإشكاليات، تبدأ أولا بفرز وتحليل المفاهيم المتداولة حول “التعايش” و”قبول الآخر” فلسفيا؛ لأن الفلسفة تعطينا إمكانية وقدرة كافيتين لتوضيح إشكاليات المعنى ومفارقاتها من شتى الجوانب النظرية وعمق مغزى المفهوم، كما إنه لابد من التمييز بين التعايش النشط وغيره وبين عملية قبول الآخر.
1-1 مفهوم التعايش:
من الناحية اللغوية، سواء في العربية أم اللغة الكردية، هناك مفردات توحي ببعض المعاني المتقاربة، ولها إسنادات فلسفية كالتعايش (Coexistence)، التسامح (Tolerance)، والتوافق، والمداراة، وغيرها تدل على عمق فكري وإلمام فطري بالمسألة، کما لایخفی أن هناک جذورا دینیة لمفهوم «التاسمح». فالتسامح کمنهج لتنظیم العلاقة بین الأنا والآخر ناتج عن ضرورة تأریخیة تعود إلی الحروب المذهبیة الدینیة بین کاتولیک وبروتستانتیة. لذا، إن مدلوله اللغوي، یرادف کلمة «الصفح» و«العفو عند المقدرة»؛ فهناک نوع من عدم التوازن أو التکافؤ بین «المتسامح» و«المسموح له»؛ أي علی الرغم من أهمیة التسامح، لکن یعکس من جانب آخر علاقة هرمیة منظمة ومبنیة علی منطق القوة؛ قوة الصفح والعفو. فالمتسامح إما من له المقدرة أو منطق ما یسمی بالأکثریة المتسامحة مع أقلیة دینیة أو طائفیة، أو هناک أقلیة ذات سلطة ثقافیة أو دینیة أو عرقیة، تتسامح مع الغیر المختلف من باب المسامحة والمرحمة.
ولكن على الرغم من ذلك، فإن البعض تختلط لديهم الفروقات والتباينات بينها، مما يستدعي فرزها. لذا لابد أن نسأل ما التعايش؟ علی الرغم من أن مفهوم التعايش متداول وشائع في الفلسفة السياسية المعاصرة، لكن قلما التفت إليها الفلاسفة بشكل واضح وخاص. في حين أن تداول هذا المفهوم، يعود إلى زمن الحرب الباردة بين ما يسمي “بالمعسكر الرأسمالي” بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، و”المعسكر الاشتراكي” تحت مظلة الاتحاد السوفياتي سابقا، ولكن في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، استخدم لأول مرة في مجال بناء سلام على مستوى العلاقات الدولية لحل النزاعات بطريقة سلمية (Dictionary Boss, 2010) .
وتحديدا، يمكن القول إن التعايش عبارة عن “عملية تأتي بعد القبول والاعتراف بالآخر بين مجموعتين أو أكثر والقناعة التامة بأن يعيشوا مع بعض وباحترام التعددية الفكرية أو العرقية، وأن يحلّوا مشاكلهم عن طريق الحوار واللاعنف” (Dictionary Boss, 2010)؛ أي نتيجة معرفة قبلية (ماقبل) ضمن عقد وتفاهم حر متبادل ما بين طرفين أو أطراف شتی. وشرط المشاركة هو حق الاختيار والاستقلالية؛ لأن التعايش نتيجة التواجد مع البعض في نفس المكان والزمان (Oxford, 2000, p. 287). علی الرغم من أن هذه الحالة الوجودية قلما تؤدي إلى الوئام والسلام، ولكن من حيث التطبيق، هناك نوعان من التعايش:
1- التعايش النشط: (Active Coexistence) هذا النوع یعكس نوعية العلاقة من حيث الاعتراف والاحترام للتعددية والتصرف كمبدأ أخلاقي، وتعطي حق استخدام الفرصة في الحياة الكريمة؛ أي إن التعايش عبارة عن مشاركة فعالة من خلال المؤسسات والدوائر التي تشجع هذا النوع من التعايش.
2- التعايش السلبي أو غير الفعال: (Negative Coexistence) هذا النوع يعطي صورة عن العلاقات غير السوية ووجود عنصر القوة، ربما لايوجد أي صراع أو نزاع عنفي بين المجموعات ولكن لا توجد المساواة واحترام الآخر؛ لأن المؤسسات غير فعالة في تطبيق مبدأ المساواة والاحترام المتبادل (Alive, 2010).
