حداثة و ديمقراطية

قراءة في كتاب الحداثة والهولوكوست.

ربما يكون كتاب “الحداثة والهولوكوست” هو أبزر الكتب النقدية التي ظهرت في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، ورغم الضجة الواسعة التي يثيرها الكتاب في الأوساط الفكرية الغربية منذ صدوره باللغة الإنجليزية عام 1989 في أكثر من أربع عشرة طبعة إلى الآن، ورغم ترجمته إلى عدد كبير من اللغات العالمية، فإن القارئ العربي لم تتح له فرصة قراءة هذا الكتاب باللسان العربي إلا قبل عدة أشهر عندما صدرت ترجمتنا العربية عن دار مدارات بالقاهرة. وقد يفهم القارئ العربي عزوف إسرائيل عن ترجمة مثل هذا الكتاب إلى اللغة العبرية على مدار ربع قرن من الزمان، وإن أدركت مؤخرًا تغير الظرف التاريخي، وظهر الكتاب قبل بضعة أشهر في عقر دارها وبلغتها المقدسة، لكن القارئ العربي ربما يجد صعوبة في فهم رفض المؤسسة الثقافية المصرية الرسمية ترجمة هذا الكتاب إلى العربية طوال هذه الحقبة الزمنية.

فمن المؤسف أن جماعة التنوير في مصر لم تسمع بهذا الكتاب والأطروحات النقدية التي ظلت مثار جدل واسع طوال التسعينيات من القرن العشرين وحتى يومنا هذا، أو ربما سمعت به وقررت أن تصم آذانها عنه، وأغلب الظن أن أبناء التنوير في مصر لم يسمعوا بهذا الكتاب، وإن سمعوا به فلم يقرؤوه، وما أظن أنه كان بوسعهم أن يقرؤوه ويتصدوا لما جاء به من أفكار وأطروحات تتعلق بجوهر رؤيتهم المعرفية للوجود الإنساني والسلطة السياسية.

قبل اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير بعدة سنوات، وبعد اندلاعها كذلك، تلقت جماعة التنوير مرات ومرات مقترحًا رسميًّا بترجمة كتاب “الحداثة والهولوكوست” إلى العربية، لكنها ظلت ترفض المقترح كلما قُدم إليها، فكان مصيره كل مرة إلى سلة المهملات. فقد أيقنت جماعة التنوير من خلال المقترح أن الكتاب يمثل تحديًّا مباشرًا وصريحًا لسلطتها المعرفية واحتكارها للمشهد الثقافي المصري لأكثر من نصف قرن من الزمان.

فالكتاب لا يفضح إسرائيل وحدها، بل يفضح في المقام الأول “أنبياء التنوير” وتورطهم مع السلطة السياسية، بل وربما تماهيهم مع الدولة المطلقة التي احتكرت معنى الحقيقة، وادعاءهم بأنهم أتوا برسالة سامية تتمثل في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن بربرية ما قبل الحداثة إلى آفاق التمدن والتحضر والرقي والحرية والتسامح.

