صاعداتٌ إلى الحرية..نساء انتفاضة السويداء

لم يسأمنَ بعد من الحضور الباكر إلى ساحة الاعتصام الرئيسية لخمسة أسابيع متتالية، ومن دون انتباهٍ كافٍ منهن يكون حضورهنَّ ذاك أشبه بالمركز الذي يتحلّق حوله المتظاهرون بمجرّد وصولهم إلى ساحة الكرامة بعد العاشرة من صباح كلّ يوم.

أكثر النساء المشاركات في احتجاجات السويداء الحالية هنَّ من الناشطات السياسيات، أو من ناشطات المجتمع المدني، ألفنَ الالتصاق بالعمل السياسي، وخبرنه جيداً في ما مضى، كنَّ ينتظرن أن تُعبّدَ لهنَّ الحياةُ طريقاً آمناً إلى حراكٍ سياسي كالذي يعشنَهُ اليوم، لا خوف فيه من الاعتقال، ولا أسئلة كثيرة تطرق باب قلقهن، كما كانت تفعل في احتجاجات سابقة شاركنَ فيها.

تتقاسم براءة يومياتها في الحراك مع فرح كثير، ومع صديقات اعتادت وجودهنّ إلى جوارها على مرّ سنوات مشاركتهنّ الطويلة بالحياة السياسية داخل السويداء.

راقية: انتفاضة في كل مناحي الحياة”

هذه الانتفاضة هي مصدر فرح حقيقي” للناشطة السياسية راقية الشاعر، المهندسة التي فصلها النظام من وظيفتها الحكوميّة هذا العام من جرّاء مواقفها المعارضة له.

تقول إن ليلها اتصل بنهارها منذ بدء احتجاجات السويداء الأخيرة ضد نظام بشار الأسد، والتي استعاد الناس من خلالها، بحسب رأي راقية، “صورتهم الآدمية الرافضة لسيل المهانةِ والإذلال النابع من السلطة القائمة”.

راقية لا تنام، تستيقظ في الخامسة صباحاً، ترتّب خريطة يومها مع فنجان قهوتها، ثم تمارس رياضتها الاعتيادية، وتقصد ساحة التظاهر. تقطع ثلاثة كيلومترات مشياً لتلاقي أصوات المحتجّين في قلب المدينة، تقول: “قبل الانتفاضة الحالية، كنّا نرى وجوه الناس تبدو يائسة، فاقدة لجذوة الحياة. كانوا أشبه بالأموات، أيامهم متماثلة، رتيبة، لا تنطق بالحياة، ولا حتى تقاربها، لكنهم، ومنذ انتفاضتهم، باتوا أكثر إشراقاً كمن نفض الموت عنه ونهض واقفاً، كأنهم قاموا من بين الأموات”.صف راقية هذه الانتفاضة بـ”الانفجار الذي طال كل مناحي الحياة تقريباً، بالإضافة إلى ما حملته من أفكار جديدة، وإبداع حقيقي لم يكن ملحوظاً في ما مضى”. وتضيف: “ما إن ينتهي الحراك، حتى نتوجه إلى عقد بعض الاجتماعات، ومناقشة ما يحدث، والتخطيط للخطوات المقبلة، هذا عدا عن المداخلات التي قد نقوم بها مع بعض المحطات الفضائية المهتمة بأخبار انتفاضة السويداء”.

قبل مدة، دعت راقية إلى وقفة احتجاجية نسائية، رتّبت أن يكون موعدها بعد الخامسة مساءً، في ساحة الكرامة، تحت اسم “ضد كمّ الأفواه والمطالبة بالمعتقلين”.

جاءت النساء المشاركات مرتدياتٍ اللون الأبيض، مردداتٍ: “علّي صوتك، واجه خوفك، حريتك بتهد جبال”.

كنَّ يهتفن، ثم يتبادلن أحاديث خاطفة، ولم يكن عددهنّ ليزيد عن ثلاثين سيدة، وقد استمرت وقفتهنّ تلك لمدة ساعتين تقريباً، كأحد النشاطات النسائية المتصلة بالتظاهرات المسائية، و”هي نشاطات كثيرة على أي حال، بالكاد غادرت فضاء ساحة الاعتصام”.

براءة وشعار “ما جبت ابني ليسافر”

أيضاً، فإن براءة نعيم، ناشطة بالمجتمع المدني، بالكاد غادرت فضاء الاعتصام في الساحة، بعدما صارت الانتفاضة الحالية هاجسها منذ الصباح، وسبباً جوهرياً لوجودها تلاقيه حالما تستيقظ، تقول: “ربما تغيّبت ليومين فقط عن الاعتصام بساحة الكرامة، لكني ملتزمة بالمشاركة في الحراك السياسي في السويداء منذ العام 2011، وما زلت ملتزمة به حتى الآن”.