2-1 مفهوم “قبول الآخر”
قبل الشروع في توضيح مفهوم “قبول الآخر”، لابد من تعريف بكلمة “الآخر”؛ نعني بالآخر الإشارة إلى الكائن البشري الذي يختلف عن “أنا” من كل النواحي الثقافية، والدينیة والعرقية … إلخ (Blackburn, 2005 , p. 264). علی الرغم من أن «كانط» لم يتطرق إلى مفهوم الآخر؛ لأن مصطلح “الآخر” حديث في الفلسفة، إلا أن هذا لا يعني أن «کانط» نسي أهمية “الغير أو الآخر” في فلسفته؛ لأن قاعدته أخلاقية وكما سنوضح لاحقا، موجه إلى الذات الإنسانية، الكونية سواء أكان “الأنا” أم “الآخر”. فلذا قبول الآخر، يعني أننا نعترف بحقوق الآخر كما هو وعليه من دون فرض أنفسنا أو آرائنا واعتقاداتنا عليه.
إذن قبول الآخر، عبارة عن عملية أخلاقية تأخذ الآخر في الحسبان من حيث عدم التجاوز على حقوقه المادية والمعنوية؛ لأن أسس التعامل مع الآخر، هو الاعتراف الكلي “بذاتية الآخر” كما يعترف الواحد منا بذاته (Ricoeur, 1992, p. 23). بتعبير آخر؛ إن الرؤية الفلسفية تستوجب اعتبار الآخر كـ”الأنا” و”الأنا” كالآخر تماما (Levinas, 2005, pp. 119-148)؛ لأن “الآخر” له ذاتية إنسانية، والتي تشاركني في وجودي في هذا الكون. لذا، «الذات الإنسانية» هو القاسم المشترك بيني وبين الآخرين، مهما كان لونهم ودينهم وعرقهم ولغتهم (Taylor, 2003, pp. 32-33).
2- التعايش استجابة وجودية للحياة:
كما تبين، أن احتياجات الإنسان وضرورياته، تتعدى الحاجات المادية البحتة. نظرا إلى حقيقة جلية بأن هناك ضرورات أخرى تتجاوز أهميتها بأضعاف الاحتياجات الأولية والأساسية المادية في الحياة البشرية؛ فماهي هذه الضرورات؟
الرفاهية: وهي تغطي الجانب المادي والمعيشي من دون فرق بين فرد أو آخر؛ لأنها تمس الذات الإنسانية.الحرية: حرية الاختيار وتقرير المصير والوصول إلى مصادر العيش والراحة النفسية والروحية.العدالة: أي تقسيم الموارد والدخول والحقوق مع الواجبات في المجتمع. هذه الضرورة بحاجة إلى التوافق والتعايش؛ فمن دونها، ينعدم التفاهم.
الأمان والاستقرار.لابد من الإشارة إلى حقيقة؛ أن بعضا من الفلاسفة قد أشاروا إلى الحاجات الضرورية للإنسان من منظورات شتى وحسب تعابير خاصة لديهم، مثلا يرون بأن حاجة الفرد تشمل: الحاجات العقلية والجسدية، الأمن والأمان، التفاهم والتعايش، الحرية، تواصل وعلاقات اجتماعية مبنية على الاحترام المتبادل (Reader, 2005, p. 257). علی الرغم من اختلاف التعابير ما بين الفلاسفة على حدة، وما بين الفلاسفة وعلماء النفس، إلا أن الفروقات ليست جوهرية؛ لأن الفلاسفة عبروا عنها حسب ترتيب معياري وصنفوها بالحاجات الضرورية والحيوية والكمية والنوعية (Reader, 2005, p. 257)، لكن المحتوى يبقي نفس الشيء وبنفس الأهمية؛ إذن الفروقات ظاهرية أكثر من أنها متضادة.