تورط أهل العلم والثقافة

منذ ربع قرن من الزمان، خرج على أوروبا التي رآها عميد الأدب العربي طه حسين قبلة مصر ومستقبلها رجل من بني جلدتهم يقول لهم: “إن المحرقة النازية التي راح ضحيتها ملايين البشر ليست من صنيع هتلر وحده، فلا يمكن لرجل واحد، مهما أوتي من ملكات أو مهما أصابه من جنون أن يرتكب كل هذه الجرائم التي تأنف منها مملكة الحيوان نفسها، ولا يمكن أن يتحمل هتلر وحده المسؤولية كاملة، حتى وإن أصدر أمرًا كتابيًّا أو شفهيًّا لجنود الجيش وأفراد الشرطة والقوات الخاصة وغيرها بتنفيذ جرائم القتل، فهذا الأمر غير كفيل بإراقة دماء ملايين البشر دون تأنيب للضمير أو حتى إثارة الرأفة الحيوانية. لا تعتقدوا أن المحرقة كان من الممكن أن تكتمل دون جماعة التنوير، وأهل العلم والثقافة، وأهل التشريع والتأويل، وأهل الصحافة والإعلام، والفلاسفة وهيئة كبار العلماء. لقد ظلمنا هتلر بما فيه الكفاية، ولا يمكننا بعد اليوم أن نلوم هتلر وحده على ما حدث وما يمكن أن يحدث، فإلى متى نبرئ ساحة المؤسسات الثقافية والعلمية والإعلامية والبيروقراطية التي ساندت هذا الرجل؟ وإلى متى نبرئ ساحة المثقفين الذين وجدوا في جرائم هذا الرجل رسالة ثقافية حضارية ومحاربة للظلامية والماضوية؟ وإلى متى نبرئ ساحة رجال الدين الرسميين وغيرهم ممن أضفوا على هذه الجرائم صبغة شرعية؟ وإلى متى نبرئ ساحة الجامعات الليبرالية التي التزمت الصمت إزاء هذه الجرائم، بل وتعاون مثقفوها مع أجهزة الأمن في استبعاد مئات الآلاف من عالم الالتزام الأخلاقي؟ وإلى متى نبرئ ساحة أساتذة الفلسفة والأدب الذين أحيوا فلسفة “الكائن المستباح”، ذلك الكائن الذي كان الرومان يقتلونه بلا دية وبلا عقاب وبلا تأنيب للضمير لا لشيء سوى أنه – في نظرهم- يخالف السلطة الإلهية للدولة؟!”.

هكذا أربك باومان المشهد الفكري في أوروبا، وأخذ الباحثون يتساءلون من جديد: كيف للحضارة الحديثة التي أبدعت في عوالم الأدب والفلسفة والموسيقي والرقص والفنون الجميلة وشتى مجالات العلم والمعرفة أن تقترف مثل هذه الجرائم على أرضها وضد أبنائها؟ فكان الاعتقاد السائد أن ألمانيا سلكت دربًا خاصًا انحرفت به عن طريق التقدم الحضاري الذي سلكته أوروبا، وأن هتلر رجل مجنون استحوذت عليه مشاعر الكراهية ضد جماعات بعينها فقرر التخلص منها لبناء ما كان يعتقد أنه ألمانيا الجديدة التي ستدوم ألف عام. لكن باومان تصدى لهذا الاعتقاد وواجه معاصريه بالحقيقة المُرة، فأكد أن المحرقة لم تكن بالأساس مشكلة ألمانية، وكان من الممكن أن تحدث في إنجلترا أو فرنسا أو روسيا أو حتى في أمريكا، بل وما زالت المحرقة إمكانية كامنة في مجتمعنا الحديث المتحضر، وأنها يمكن أن تحدث في أية بقعة من بقاع العالم المدني المتحضر متى تماهت سلطة المثقف وسلطة الدولة.

فلم تكن المحرقة النازية نقيضًا للحضارة الحديثة وإيمان أنصار التنوير بحتمية التهذيب الحضاري لكل من يخالف المنظومة الحديثة بحلوها ومرها، لاسيما أسطورتها المحورية التي حاول التنويريون ترسيخها في الوعي الجماهيري العام، إنها أسطورة الصراع المصيري بين العقل والخرافة، والدين والعلم، والدولة القومية وأعدائها، وهو صراع يقوم على خطاب علمي حديث ويأخذ بأسباب التكنولوجيا والكفاءة التقنية والخطط المحكمة، بحيث يتباهى الموظف البيروقراطي ومثقف السلطة بأنهما قد أنجزا أعمالهما البربرية بمنتهى المهنية والحرفية وبأقل الخسائر الممكنة وفق خطط محكمة. وهذا الموظف أو ذاك المثقف لا يخامره شك بأنه يسير في الاتجاه الصحيح، وأن كل ما يحتاجه هو زيادة الجهد الحضاري للدولة بفرض قبضتها الحديدية، قبضة الدولة التنين التي نادى بها توماس هوبز منذ قرون. فسيادة الدولة القومية يعطيها الحق المطلق في ارتكاب جرائمها داخل أراضيها وربما خارجها، لاسيما أن الأمم المتحدة نفسها، من الناحية العملية، تدافع عن هذا الحق الأصيل وفق الظرف التاريخي الذي يخدم مصالح الدول، بل وربما تستضيف القائمين على الإبادة وتمنحهم الأوسمة والنياشين طالما أنهم فرضوا سياسة الأمر الواقع. ويكفي هنا أن نستشهد بمقولة الدكتور سرڤاتيوس، محامي أدولف آيخمان في أثناء دفاعه عنه إبان محاكمته في القدس بتهمة الإبادة الجماعية: “ارتكب آيخمان أفعالاً يُكرَّم المرء على أدائها إذا انتصر، وتنصب له المشانق إذا انهزم.”

