التراجع السكاني سيغير العالم إلى ما هو أفضل.

مقدمة:

تُعدّ الأمريكية ستيفاني فيلدشتاين Stephanie Feldstein من أشرس المدافعين عن القضايا الإيكولوجية، حيث تناضل من أجلها على مختلف الجبهات، وخاصة الجبهة الاجتماعية والجبهة الأكاديمية. والشاهد على ذلك، هو أنها سبق ونشرت إسهامات علمية رصينة حولها. إلى جانب ذلك، نجدها منخرطة مؤسساتيا في منظمات حقوقية وبيئية، مثل جمعية الرفق بالحيوان في الولايات المتحدة the Humane Society of the United States، ونادي/جمعية سييرا The Sierra Club، فضلا عن مشاركاتها الميدانية في الوقفات الاحتجاجية وحضورها القوي إعلاميا للدفاع عن هذه القضايا.

إن القضايا الإيكولوجية عند الباحثة التزام اجتماعي وأكاديمي، حيث إن جل إسهاماتها تنصبّ حول إشكالية ارتفاع النمو الديمغرافي وتراجع باقي الموارد الأخرى، وخاصة تلك التي تشكل مركز ثقل وجود الكائنات الحية.

ويُعدّ هذا النص الذي نحاول من خلاله تقريب إسهامات الباحثة للمتلقي العربي، من أهم النصوص التي تُكثّف إلى حد بعيد الإشكالية المركزية التي تدور حولها جل الأعمال الأخرى، وخاصة أنه يسعى -بنفس تحليلي عميق- استجلاء خطورة النمو الديمغرافي على البيئة. وتُشدّد الباحثة على أنه لا سبيل للحد من هذه الخطورة إلاّ باتباع سياسة تحديد النسل أولا وعقلنة النمط الاستهلاكي ثانيا.

هذا التراجع سيؤدي إلى تخفيف الضغط الذي يمارسه ثمانية مليار شخص على كوكب الأرض. وبصفتي مديرة السكان والاستدامة في مركز التنوع البيولوجي Center for Biological Diversity، فقد رأيت الآثار المدمرة لبصمتنا المتزايدة باستمرار على النظم البيئية العالمية، لكن إذا استمعت إلى الاقتصاديين (وإيلون ماسك Elon Musk)، فقد تعتقد أن انخفاض معدل الولادات يعني موجة من الخوف الجماعي؛ لأن قلة عدد الأطفال يعني قلة العمال والمستهلكين التي تقود عجلة النمو الاقتصادي.

لكن يوجد في القصة ما هو أكثر من الدولارات، حيث يُضحّي نموذجنا الحالي للنمو اللامتناهي والأرباح قصيرة الأمد بالأشخاص الضعفاء ومستقبل الكوكب، يمكن أن يساعد تراجع عدد السكان في خلق مستقبل به المزيد من الفرص وعالم صحي غني بيولوجيا.

نحن على مفترق الطرق -ونقرر بعدها ماذا سيحدث. يمكننا الحفاظ على الوضع الاقتصادي الراهن ومواصلة السعي لتحقيق نمو غير محدود على كوكب محدود، أو يمكننا الانتباه إلى الإشارات التحذيرية لكوكب تم دفعه إلى أقصى حدوده، وكبح جماح كارثة بيئية، واختيار طريقة مختلفة لتحديد الازدهار الذي يرتكز على العدالة وعالم طبيعي مزدهر.

يحتاج كل شخص على هذا الكوكب إلى التغذية والماء والطاقة والسكن. وإذا أردنا زيادة المساواة في الثروة وجودة الحياة -كما ينبغي -فمطالب الفرد الواحد سوف تزداد، حتى مع وجود أفضل سيناريو للتنمية المستدامة.

على سبيل المثال، مع نمو عدد السكان والثروة في الصين، زادت كذلك مطالبها على هذا الكوكب. يبلغ نصيب الفرد من التأثير البيئي في الصين أقل من النصف في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن التأثير البيئي الإجمالي للبلاد يتجاوزه بمرتين، حيث إن الدولة مسؤولة عن إزالة ربع الغابات المستوردة وثلث انبعاثات الاحتباس الحراري في العالم.