لكن علی الرغم من أن الاحتياجات الأساسية تبدو بديهية ضمن أطر الحياة الاجتماعية لكل فرد، والذي لايمكن إنكارها مطلقا. إلا أنها لا تترجم إلى الواقع، بسبب الصراعات والأهداف السياسية والدينية والعرقية والطائفية والعشائرية، وقبل كل تلك الأسباب نذكر الطبيعة الإنسانية المتمثلة بالأنانية، التي تعرقل إمكانية الوصول إلى الاعتراف والتسليم بهذه الضرورات البديهية للآخر على وجه الخصوص. لكن وجود الصعوبات أمام التعايش لا تعني بعدم إمکانیة وقوعه؛ لأن كافة الأنظمة الديمقراطية والمنفتحة، تنطلق من إمكانية التصالح والتعايش والتسامح. وبالتالي، لأن حياة بني البشر تعتمد كليا على الاحتياجيات الضرورية وتلک الحاجة توجب التعايش وقبول الآخر؛ لأنه من غیر التوافق والتعايش تصبح الحياة شبه مستحيلة.
3- الأسباب التي تعرقل التعايش:
كما تبين مما سبق، أن حاجة الإنسان للرفاهية والحرية والعدالة والأمان ضرورية بلاشك، فأين تكمن المشكلة إذن، إذا أقر كل ذي عقل سليم بأننا على الرغم من تنوعنا في الدين والعرق والقومية، لايمكن أن نختلف على ضمان هذه الضرورات، إذا أردنا معرفة الأسباب على سبيل الافتراض؟ ولعل هناك سببین:
أولا: أن الاختلاف والتمايز العنصري والديني ينتج عنه واقعا تصعب إدارته. صحيح أن الاختلاف في هذه النواحي له خصوصيته وخصوبته، إلا أن تداعيات ذلك من شأنها أن تثقل كاهل إدارة الوضع من الناحية الدستورية والقانونية والنفسية والاجتماعية، بسبب ظهور مشاکل متراكمة وآثار مترتبة عن سياسات عنصرية.
ثانيا: عدم وجود قدر كاف من الوعي والعزم لإدارة الصراع والخلافات، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تحويل الوضع من حالته السوية إلى حالة إقصاء الآخر وتصفيته وعرقلة برامجه التنويرية بصدد مسألة التعايش وقبول الآخر.
بعد التمعن في السببین أعلاه، نجد أن جوهر المسألة تكمن في السؤال الآتي: إلى أي مدى تنجح إمكانية التعايش؟ هل يكون التعايش في بیئة إنكار حقوق الغير واقعا؟ هل القبول بالآخر في مجتمعات كهذه يمكن أن ينجح وإلي أي مدى؟
بالطبع، إن الإجابة عن هذه الأسئلة ليست سهلة ولا ذات جانب واحد؛ لأنها تتعلق وتعتمد علی عدة أمور منها:
– قدرة النظام الإداري والاجتماعي على ترتيب وتقريب حلول الفروقات دستوريا وقانونيا؛- مدى وعي المسؤولين وقدرتهم على تطبيقها وإقناع الغير بجدارتهم وجديتهم وصدقهم في نفس الوقت؛
– إنها تتوقف أيضا على الأطراف المتخاصمة وإرادتهم للوصول إلى بديل أفضل وأمثل لتحقيق مبادئ التعايش؛
4- آراء حول إمكانية التعايش علی الرغم من مخاطر الوقوع في السطحية عند تحليل مشكلة التعایش وأسبابها: فإن الجواب عن هذا، ينطوي على رأيين مختلفين ومتعارضين:
الأول: لايمكن التعايش في بلد فيه أعراق وقوميات وطوائف مختلفة ومتضادة؛ لأن الفروق تنفي حق وجود الآخر؛ أي وفق معادلة من نوع “إما أنا” أو “أنت”، وليس “أنا” و”أنت” في نفس الوقت. فالأنا ينفي حق وجود الآخر، الذي لايشابه تفكيره أو لايشاركه في الاعتقاد (Huntington, 1993, p. 22).
إن هذا الرأي، يحكم على الوضع ظاهريا، ويشخص الفروق العرقية والدينية والثقافية والحضارية؛ أمر جوهري في الحياة الاجتماعية لايمكن تخطيها، كما إنه يرى أن التماهي بين هوية “الأنا” و”الآخر” شرط وجوبي ووجودي للتعايش. في حين أن الفروق والتمايزات في الحقوق والحريات ناجمة عن سياسات الإقصاء والنفي التي تؤمن بوحدة كيان سياسي واجتماعي، شرط محو الفروق الموجودة.