تتقاسم براءة يومياتها في الحراك بفرح كثير مع صديقات اعتادت وجودهنّ إلى جوارها على مرّ سنوات مشاركتهنّ الطويلة بالحياة السياسية داخل السويداء، يرتّبن ليومهنّ عبر مجموعات عمل على تطبيق “واتساب”، يخططن، ويتشاركن توزيع المهام.

وما إن تصل براءة إلى ساحة الاعتصام حتى تقف إلى جوار صديقاتها كما اعتادت منذ اليوم الأول لبدء الحراك، تقول أيضاً: “في إحدى الوقفات الاحتجاجية لساحة الكرامة كان عدد النساء المشاركات مقارباً لعدد الرجال المشاركين، ولدينا صديقات لا يستطعن المشاركة معنا في التظاهر، لكنهنَّ يقدّمن لنا الكثير من المساعدة والعون، سواء في كتابة الشعارات، أو في غيرها من الخدمات الضرورية لإكمال عملنا الاحتجاجي”.

تحب براءة شعار “ما جبت ابني ليسافر”، وتجد فيه ترجمة أمينة لمعاناة كل الأمهات السوريات، سواء كنَّ داخل السويداء، أم في غيرها من باقي المدن السورية، كما كانت هي صاحبة فكرة الوقفة الاحتجاجية للنساء بالبالونات، حين كتبن عليها الكثير من الشعارات المطالبة بالعدالة والحرية والخلاص من الطغمة الحاكمة لسورية.

تسمي الناشطة المدنية براءة الانتفاضة الحالية بـ”عائلتي”، ومن خلالها تعرّفت على أصدقاء وصديقات جدد. أناسٌ تصفهم براءة بأنهم “يشبهوننا”، و”هذا مكسبٌ جاد”، على حدّ وصفها. في بيت براءة الكل مندفع صوب الحراك، وكأنه وجهتهم الوحيدة، ومعظم أفراد الأسرة يشاركون الأم في الحضور إلى ساحة التظاهر، و”كأنه قدرنا العائلي الأجمل، والأكثر ألقاً”، كما تقول براءة.

لجين: نحن النساء نصف الساحة

وكأنه أيضاً قدرُ لجين حمزة، الطبيبة والكاتبة وعضو الهيئة العامة في المنظمة العربية لحقوق الإنسان ورئيسة مكتب الثقافة والتواصل فيها. ذاك القدر الذي جعلها تستسلم لنداء الساحة، فتبدأ بتسجيل حضورها هناك اعتباراً من اليوم الثاني لبدء احتجاجات السويداء.

تقول لجين: “نحن النساء نصفُ الساحة”. تتحدث لجين عن أفكار مبتكرة يحتاجها حراك السويداء ليظل واقفاً، تلك التي تغذّيها مخيّلةٌ من نوع مختلف، إذ إن لجين كانت من مبتكري فكرة الوقفة النسائية المسائية “علّي صوتك”، يعجبها هذا النوع من العمل السياسي، مع مخيّلة سياسية لا يحدّها شيء، لكنها أيضاً تقلق من “استمرار الحياد وهو يلفُّ وجوه الكثيرين من أبناء السويداء، أولئك الذين لم يقتدهم الحراك بعد إلى ساحته اليومية، وهذا بسبب عقود طويلة من الكبت، والخوف، وكمّ الأفواه”، كما تشرح لنا لجين.

لكن لجين حمزة تعود وتطلُّ بحديثها من جانبٍ آخر، لعله يغازل كلّ الموسيقى والأغاني والورشات الفنيّة التي تستضيفها ساحة الكرامة خلال الوقفات المسائية، وهذا تنسبه لجين إلى “حركة مدنية رائعة تعيشها السويداء داخل انتفاضتها الحالية”، تقول أيضاً: “يكاد لا يخلو بيت في السويداء من مشارك، أو داعم، أو حتى متعاطف بالحد الأدنى مع انتفاضتنا الحالية”.

هذه الانتفاضة تصفها لجين بـ”البوصلة التي أصلحت فهمنا لمعنى الجهات الأربع وتموضعها بدقة، تلك الجهات التي باتت تقودنا إلى نقطة واحدة، مكانها في ساحة التظاهر، لكنها نقطةٌ قادرة على احتواء الجميع”.

لأيمن الشوفي.

العربي الجديد-موقع حزب الحداثة.