يعد تخفيض الاستهلاك في البلدان ذات الدخل المرتفع أمرا ضروريا، ولكنه غير كاف في حد ذاته إذا استمر عدد سكان العالم في التزايد.نظرًا لتضاعف عدد السكان على مدار الخمسين سنة الماضية، انخفض عدد الحيوانات البرية بمعدل متوسط تبلغ نسبته 69 بالمائة. لقد قمنا سلفا بتغيير ما لا يقل عن 70 في المائة من إجمالي مساحة الأرض، تشير بعض التقارير إلى أن هذا الرقم يصل إلى 97 في المائة.

جردت أنشطتنا الحياة البرية من بيئتها، ودمرت النظم البيئية التي لا يمكن تعويضها.يُعد فقدان التنوع البيولوجي أمرا تراجيديا في حد ذاته.

إن عالما خاليا من الفيلة والسمندل المائي الكبير hellbender salamanders وملايين الأنواع الأخرى المعرضة لخطر الانقراض في العقود القادمة سيكون في حالة فقر شديد؛ فالنباتات والحيوانات البرية تغني حياتنا وتحافظ على تماسك النظم البيئية الحيوية.

والمياه العذبة التي نحتاجها للبقاء على قيد الحياة، والنباتات التي نعتمد عليها في الغذاء والدواء، والغابات التي نعتمد عليها للحصول على هواء نقي وتنحية الكربون، كلها نتاج تفاعلات معقدة بين أشكال الحياة التي تتشكل من الميكروبات والملقّحات إلى آكلات اللحوم وكل حيوان يتغذى على الجثث، عندما يتم سحب خيط واحد من هذا النسيج، يمكن للنظام بأكمله أن ينهار.

بالنسبة إلى أولئك الذين يقلقون أكثر بشأن الاقتصاد بدلا من الحياة على الأرض، يقدر البنك الدولي أن انهيار النظام البيئي قد يكلف 2.7 تريليون دولار سنويا بحلول عام 2030. وتقدر Deloitte أن الفوضى chaos المناخية قد تُكلّف الولايات المتحدة وحدها 14.5 تريليون دولار بحلول عام 2070 في تجاوبنا مع الضرر الجسيم المتكرر والمتزايد الناتج عن التقلبات الشديدة للمناخ، وحرائق الغابات، والتهديدات التي تتعرض لها المجتمعات والمزارع والشركات من الجفاف وحالة الطقس غير المتوقعة، بينما يفترض كثيرون أن تراجع عدد السكان سيضر حتما بالاقتصاد، وجد الباحثون أن معدلات الخصوبة الأكثر انخفاضا لن تؤدي فقط إلى خفض الانبعاثات بحلول عام 2055، ولكن دخل الفرد سيزيد بنسبة 10 في المائة.

عادة ما تشير معدلات الخصوبة المنخفضة إلى زيادة المساواة بين الجنسين. تميل النساء الأفضل تعليما إلى إنجاب عدد أقل من الأطفال في وقت لاحق من الحياة. هذا يبطئ النمو السكاني ويساعد على تخفيض انبعاثات الكربون، وعندما تتولى المرأة مناصب قيادية، فمن المرجح أن تقدم مبادرات لمكافحة تغير المناخ وحماية الطبيعة أكثر من الرجل. هذه النتائج هي آثار جانبية لسياسات ضرورية بغض النظر عن تأثيرها على السكان.

في الأماكن التي حدثت فيها هذه التغييرات الثقافية، لن يكون هناك مجال للتراجع. حتى في الصين، حيث تم مبدئيا تخفيض الخصوبة من خلال سياسة الطفل الواحد الصارمة، النساء لا ترِدن الآن التخلي عن حريتهن التعليمية والاقتصادية التي تم السماح بها للأسر الكبيرة.تراجع عدد السكان هو مجرد تهديد لاقتصاد قائم على النمو؛ فالتحول إلى نموذج قائم على انخفاض النمو والمساواة جنبا إلى جنب مع معدلات الخصوبة المنخفضة سيساعد على مكافحة تغير المناخ وزيادة الثروة والرفاهية.

إذا تراجع عدد السكان، فسيتعيّن على بعض الدول أن تتكيف مع شيخوخة المجتمع. إذا اخترنا تراجعا متعمّدا في عدد السكان الناتج عن زيادة الرفاهية، فيمكننا حينئذ التخلص من الخوف من تنظيم الأسرة وصنع مستقبل أفضل للناس والكوكب.