الثاني: نعم، يمكن التعايش، ولكن بعد صعوبات ناجمة داخل العملية نفسها مثل كيفية إجراء التنظيم والتنسيق بين الأطياف المختلفة التي تملك حق الوجود والمصير، كما إنه من الممكن تحقيق السلم الاجتماعي نتيجة التعايش وفق مبادئ مشتركة ووصول إلى الحل الوسط (Benhabib, 2002, pp. 178-86). هذا الرأي متداول بين أصحاب مدرسة “تعدد الثقافات “(multiculturalism) التي تتبنى فلسفة الاختلاف (Diversity philosophy) كأساس للتعايش.
وهنا نبین، أن لكلا الرأيين نقاط قوة وضعف، لكن علی الرغم من ذلك، هناك إمكانية للتعايش تعتمد على مدى الالتزام بثقافة التسامح والتعايش وتطبیق آليات ومناهج العمل به وفق مبادئ أخلاقية رصينة، كما تعتمد أيضا على حرية الإرادة وقبول الآخر؛ ذلك أننا لا يمكن أن ننفي حقوق الغير معرفيا، التي تم ذکرها؛ لأن “لغة الحقوق” لغة عالمية – كونية لاتنحصر ولاتقتصر على عرق وقوم دون غيره. وفضلا عن ذلك، لابد من مراعاة الحقيقة البديهية، والتي مفادها أننا لا يمكننا نفي وجود الآخر من حياتنا؛ لأن هوية الذات، أو “ذاتيتنا” كإنسان بقدر ما تعتمد على الرؤية الداخلية لأنفسنا، فإنها تعتمد أيضا على اعتراف الآخر بـ”هويتنا”. بغية الحصول على توضيح أكثر لهذه المفاهيم الشائكة. نرجع إلى «كانط» ونظريته الأخلاقية وإمكانية التعايش.
4- فلسفة «كانط» للتعايش
كما بينا سابقا، أن کثیرا من الباحثين عند الحديث عن التعايش والتسامح، رجعوا إلی فلاسفة مثل “لوك، ليفيناس، ريكور وهابرماس”، بینما لانجد محاولات فلسفية تناولت حلد محاولات فلسفية تناولتألة، فا”کانط” لهذه المسألة. ويبدو أنه مهما كانت آراؤهم مهمة في هذه المسألة، فإنه لاتنطوي على تحد فكري للباحث الجدي في مجال الفلسفة. إن التحدي الحقيقي، إنما يكمن في تقديم تفسير جديد لمقولات “کانط” حول هذه المسألة، وليس اجترارا لما قاله الغير. نحن نرى أن «كانط” مصدر أصيل وله أسبقية على غيره في تعاطيه لمفهوم التعايش، خاصة إذا فسرنا مفاهيمه الأخلاقية على هذا النحو. في هذا المجال جدير بالذكر هنا كتابه الشهير “أسس ميتافيزيقا الأخلاق” علی الرغم من صعوبته، إلا أنه بمثابة بيان أخلاقي تناول فيه أطروحات قيمة، ولاسيما أن «کانط» حاول تأسيس مبادئ أخلاقية بصورة منهجية ومنطقية لتناول المشكلة، خاصة وأنه فسر معنی علاقة “الأنا” بـ”الآخر” على نحو إيجابي.
من الواضح، أن الكلام عن علاقة الأنا بالآخر مرتبط بمفهوم “الهوية”، حیث إن الأخلاق جزء لايتجزأ من هوية الإنسان، كما أن الهويـة الخلقية لـ “أنا” تشتمل علی اختيار وقرار عقلاني كأساس للعمل والفعل والسلوك؛ بمعنى آخر، إن الفاعل الخلقي (Agent) يطلب أن يكون صاحب قرار وحرًّا في الاختيار وفي تصرفاته. “الأنا” هنا، هو “أنا” كوني وعالمي؛ أي يشمل كل شخص عاقل وحر، خارج التحديد الزمني والمكاني. هذه الخاصية تصبح بالتالي بمثابة تعريف عام لصاحب الهوية الخلقية، والتي تشمل كل كائن إنساني. ولكن هناك نقطة مهمة مفادها أن الذي يحدد هوية “الذات”، “الأنا” ليس فقط صاحبها، وإنما الآخرين أو الآخر وهذا من خلال اعترافه بـ”هويتي”. فإذن الهوية اعتراف متبادل بيني وبين الآخر.
