الفيلسوف المثقف “أوريجانوس الإسكندري” الذي طردته الكنيسة.
كانت مدرسة الإسكندرية صرحًا عظيمًا ومركزًا لدراسة العقيدة المسيحية لمدة خمسة قرون، حتى عهد الإمبراطور الروماني جستنيان، وفيها تكوّن أول نظام للاهوت المسيحي، وتم ابتكار الطريقة المجازية لتفسير الكتاب المقدس من قبل إكليمدنس الإسكندري والعلامة أوريجانوس، الذي تزعم هذه الحركة التفسيرية أثناء رئاسته للمدرسة. عُرفت مدرسة الإسكندرية باسم “الديدسكاليون” وفتحت أبوابها لكل الباحثين، ليدرس المسيحيون جنبًا إلى جنب مع أتباع المعتقدات الوثنية، وطلاب الفلسفة اليونانية. يقول الباحث بيرسون في كتابه “نشأة الدين المسيحي” إن المدرسة لم يرأسها معلمون مسيحيون فقط، بل ترأسها كذلك بعض المعلمون الغنوصيين (ص 182).
كما قدمت المدرسة محاضرات في الطب، والرياضة، والموسيقى بجانب العلوم الدينية.حسب رواية المؤرخ يوسابيوس القيصري، وُلد أوريجانوس في عام 185/186 ميلاديًا في الإسكندرية، وحين بلغ من العمر سبعة عشر عامًأ، قُتل والده لاعتناقه المسيحية، ليصبح هو العائل الوحيد لأسرته. وبعد عام من وفاة والده، تولى منصب مدير مدرسة الإسكندرية، حين دعاه البابا ديمتريوس.
رأى أوريجانوس أن اللغة المجازية تساعد على اكتشاف المعاني الغامضة التي تكمن في السرد الظاهري للنصوص، والهدف من هذه المدرسة التفسيرية هو إلى الوصول إلى معنى النص، سواء كان هذا يقدم حقائق تاريخية أم لا.
ووفقا لهذه المدرسة، يصبح النص مجرد وعاء، على القارئ أن يفتحه وينقب بداخله عن المعنى الحقيقي. بذلك، يخفي النص الحقيقة عن الجاهلين الذين يكتفون بالمعنى الظاهري، ويحفظونه عن عمد ظنًا منهم أنهم قد توصلوا إلى كل شيء، ولكنه يظهرها في الوقت ذاته إلى الباحثين الحقيقيين.
تعلم أوريجانوس على يد إكليمندس الإسكندري – عميد مدرسة الإسكندرية السابق له، الذي اعتمد النظرية المجازية في التفسير، وربط بين دراسة الكتاب المقدس والفلسفة اليونانية القديمة، وانتقد أولئك الذين لا يرغبون في الاستفادة من الفلسفة.
كان للأفلاطونية ومشتقاتها تأثير كبير على قراءة أوريجانوس للكتاب المقدس، وتفسيره الذي يعكس الأسلوب التفسيري الأفلاطوني المعاصر له، كما حاول أوريجانوس التوفيق بين الأساطير الوثنية والأساطير المسيحية، على حد وصفه، مشيرًا إلى أن الوثنيين والمسيحيين بإمكانهم الاستفادة بشكل فلسفي من الإرث المجازي للمسيحية والوثنية، وتجنب السخرية والدوغماطيقية. وفي كتابه “الرد على كلسس (المجلد الرابع)”، يربط أوريجانوس بين أسطورة بوروس الأفلاطونية للخلق وبين أسطورة جنة عدن المسيحية، كما ربط إكليمندس الإسكندري بين قيامة المسيح وقصة إقامة “إير” في الجزء العاشر من كتاب الجمهورية لأفلاطون.
في كتاب “المبادئ”، يوضح أوريجانوس أن العديد من الأحداث والقوانين المذكورة في الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، تفقد معناها تمامًا، بل وتصبح غير معقولة، حين يتم تفسيرها بالمعنى الحرفي أو الجسدي. لذلك، على القارئ أن يحاول تصنيف الأحداث إلى أحداث مجازية وإلى أحداث تبدو منطقية تاريخيا.
وفي تعليقه على سفر نشيد الأنشاد، أشار أوريجانوس إلى الطبيعة المزدوجة للكتاب المقدس؛ فهي مادية من جهة، وغير مادية من جهة أخرى. ولذلك، يوجه أوريجانوس القارئ للنظر إلى ارتحال الشعب من مصر إلى الصحراء في قصة الخروج بشكل رمزي؛ فالعقارب، والعطش، والترحال لها أوجه تشابه مع أمور روحية. وكذلك، يوجه القارئ إلى التعامل مع الأحداث المسجلة بخصوص المسيح بالطريقة المجازية نفسها.
ويشير إلى أن الطبيعة غير المادية تسمو على الطبيعة المادية للنص، كما هو الحال بخصوص تفوق الروح على الجسد.
سعى أوريجانوس إلى كسر الدوغماطيقية من خلال تقديم رؤية تشجع على تعدد التفاسير والطوائف المسيحية. وأشار إلى أن أي تعليم مفيد سينشأ عنه مدارس مختلفة بالضرورة.
ويرى اللاهوتي بول بيرنارد أن اليهودية المبكرة، وكذلك، المسيحية المبكرة تعاملا مع النص، باعتباره نصًّا مفتوحًا، غير مكتمل في ذاته. ويرجع بيرنارد جذور تعاليم أوريجانوس إلى ذلك النص المدراشي اليهودي الذي يقول: “عندما أعطى القدوس المبارك التوراة لإسرائيل، أعطاها فقط كحبة الحنطة التي يُستخرج منها الدقيق، وكالكتان الذي يُنسج منه الرداء.” (Fishbane 37-38). فالنص يظل معوزًا إلى عمل القارئ، كالقمح الذي يحتاج إلى عملية الطحن ليصبح دقيقًا، وإلا سيظل بلا فائدة.
ذاع صيت أوريجانوس، وأصبح من أشهر الوعاظ المسيحيين في عصره. وتوترت علاقته ببطريرك كنيسة الإسكندرية – البابا ديمتريوس الأول أو دميتريوس الكرام. كان ديمتريوس مزارعا بسيطا، ولم يتمكن من الحصول على أي شهادات علمية أو دينية، وقد عارض الكثير من تعاليم أوريجانوس، بالأخص رفض الأخير للدوجما .
وتشير رسالة جيروم الثالثة والثلاثون إلى باولا إلى أن العداوة بين الفيلسوف العلماني والبابا قد نتجت عن الغيرة من جانب البابا ديمتريوس بسبب شعبية أوريجانوس كمعلم. كما أن أوريجانوس لم يعتبر الأساقفة أوصياء على العقيدة الصحيحة.
وازدادت الأزمة حين ذهب أوريجانوس عبر فلسطين إلى أثينا، وفي هذه الرحلة، توقف في القيصرية ورسمه الأساقفة كاهنا. على إثر ذلك، دعا ديمتريوس مجمعًا من الأساقفة المصريين ومنع أوريجانوس من التدريس في الإسكندرية مرة أخرى.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت تقترن تعاليم أوريجانوس بالشكوك في الوسط المسيحي؛ لأنها رفضت بحكم مجمع كنسي تزعمه بطريرك الكنيسة.
لكريستيانو عزيز.
مؤسسة مؤمنون بلاحدود-موقع حزب الحداثة.