يجب علينا أن نختار بين السماح للاقتصاد القائم على النمو بتحديد مصير كوكبنا، أو التوقف عن الادعاء بأن الديمغرافيا والبيئة هما قضيتان منفصلتان.مع السيناريو الأول، سنجد أن اقتصادا يُغذّيه نمو سكاني غير محدود يجعل من الصعب بشكل متزايد معالجة الأزمات البيئية.

تكافح المجتمعات بالفعل في مواجهة حالات الجفاف المتفاقمة والتقلبات المناخية الشديدة وعواقب أخرى لاضطراب المناخ -والضغط السكاني يجعل التكيف أكثر صعوبة. سيؤدي تزايد عدد السكان إلى زيادة الضغط على النظم البيئية المتضررة، مما يقلل من مرونتها ويزيد من مخاطر التهديدات مثل الأوبئة وتصحر التربة وفقدان التنوع البيولوجي في دوامة انحدارية.

مع السيناريو الثاني -التراجع البطيء وكل ما هو مرتبط به -يمكننا في النهاية تخفيض ضغطنا على البيئة، والتكيف مع تغيّر المناخ، وحماية الأماكن الكافية للحياة البرية المعرّضة للخطر قصد توفير ملجأ وربما مكان للتعافي.لكن على الرغم من أن كيفية وحتمية التراجع السكاني سيكون له فوائد على السكان والأرض، فإن قادة العالم لم يبذلوا جهدا كبيرا للاستعداد لعالم يتجاوز نموذجا قائما على النمو اللامحدود.

إنهم بحاجة إلى الاستعداد لشيخوخة السكان الآن مع إعادة تنظيم هياكلنا الاجتماعية والاقتصادية نحو تخفيض النمو. وفي الآن ذاته، يمكن للهجرة أن تساعد في التخفيف من حدة بعض الكوارث الديموغرافية من خلال استقطاب الشباب إلى البلدان التي تعاني من الشيخوخة.يجب على الحكومات الاستثمار في الرعاية الصحية، ودعم مُقدّميها، ومساعدة الأشخاص الذين يرغبون في العمل لفترة أطول على فعل ذلك، وإعادة تصميم الجماعات لتلبية احتياجات السكن والنقل والخدمات لكبار السن.

نحتاج إلى تحريك اقتصادنا نحو اقتصاد يمكن أن يزدهر فيه الناس والطبيعة. هذا يعني تدبير الاستهلاك، وإعطاء الأولوية للرفاهية الاجتماعية والبيئية على الأرباح، وإعطاء قيمة للتعاون والاعتراف بالحاجة إلى مجموعة من الحلول الاجتماعية. هذه الممارسات موجودة بالفعل – في برامج المساعدة المتبادلة والتعاونيات المملوكة للعمال – لكنها يجب أن تصبح أساس اقتصادنا بدلا من أن تكون استثناء.نحتاج أيضا إلى الجمع بين حركات حقوق الإنجاب والمساواة بين الجنسين، والحركة البيئية.

إن التسمم البيئي، والصحة الإنجابية وحماية الحياة البرية مترابطة بشدة. فالتلوث وتغير المناخ والأنظمة البيئية المتدهورة تلحق الضرر بالحوامل، والأجنة والأطفال، وتجعل من الصعب تنشئة أسر آمنة وصحية.أخيرا، نحن نحتاج إلى ما توصلت إليه أحدث تقارير الأمم المتحدة عن المناخ والتنوع البيولوجي، حيث طالب دعاة الحفاظ على البيئة وعلماء المناخ وصنّاع القرار السياسي لعقود من الزمن: بالانتقال السريع والعادل إلى الطاقة المتجددة ونظم التغذية المستدامة والالتزام الدولي من أجل الإيقاف الفوري للانقراضات التي سبّبها الإنسان.

إن الاستقرار السكاني وتراجعه سيتحققان حتما من خلال التركيز على حقوق الإنسان. يجب على صنّاع القرار السياسي ضمان الاستقلال الجسدي والوصول إلى رعاية صحية إنجابية ومساواة بين الجنسين، وتعليم النساء والفتيات.من خلال معالجة الأزمات التي نواجهها، وتمكين الجميع من تقرير ما إذا كان سيتم إنجاب الأطفال ومتى، والتخطيط لتراجع عدد السكان، يمكننا اختيار مستقبل الوفرة المستدامة.

ليوسف الطاسي، عبد الغفور العروصي.

مؤسسة مؤمنون بلاحدود- موقع حزب الحداثة.