وبالتالي يمكننا القول: إن وجود “الأنا” من دون “الآخر” غير ممكن؛ لأن قولي “أنا” إنما يدل على تميز ذاتي من غيري. لذا “الآخر” شرط وجودي لذاتيتي الإنسانية؛ هذه المعادلة الوجودية لا يمكن نكرانها. إذن فالمسألة تتعلق باعتراف “حقوقي” تجاه الغير في الحياة السياسية والاجتماعية، وهذا الاعتراف يمر عبر حرية الإرادة والاختيار، كي يكون الفرد أو الأنا مسؤولا عن أفعاله وما يصدر عنه؛ فالحرية عند “كانط”، تدل على التنوير الذاتي. والتنوير ليس إلا تحرر الفرد من الوضع أو الحالة التي وقع فيها نفسه، إما بسبب ذاته أو بسبب غيره (کانت، 2008) & (Kant, 1997).. لكي یکون الإنسان متنورا، لابد أن يقرر بنفسه ويختار بحرية. فالتنوير ليس غير ذلك. ومن هنا، فالحرية شرط ضروري للأنا وللآخر على السواء. لذا، فالحرية في تقرير المصير الذاتي للأنا مقابل الآخر، تدل على هوية مستقلة. ولكي أنظم كيفية ونوعية العلاقة مع الآخر، لابد من وجود مبدأ أخلاقي موضوعي يضمن ويؤسس هذه العلاقة. وبالتالي يمكن توضيح رأي “كانط” على النحو الآتي:
1- لابد أن نعترف بالحقیقە التالیة: إن الإنسان كائن ذو هوية ذاتية، وهو أيضا غاية بحد ذاته؛ أي إنه كائن حر، لايعامل كوسيلة أو ذريعة لأي شيء ولأي غاية مهما تكن (كانط، 2002، صفحة 106). بهذا المعنى، فإن الحرية والهوية تعنيان التنوير، ولأن شرط تكليف الفرد هو حرية الإرادة والمسؤولية المترتبة عليهما (الطويل، 1960، الصفحات 241-234).
2- علی وفق القاعدة (maxim) أو القانون الأخلاقي الذي يرد في ميتافيزيقا الأخلاق، تعد المساواة لكل فاعل أخلاقي، سواء أكان فردا أم جماعة، شرطا (كانط، 2002، صفحة 93)(Willemse, 1992, p. 27)&. ويقول “كانط” في هذا الصدد؛ لاتفعل الفعل إلا بما يتفق مع تلک المسلمة الأخلاقية التي تمكنك في نفس الوقت أن تصبح قانونا عاما (كانط، 2002، صفحة 93).
خلاصة القول، إن الاعتراف بحقوق واستقلالية المرء علی وفق قانون أخلاقي «كانطي»، بوابة للتعايش. فالتعايش وقبول الآخر، من دون قانون التعایش “الكانطي” إن صح القول، يعد مختلا، كما إن معادلة “الأنا” و”الآخر” تحتاج إلى نوع من التقارب من خلال الاعتراف المتبادل، وإقرار حقوق الغير عن طريق الحوار ومعرفة مسبقة (قبل) “للآخر”. إذن؛ هذه المعادلة عبارة عن قناعة أخلاقية لتنظيم التعامل بين الأنا والآخر، علی الرغم من أن «كانط» حين يتحدث عن مبدأ أخلاقي، يبدأ بمراحل وخطوات برهانية وإثباتات حتميـة، انطلاقا من معرفة عقلية مشتركة بين “الأنا” و”الآخر” حول سلوك الإنسان وصولا إلى معرفة فلسفيـة لكيفية التعامل؛ أي توفر معرفة جيدة حول كيفية وجذور هذه العلاقة. بعد ذلك ينتقل من مستوى المعرفة الشعبية السطحية للأخلاق إلى مستوی”المعرفة الميتافيزيقية” المتعالية، ليصل في نهاية المطاف إلی نقد عقلي خالص؛ لأن الهدف هو كيفية ترجمة القانون الأخلاقي للفعل (كانط، 2002، صفحة 34).