الدولة القومية وثقافة التنوير المتطرفة

ساد الاعتقاد بأن صمت المثقفين هو الكارثة عندما انتشرت في الخمسينيات من القرن العشرين قصيدة منسوبة إلى راعي أبرشية يدعى مارتن نيمولر (1892-1984). وتمثل هذه القصيدة إدانة واضحة لصمت المثقفين وجبنهم، وتنطوي على تجربة شعورية قوامها الألم والحسرة، وبطلها التراجيدي هو المثقف الذي يلقى نهايته المأساوية بعدما لزم الصمت وهو يشهد تصفية جماعات ألمانية واحدة تلو الأخرى. تقول القصيدة:

في البداية جاؤوا للاشتراكيين، ولم أفتح فمي

لأنني لم أكن اشتراكيًّا

ثم جاؤوا إلى النقابيين، ولم أفتح فمي

لأنني لم أكن نقابيًا

ثم جاؤوا إلى اليهود، فلم أفتح فمي

لأنني لم أكن يهوديًّاثم جاؤوا إليَّ، وساعتها لم يبق أحد ليفتح فمه من أجلي

زادت حيرة الأوروبيين أشد حيرة عندما طل عليهم باومان يخالفهم اعتقادهم السائد بأن صمت المثقفين هو بيت القصيد، فأكد أن المحرقة في الأصل مشكلة حضارية تضرب بجذورها في ميراث حركة التنوير المتطرفة. فالهولوكوست وقعت في المجتمع الغربي العقلاني الحديث، وفي أوج مجد الحضارة الغربية، وفي ذروة الإبداع الثقافي الإنساني، ولهذا السبب فهي مشكلة من مشكلات المجتمع الغربي والحضارة الغربية والثقافة الغربية. لقد اتبع النازيون النخب الثقافية الغربية في عبادة العقلانية؛ فغرست الجامعات الألمانية الحديثة النموذج العلمي كنشاط منفصل عن القيمة الأخلاقية والإنسانية؛ وتعاونت المؤسسات العلمية الألمانية بكل سهولة في تنفيذ المهام النازية؛ وخضعت كافة جرائم الهولوكوست للتطبيقات العلمية والتكنولوجية، وقواعد الترشيد البيروقراطي، والإدارة العقلانية الحديثة. فلا يمكن فهم العلاقة بين الحداثة والهولوكوست دون إعادة قراءة فلسفات التنوير ومقولات أنصار الفلسفة العقلانية المادية؛ إذ صاحب حركة الاستنارة، كما يقول باومان، تأليه الطبيعة، وشرعنة العلم بوصفه دينها الحنيف، والعلماء بوصفهم أنبياءها وكهنتها.