إذن يرى «كانط» أن التعايش له مكانة خاصة وأولية في الحیاة. فإرادة الخير العظمی في الحیاة، هي إرادة نابعة عن التعايش. لذا يقول: “تصرف لتحقيق هذه الغاية والخير العلیا (Yovel, 1980, p. 33). فالغاية العظمی في الحياة، هي الخير الناتج عن التعايش وقبول الآخر. وهذا الخير يسبق “الوجود” أو الواقع في ذاته (Yovel, 1980, p. 53). إذن، الخير العظيم يختلف عن مفهوم “الخير” بشكل عام؛ لأن الغاية النهائیة في الحیاة والخير العلیا هما السعادة الإنسانية (Yovel, 1980, p. 53). لذا، فحرية الاعتقاد هو خير بذاته، ولكن الخير الأعظم هو؛ التعامل مع الغير علی وفق نفس القاعدة الخلقية التي تکفل وتضمن حرية الإرادة والتفكير للکل؛ أي التعامل بالمثل، يضمن التعايش وهذا لایتم من دون قبول الآخر. كما إن للذات، هو حر فقط، إذا تصرف وفق ملكة العقل (الحكم) (Kymlicka, 2002, p. 221)؛ لأن «العامل الخلقي» مقدم علی الوظائف والعلاقات الاجتماعية تقع علی عاتق الفاعل الخلقي.
لاننسي بأن «كانط» له كتاب آخر باسم “نحو سلام دائم” ألفه إبان الثورة الفرنسية ونشر في عام (1795) كمحاولة جادة للتنظير وتغيير مسار الحروب الداخلية الجارية بين دول أوروبا بعد صراعات طويلة الأمد (Kant I., 2004)؛ إذ يعد مشروعه، مشروعا فلسفيا بامتياز وکمبدأ للعلاقات الدولية حتى الآن. ومن الواضح أن هذا المشروع ينطوي على تفاؤل ذاتي، إلا أنه مبني على أسس منطقية ومعقولة؛ لأنه برأي «كانط» إذا أردنا إقرار وتثبيت السلام، لابد من نظرة واقعية حول الإنسان والكون على السواء ومصيرهما مربوط معا. لذا يعتقد كانط بأن الإنسان قادر من خلال طريق التربية والتثقيف أن يصلح أخطاءه ويتجنب الحروب وإنكار الآخر. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمكن ترويضه وإصلاحه. إذن التعايش ليس بمستحيل، ولكن يحتاج إلى أمر آخر: هو قبول الآخر.
5- الأنا والآخر ضمن واقع مشترك
إن المعادلة الفلسفية للتعایش ومن مظور «كانط»؛ “الأنا” و”الآخر” تبدأ باعتراف متبادل والاعتراف بحق الاختلاف كجزء من وجود “الأنا” و”الآخر”. وهذا يتحقق عن طريق الحوار ويتجسد فعليا في الواقع الاجتماعي والسياسي أيضا، كما لاننسي حقيقة أن الاعتراف المتبادل ضرورة نفسية ووجودية فضلا عن كونه حاجة سياسية واجتماعية؛ لأنه لاوجود حقيقي للإنسان، من دون حق الاعتراف به كفرد مستقل بذاته عن الآخرين. إذن النقطة المشتركة هي “المواطنة” كنقطة التقاء للتعايش وفق عملية تضمن الحرية وحق الحوار معا. فنتيجة الحوار هي القبول ومن ثم التعايش والتوافق، لکن بشرط أن یبقی الفروق- الاختلاف (الرأي والاعتقاد) كشرط للاستقلالية الذاتیة ل «الأنا» و«الآخر» علی السواء. وهذا کمنطلق للتفاهم وإقرار حقوق الغیر أو الآخر. إذن نرى من خلال «كانط» أن الغاية هي التعايش وقبول الآخر ضمن عقد وعهد توافقي.
لكن يبقى أمر آخر؛ هل التعايش الذي دعا إليه «كانط»، مسايرة الأمور أم مبني على قبول الآخر المختلف؟ ولتوضیح هذا السؤال، لابد من التأکید علی الفرق الجذري بین مفهوم التسامح والتعایش الذي بیناه سابقا. إذن، التحدي الذي یواجه المجمتعات والنظم المعاصرة هو التحول من التسامح في ثوبه الدینی القدیم إلی التعایش کمبدأ للحوار والاعتراف المتبادل بآخریة الآخر المختلف عن هویة «الأنا». فالتعایش لیس خیارا اضطراريا وتکتکيا، وإنما ضرورة وجودية للتواجد معا؛ لأن البعد الوجودي للتعایش التشارکي في الوجود الذي یضمن الاختلاف والمشارکة في الوقت نفسه. فالتعایش ضرورة العصر ولیس حالة اضطراریة ناتجة عن التهدیدات والخوف من نشوب الحرب العرقیة والطائفیة، بل التعایش السلمي کغایة للتواجد مع الآخرین.
6- هل التعايش مسايرة أم قبول؟
وبناء علی ما ناقشناه آنفا، یتبين بوضوح أن «كانط» يعتبر التعايش أمرا ممكنا، وأن بمقدور الكائن الإنساني التعامل مع غيره علی أسس أخلاقية ومبادئ عقلانية وكونية وتشارکیة، لكن قد تختلط العبارات والمفاهيم في هذه المسألة. لابد من توضيح أمر مهم؛ التعايش السلمي والاختياري الذي يمر عبر قبول الآخر لايشترط المسايرة التامة؛ أي التخلص من الاعتقادات والقناعات “الذاتية” لدی الفرد تجاه الآخر، بل القبول، يعني الاعتراف بالتمایزات والتباینات وليس نسيانها تماما.
لأننا نرى بأن التعايش علی الرغم من أنه ضرورة أنطولوجية واستجابة للحياة المستقرة، فهو أيضا نتيجة حاسمة للتفاهم والتوافق حول بعض المسائل شرط عدم التدخل في اعتقاد الغیر أو فرض الرأي علی الآخر. وبتعبير آخر، إن التعايش ليس انعدام رأي خاص حول مسألة معينة، وإنما انعدام عائق في طريق التفاهم والتناغم الاجتماعي. لكن على العكس، فإن التعايش كمسايرة الوضع ومجاراته أو التنازل عن المعتقدات، هو عبارة عن تجارب ومعاناة مريرة وفهم قسري لحقيقة مزدوجة مفادها أن لا مخرج للجميع، إلا من خلال العيش سوية؛ أي ليس اختيارا ذاتيا، وإنما حالة اضطرارية وقسرية تطلب التسامح وبسبب عدم وجود بديل آخر. القناعة ليست ذاتية وليست نابعة عن تفاهم، وإنما مداراة ومسايرة الوضع لكيلا تسيء الأمور، علی الرغم من انعدام الارتياح والقبول الداخلي. إذن، الظروف الموضوعية هي التي تقرر هنا، وبالتالي تؤمن مساحة مشتركة، وليس الأمر بدافع من رغبة ذاتية للتعايش المشترك كمصير لإنسان.
لذا التعايش كاختيار ذاتي وقبول الآخر كعملية أخلاقية وفق مبدأ الاختلاف والحرية والمساواة، وإيجاد حلول مشتركة للوجود الاجتماعي لكل فرد وجماعة تختلف كليا عن المسايرة. لذا لا يشترط عدم وجود نقد علی الآخر، بل إن القبول يعني، أن أقبل رأيك كما هو في حياتك دون المساس به، وبالمقابل تعترف بنفس الحق تجاهي كمبدأ وواجب أخلاقي واجتماعي وليس كتكتيك سیاسي.
من هنا نستطيع القول، إن نظرة “كانط” یمکن أن تصاغ بالتعبیر التالي: “ان أخلاقية التعايش تحتاج إلى قاعدة ذهبية ضروریة: العقل وحده صاحب القرار لحسم الخلافات واقتراح حلولها. فالحرية والمساواة للجميع كقانون كوني مطلق والاعتراف بهذا، يعني قبول الآخر کما هو. ومن هنا، ينبثق من مفهوم «كانط» مبادئ وأسس أخلاقية وسياسية واجتماعية کونیة أيضا لتحقیق التعایش السلمي ولیس القسري.
الاستنتاجات:
لاشک في أن التعایش وقبول الآخر لیس بالأمر الهین، خاصة في هذا العصر المليء بالتحدیات المختلفة. وبما أن الحل السیاسي المطروح يشکل أیضا اعتراضات وانتقادات شتی، لتعقده نظریا وصعوبة تطبیقه، خاصة في مجتمعات متعددة الأعراق والأدیان. فقد ارتأینا طرح المشكلة هنا فلسفیا.وقد حاولنا في هذا المقال، قدر المستطاع تقديم المفاهيم الضرورية لحل مسألة التعايش وقبول الآخر وطرح أفكار بديلة ومثمرة لكيفية التعامل مع هذا الموضوع. ومن خلال تفسير جديد لفلسفة «كانط»، نصل إلى جملة استنتاجات أهمها:
1- أن عدم قدرة المجتمعات للتعایش السلمي، تضعها أمام خیارات صعبة: إما حرب داخلية، والتي تؤدي إلی فوضی سیاسية وتفکک اجتماعي. وإما الاستبداد وسیطرة مجموعة علی الآخر والتسلط والشمولية.