في إطار المشروع الحداثي التنويري، يتحول المجتمع إلى بُستان، والدولة القومية الحديثة إلى بُستاني يسخر أدواته لأعمال البستنة، وتهذيب النبات، ومواجهة كل من يخالف النظام، ومن ثم شنت الحداثة حربًا ضارية على كافة مظاهر الاختلاف بقيادة الطاغية المستنير الذي نادى بضرورة التعامل مع أفراد المجتمع مثلما يتعامل الفلاح مع زراعة الموز والأناناس! ويتتبع باومان تطور هذه الصورة العضوية وعلاقتها بأيديولوجية العلم في القرن العشرين، ويؤكد أنها نموذج متكرر لدى الساسة والعلماء الذين لعبوا دورًا بارزًا في تشكيل العقل الغربي الحديث، لاسيما ريتشارد ڤالتير داريه وزير الزراعة النازي، وإرفين باور عالم الأحياء الشهير، وزميله مارتن شتاملر، والبروفيسور كونراد لورنتس المتخصص في علوم الحيوان والحائز على جائزة نوبل عام 1973. والصورة المجازية عند هؤلاء جميعهم تجعل من المجتمع البشري بستانًا أو عيادة طبية يتحول فيها أفراد المجتمع المختلفين إلى مرضى، أو حيوانات تفتقر إلى العقلانية ولا تتبع النظام، أو حشائش ضارة تعيش على النباتات النافعة. ومن ثم، يتولى العلماء والفلاسفة ورجال الدولة أعمال الزراعة والبستنة والتربية والتعقيم من أجل استئصال الحشائش الضارة و”الأورام الخبيثة” التي تضر بالصحة العامة وجنة المستقبل.

لم يكن ضحايا هتلر من الجماعات اليهودية وحدها، فكان من بينهم مئات الآلاف من المعارضين السياسيين الذين رفضوا ديكتاتورية هذا الرجل، فزج بهم في السجون والمعتقلات حتى قضوا نحبهم، وكان من بين الضحايا مئات الآلاف من المرضى، ومئات الآلاف من الغجر، ومئات الآلاف من الأسرى، ومئات الآلاف من الجنود الألمان أنفسهم الذين تعرضوا لإصابات خطيرة أثناء الحرب، فكان مصيرهم ما أطلق عليه النازيون “القتل الرحيم”. ناهيك عن تطبيق قانون التعقيم الإجباري على مئات الألمان ذوي الأصول الإفريقية عام 1937. فإن كان هتلر مسؤولاً عن شيء، فإن مسؤوليته تتعلق باستغلال جماعة الخبراء والعلماء والمثقفين الذين ساعدوه على اجتثاث أهم وصية جاء بها موسى وأثرت في الوعي المسيحي الغربي على مدار قرون: “لا تقتل!”.

فما من أحد يمكن أن يصف أعمال الدولة النازية بأنها كانت أعمالاً إرهابية أو متطرفة. فالإجراءات البيروقراطية التي اتخذتها كانت جميعها سليمة ودقيقة من الوجهتين العقلانية والفنية، فكان القطاع الذي يتولى عمليات القتل الجماعي يسمي “قطاع الإدارة والاقتصاد”، وكان هذا القطاع يتبع أفضل معايير السرعة والدقة والكفاءة؛ فلم يكن من قاموا بجرائم القتل جماعة من المجرمين أو المعتوهين أو منعدمي الضمير والأخلاق، بل كان معظم القتلة الذين شاركوا في الإبادة أناسًا أسوياء لهم القدرة على اجتياز أي اختبار نفسي مهما كان عسيرًا، لكن آلة الدعاية النازية ورموزها ومثقفيها استطاعوا أن يقضوا على الرأفة الحيوانية التي يتأثر بها كافة البشر الأسوياء عندما يشهدون أو يرتكبون أعمال العنف وإيذاء الجسد البشري، فضلًا عن تصفيته وإبادته أمام أعين الناس في الشوارع والميادين.