2- إن التعایش شرط ضروري للدیمقراطية والحکومة المدنیة.
3- إن التعایش وقبول الآخر من المرتکزات الأساسیة في رسم خارطة سلمیة للتنوع العرقي والدیني والطائفي؛ لأن مفهوم «التسامح» بشکله التقلیدي ومن دون قبول «الآخر» لایفي بالغرض في المجتمعات المعاصرة.
4- إن التعايش بمثابة مؤشر أخلاقي في التطبیق العملي للتسامح.
5- التعايش عملية عقلانية وسلوک أخلاقي على السواء؛ لأنه لايتم من دون قانون أخلاقي كوني: تصرف بطريقة، حيث تكون تصرفاتك قانونا عاما كونيا.
6- والتعایش لايتم من دون الاعتراف بحق “الآخر” ورؤية “الذات” و”الآخر” على السواء. وهذا مبدأ أساسي لمفهوم الديمقراطية بلاشك، كما إن الديمقراطية لا تنجح من دون التعددية، ولا التعددية من دون التعايش، ولا التعايش من دون قبول الآخر. إذن قبول الآخر شرط وجودي لايمكن إغفاله في حياتنا كأفراد ومجتمعات ومعتقدات.
7- يرى «كانط» أن التعايش له مكانة خاصة وأولية. فإرادة الخير العظمی، إرادة نابعة عن التعايش، وبما أن الغاية العظمی في الحياة، هي الخير الناتج عن التعايش، فهذا الخير يسبق “الوجود” أو الواقع الموجود في ذاته.
8- وکما یعتقد «کانط» بأن حرية الاعتقاد هو خير بذاته، ولكن الخير الأعظم منه هو: التعامل بالمثل؛ أي التعامل مع الغير، علی وفق نفس القاعدة الخلقية التي تکفل وتضمن حرية الإرادة والتفكير للذات.
9- إن للذات العامل الخلقي المقدم علی الوظائف والعلاقات الاجتماعية الملقاة على عاتق الفاعل الخلقي، لذا هو حر فقط، إذا تصرف وفق ملكة العقل (الحكم).
10- إن أهمية التعايش، تكمن في الحقيقة، التي تضمن البيئة النفسية والجسدية اللازمة للأفراد والمجموعات أو المنظمات والجماعات؛ وذلك يتم من خلال تقليص الفجوة بينهم وحل النزاعات الطارئة بطريقة سلمية تضمن حق وجودهم وتواجدهم مع الآخر في نفس الوقت. في هذه الحالة، تكون العلاقات الجارية بين الفئات، بصورة اللاعنف؛ لأنها مبنية علی مبدأ المشاركة والوفاق في كل نواحي الحياة.
11- وفلسفيا يمكن القول إن “لا وجود سلمي من دون التعايش؛ لأن التعايش مع الآخر يسبق وجود الذات” (Reader, 2005). وحسب فلسفة «كونفوشيوس» المشهورة، إن الوجود الإنساني لا يكتمل من دون العلاقة التي تربطه بالآخرين (Tingyang, 2012)؛ لأن معنى أو قيمة الحياة، لا تستمد فقط من الوجود الجسماني، وإنما من المعاني المترتبة على وجودي ككائن يستحق الاحترام وحق التواجد مع الآخر في نفس الوقت.
12- كما إن التعايش نفسيا واجتماعيا، يؤشر إلى حقيقة اجتماعية؛ الحياة من دون الآخرين بلا معنی، كما يمكن أن يكون العيش معهم أن تجعل الحياة جهنما (بالتعبیر الـ «سارتري»)، طبعا إذا خلت عن الاعتراف حقوق الذات وحقوق الآخر(ین).
لنوزاد جمال حمه فرج.
مؤسسة مؤمنون بلاحدود-موقع حزب الحداثة.