المثقف والقضاء على الرأفة الحيوانية

يذهب باومان إلى أن القضاء على الرأفة الحيوانية استلزم ثلاثة شروط. أولاً، تفويض استخدام العنف (في صورة أوامر رسمية عن جهات قانونية أو ربما دعوة الشعب إلى منح هذا التفويض). ثانيًّا، تنميط العمل (من خلال توزيع الأدوار وإقرار الانضباط). ثالثًا، تجريد ضحايا العنف من الصفات الإنسانية (من خلال وضعهم في قوالب أو مذاهب أيديولوجية جامدة أو توصيفهم بأنهم جماعات تخريبية إرهابية أو إلصاق بعض الصفات الشيطانية بالجماعة المستهدفة مثل العملاء أو المخربين أو الفوضويين في الخطاب السياسي أو الرجعيين والماضويين والظلاميين في الخطاب الثقافي التنويري). وهذا الشرط الثالث لا يتحقق إلا بتماهي سلطة المثقف وسلطة الدولة. فإذا تولى هذا المثقف التنويري منصبًا قياديًّا في تلك اللحظة، زاد الطين بلة، لأنه يتحول ببساطة إلى مجرد موظف، حتى وإن كان وزيرًا للثقافة، ففي هذه اللحظة يتمثل “شرف الموظف”، كما يقول عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، في تنفيذ أوامر السلطة العليا بكل إخلاص وإن كانت لا تتوافق وقناعاته العقلية، فهو ينكر مرجعية الضمير الإنساني أو يعلقها حتى ينتهي الظرف التاريخي بسلام، فيصير جنديًّا عسكريًّا في آلة عسكرية ضخمة، ولِمَ لا يفعل ذلك وهو يؤمن في قرارة نفسه بأنه يخرج الدهماء من الظلمات إلى النور؟ ولِمَ لا يفعل ذلك وهو يعلم علم اليقين أن رئيسه قد تكفل بالمسؤولية الأبوية الكاملة؟ أي مسؤولية القائد الأعلى أو الزعيم (الفوهرر بالألمانية) تجاه جميع مرؤوسيه، وهكذا وبكل سهولة يستطيع المثقف أن يبرر طرد الضحايا من عالم الالتزام الأخلاقي. فخارج هذا العالم لا تكون الوصايا الأخلاقية الإلهية أو البشرية مُلزمة، ولا وزن لها في تقييم أفعال الدولة وقائدها. فالمثقف له مهمة قتالية محددة تتمثل في كتم أنفاس الأخلاق وتوزيع أقراص النوم الأخلاقي، أما الحديث عن قدسية الحياة الإنسانية وحرمة الدماء فلا مجال له، بل إنه يثير السخرية والاستهزاء. وهذا أمر يضرب بمصداقية الجامعات الليبرالية المدنية التي تخرج فيها هؤلاء المثقفون، لاسيما كليات الآداب والفلسفة، فأية كلية فلسفة تلك التي تخرج فيها مارتن هايدجر وأقرانه؟! وأية كلية طب تلك التي تخرج فيها جوزيف منجل وأمثاله؟!

مباركة المثقف والدولة لفلسفة الكائن المستباح

في كلمة ختامية لطبعة عام 2000، يشير باومان في كتاب “الحداثة والهولوكوست” إلى الفيلسوف الإيطالي جورجيو أجامبن باعتباره أحد النقاد الذين يعكفون على فك شفرة الهولوكوست. ففي أعماله النقدية، يستكشف أجامبن المفهوم القانوني لما يسمى باللاتينية “الهومو ساشر” أو “الكائن المستباح” (homo sacer)، وهو مفهوم استحدثه القانون الروماني القديم ليشير إلى إنسان يمكن قتله دون عقاب. فحياة الكائن المستباح مجردة من كل السمات الاجتماعية والحقوق السياسية والأخلاقية. وربما يرى القارئ أن مفهوم الكائن المستباح لا وجود له في القانون الحديث وطوته صفحة النسيان. لكن أجامبن يؤكد أن هذا المفهوم يسود الواقع الإنساني في صور جديدة من خلال احتكار السلطة والعنف، والقدرة على إعطاء الحق في الحياة أو رفضه.

وفق فلسفة “الكائن المستباح” لا توجد سلطة أخلاقية فوق سلطة الدولة ومثقفيها الأوفياء، فلها الحق في إبادة جماعة من البشر باسم التقدم والأمن القومي. وعلى القارئ أن يتذكر دائمًا أن ضحايا المحرقة لم يقتلوا من أجل الاستيلاء على الأراضي واستعمارها في المقام الأول، بل لأنهم لا يصلحون لسبب أو لأخر لتأسيس جنة الكمال أو العيش فيها وفق الخريطة التي رسمتها الدولة المطلقة، ووفق خريطة المثقف المستنير الذي ارتدى ثوب الخطيب وأخذ يردد فوق كل منبر بأن الحضارة الحديثة معركة مقدسة للإنسانية ضد البربرية، والعقل ضد الجهل، والموضوعية ضد التحيز، والتسامح ضد التعصب، والتقدم ضد التخلف، والحقيقة ضد الخرافة، والعلم ضد السحر، والعقلانية ضد الانفعالات والعواطف. وفي هذه المعركة المقدسة، لا يأنف المثقف المستنير من مباركة خطط الدولة المطلقة ومركزتها للعنف والقهر، بحيث يتم إخفاء العنف الحقيقي من الحياة اليومية ويتوارى عن أعين الناس بعيدًا في مناطق منعزلة سواء في معسكرات نائية أو خلف الأسوار في قلب المدينة المتحضرة.

لم تعمل جماعة التنوير على تنمية التحرر الإنساني والقضاء على التحامل والجهل والخرافة والدوجماطيقا كما ادعت، وإنما أدت إلى “استعباد جديد”، و”إرهاب” و”معرفة احتكارية”. ويشبه باومان دور العلماء والمفكرين والمثقفين بدور أهل البستنة وأهل التشريع. وهذه الصورة المجازية تبين سلطة المثقف المتجاوز للواقع الإنسانى وقدرته على طرح نماذج معرفية تنظم الواقع المتغير المتدافع. وهذا الدور ليس دورًا إيجابيًّا على الدوام، لاسيما عندما يتماهى المثقف مع السلطة السياسية، ويتعامل مع الوجود الإنسانى باعتباره بستانًا يمكن دراسته ومعرفة القوانين التى يخضع لها، ومن ثم السيطرة عليه لصالح الدولة. وربما تستغني الدولة في لحظة ما عن خدمات المثقف، إن جاز التعبير، عندما تصل إلى مرحلة التمكين، فتصبح هى المُشرع الأول، بل والشرعية نفسها، وما دون الدولة فهو باطل لا شرعية له، بل هو شيطان الإبهام والإرهاب تجسد فى صورة إنسان لينتهك القانون والنظام وليزيد الفوضى والاضطراب. ولا عجب أن كتابات أنبياء التنوير مثل هولباخ وفولتير كانت تحتوى على كثير من العبارات التى تحقر من شأن عامة الشعب، وأنها كانت تعبر عن إيمانهم بأن التغيير يأتى من أعلى وليس من أسفل. فقد ظن فلاسفة التنوير أن بإمكان الإنسان التحكم فى الطبيعة والوجود الإنسانى بشكل كامل، ومن ثم الوصول إلى اليقين المطلق. وقد نجحت الدولة الحديثة فى تسخير كافة إمكاناتها وأدواتها لاقتلاع الحشائش والأعشاب الغريبة حتى تكفل للمجتمع حياة مستقرة وبناءً محكمًا لا تتحكم فيه الصدفة العمياء أو الإبهام أو الجمع بين الأضداد. ذلك بأن الحداثة لا ترضى بسقاية الأشواك من أجل الزهور، وإنما تسعى دومًا إلى اقتلاعها من جذورها لأنها غريبة عنها ضارة بها. ولقد أشار عبد الوهاب المسيرى إلى هذه الصورة المجازية عند معالجته لسطوة الدولة المطلقة فى المنظومة العلمانية، وأشاد بمقارنة باومان للدولة المطلقة بالبستاني الذى ينظم البستان ويقتلع الحشائش، وبالطبيب الذى يحدد معايير الصحة والمرض، وبالمهندس الذى يفرض على الفضاء المادي نمطًا معينًا من الطرق والجسور. والقاسم المشترك بين هذه الصور هو تبرير السلطة المطلقة فى تنظيم الوجود الإنساني واستبعاد العناصر الغريبة التى يمكن أن تضر بالفردوس الأرضي الذي ترسمه سلطة المثقف والدولة.

لحجاج أبوجبر.

منتدى العلاقات العربية و الدولية-موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate