صناعة الثقافة رحلة الإنسان من الطبيعة إلى قهر الاجتماع البشري.
تقديم:
الثقافة هي قدر هذا الإنسان الملازم له منذ لحظة الوعي الأولى؛ فلا شك أن الخروج من طور التوحش إلى طور التمدن اقتضى من الكائن البشري تطوير تفاعلاته وتسخير إمكاناته، وفتح حدود عقله ليلتقي مع الذات ويفهمها، في الوقت الذي يطور إمكانات أخرى للالتقاء بالآخرين الذين يتاقسمون معه المجال نفسه، والمحيط ذاته. هذا هو الإنسان، وهذه هي مسيرته في هذا الفضاء الفسيح. كائن ثقافي بامتياز، مسيرة انطلقت منذ ملايين السنين، أخضعت العقل البشري للتأقلم مع الطبيعة، وأيضا للخروج عن حدود غريزته وطبيعته وفطرته. هكذا كان أسلافنا الأوائل إلى انتهوا إلى الشكل الحالي للهوموسابيينس، أو الإنسان الأول المنفتح والمدرك للمجال الذي يعيش فيه، والأشخاص الذين يتعاملون ويتفاعلون معه. لقد أنتجت الثقافة التراجع على مفهوم الغريزة، ووسعت من إدراكات الإنسان الذاتية لكل شيء يحيط به. هذا التفاعل لم يكن وليد اللحظة، أو وليد الصدفة، ولكنه مسار وسيرورة طويلة وممتدة في الزمان والمكان لأغرب كائن على الإطلاق.
لقد حددت الإنسانية مسارها من خلال هذا التفاعل، ولئن اشتركت بتعبير دنيس كوش في بشريتها وإمكاناتها الطبيعية، غير أنها اختلفت وتباينت في إنتاجاتها الثقافية. فلقد كانت البيئات المختلفة لكل مجموعة من المجموعات البشرية مضطرة إلى إبداع أشكالها الثقافية، والحضارية والإنسانية. كان لزاما على كل واحدة منها أن تتأقلم مع المحيط، لكن في الوقت نفسه تسعى إلى العيش خارج حدود الطبيعة والغريزة. لقد أبدع الإنسان في كل شيء، ولكنه كان محتاجا لمسارات طويلة يخرج فيها من حدود طبيعته، بما في ذلك نظرته إلى ذاته. فالاختلافات الطبيعية والبيولوجية التي قد تبدو في بعض الأحيان بأنها أشياء خارج النقاش الثقافي، هي نفسها تخضع لمنظورات ثقافية متباينة بما في ذلك التحديدات الجنسية التي تختلف فيها جماعة إنسانية مع أخرى. كل شيء لدى الإنسان يؤول ثقافيا؛ أي يخضع لمؤثرات نفسية واجتماعية وثقافية ينشأ خلالها الإنسان، ويصنع كما تصنع الأشياء الأخرى، بما في ذلك أشد الوظائف البشرية الطبيعية كالنوم والجوع والرغبة الجنسية.
وإذا كانت الثقافة صناعة الإنسان على هذه الأرض، وجزءا أصيلا من مسيرته المطولة عليها، فلقد ظلت مثار تساؤلات فلسفية ومعرفية طبعت هذا الامتداد الإنساني الفكري. من هنا يمكننا أن نتحدث عن صناعة الثقافة، باعتبارها الظاهرة الأبرز في التاريخ الإنساني. ولئن كانت مدرسة فرانكفورت قد خصصت حيزا مهما للنقد الثقافي، ولظاهرة صناعة الثقافة كما تجلت بأبعادها في بدايات القرن العشرين، فيمكن الجزم بأن صناعة الثقافة ليست وليدة الحضارة الغربية ولا النظام الرأسمالي، بل هذه الصناعة ممتدة في الجسد الإنساني منذ لحظة الوعي الأولى، ولكنها تجلت في أبعادها الواعية وغير الواعية في صناعة الثقافة كما تحدث عنها هوركايمر وأدورنو.قبل أن ننطلق في الإضاءة على بعض جوانب موضوع صناعة الثقافة كما تدارسته مدرسة فرانكفورت، يمكن الإشارة إلى أنها مدرسة فلسفية طبعت ورسمت مسارات وتحولات القرن العشرين؛ إذ لا يمكن للباحث في التاريخ الفلسفي المعاصر واتجاهاته ومدارسه أن يغفل تاريخ مدرسة فلسفية ظهرت في مدينة فرانكفورت الألمانية بداية القرن العشرين، وسميت بمسميات كثيرة منها المدرسة النقدية؛ لأن روادها اتخذوا من الفلسفة النقدية رؤية لهم ومنهجا لهم، كما سموا بالماركسية الأوروبية تمييزا لهم عن التفسيرات التي قدمها منظرو الأممية الثانية والثالثة للماركسية.
من أهم مؤسسيها من الجيل الأول ماكس هوركايمر، وثيودور أدورنو، وهبربرت ماركيوز، ومن الجيل الثاني ألفرد شميت، وكلاوس أوفي، ويورغن هابرماس؟. تأسست المدرسة الفرانكفورتية في أواخر عقد سنة 1923، وكانت تهدف إلى تحليل المجتمع والثقافة من منظور نقدي ماركسي. ومع مرور الوقت، تطورت هذه المدرسة وتنوعت الأفكار والمبادئ التي اعتمدتها.
فما هي أهم مبادئها كما تجلت مع روادها الأوائل خاصة هوركايمر وأدورنو؟
1- مدرسة فرانكفورت: النشأة والتطور
لقد سبق أن أشرنا إلى أن مدرسة فرانكفورت تنسب إلى المكان الذي تواجدت فيه جماعتها وروادها، وهو فرانكفورت الألمانية، وقد كانت تضم مجموعة من الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع الذين عملوا خلال فترة الحرب العالمية الثانية لصالح معهد البحث الاجتماعي الموجود في فرانكفورت.
وقد كان يعبر هؤلاء عن أفكارهم في «دورية البحث الاجتماعي» وكانوا متأثرين بالفلسفة الجدلية الهيجلية وأفكار كارل ماركس. ابتدأ نشاط المدرسة الفكري مع مجموعة من المفكرين أهمهم ماكس هوركايمر المسؤول الأول عن تطوير نموذج «النظرية النقدية» في ثلاثينيات القرن العشرين.
فما هي أبرز ملامح فكره؟.اعتمد هوركايمر في نظريته النقدية على تعدد التخصصات، وعدم حصر مقاربات الظواهر على اتجاهات وتصورات أحادية وشمولية. فقد ارتأى أنه لا بد من إدماج مختلف التخصصات من أجل فهم الظاهرة الإنسانية في شموليتها. واعتبر بأن هذا الأمر، وهذا التوجه الفكري من شأنه أن يكمل المنهج الجدلي لهيجل وماركس، ويحدث تحولات عميقة في المجتمع البشري باعتماد تقنيات وتخصصات أخرى كعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا.ويمكن اختزال هذا المنهج المقترح من طرف هذه النظرية النقدية في أربع خصائص أساسية:
الخاصية الأولى: تعدد التخصصات:
وهذا يعني أن هذه المدرسة حاولت أن تؤلف بين تخصصات ومعارف مختلفة في مقاربة الظواهر الإنسانية، وبالتالي فقد كان هذا الإدماج بمثابة رد ونقد على التوجه القائل بأن المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية هو المنهج الوحيد والأوحد الصالح لمقاربة مختلف الظواهر.
الخاصية الثانية: التأمل
معنى ذلك أن النظرية النقدية لها وعي ذاتي متأصل فيها. فهي بنت بيئتها ومجتمعها، حيث تأملت السياق الاجتماعي الذي أدى إلى نشأتها، والوظيفة التي أنشئت من أجلها، والأهداف المسطرة من ورائها.
الخاصية الثالثة: الجدل
أي إن النظرية النقدية اعتمدت مفهوما جدليا عن المعرفة، حيث ترى أن الحقائق ونظرياتنا جزءٌ من عملية تاريخية ديناميكية مستمرة نجد فيها أن الكيفية التي نرى بها العالم والكيفية التي عليها العالم فعليًّا تؤثر إحداهما في الأخرى.
الخاصية الرابعة: النقد
أي إن مهمةَ النظريةِ هي مهمة عمليةٌ فعلية، وليست نظرية فقط؛ بمعنى آخر وظيفة هذه النظرية ليست فقط تحقيق الفهم السليم، بل تتجاوز ذلك إلى أنها يجب أن تخلق ظروفًا اجتماعية وسياسية تساهم في تطوير المجتمعات البشرية.
هذا باختصار مجمل خصائص النظرية النقدية، ولكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن هناك تحولا كبيرا حدث في هذه النظرية بعد انتقالها من فرانكفورت إلى جنيف ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويمكن أن نلخص ذلك فيما يلي:
*اصطدام المنظرين بمجتمع استهلاكي صناعي في الولايات المتحدة الأمريكية.
*تحول الثقافة إلى شكل من أشكال الصناعة على يد شركات إنتاج كبرى مثل هوليوود.
*استغلال هذه الشركات الناس بأساليب دعائية ماكرة، جعلت الناس يتقبلون ويقرون بنظام اجتماعيٍّ أحبطَ وكَبَتَ اهتماماتهم الأساسية.
*صناعة الثقافة خلْقت احتياجات الناس ورغباتهم وإحداث تحول فيها.
*صناعة الثقافة عن طريق التلاعب بوعي الناس خلق لدى منظري مدرسة فرانكفورت حالةً زائفة من المصالحة.
2- صناعة الثقافة وجدل التنوير: هوركايمر وأدورنو
قضية صناعة الثقافة قضية محورية في تفكير الرواد الأوائل لمدرسة فرانكفورت هوركايمر وأدورنو، وقد قاما بنقدها في بداية القرن العشرين، ضمن كتاب مشترك لهما سمياه بجدل التنوير. شكلت هذه القضية موضوعا شائكا بالنسبة إليهما؛ لأن الجانب الثقافي في الدولة الصناعية الحديثة خلق تحولات كبيرة في نظرة الإنسان إلى ذاته ومجتمعه، حيث تم اختراق وعي وإدراكات الجماهير عن طريق التنميط والتسليع بما يمكن تسميته بهندسة الجمهور، وهذا هو مطمح الرأسمالية بشكل عام؛ أي تحول الثقافة إلى جانب من جوانب الاستهلاك.
يمكن رصد مجموعة من المعطيات ونحن نقارب الرأسمالية المعاصرة خاصة في شقها المتعلق بالجوانب الثقافية، فهذه الحضارة الرأسمالية، أعطت لكل شيء مسحة من المشابهة والمماثلة، كما أن كل قطاع من القطاعات أصبح قائما على الإعلام، يتحدد الواحد منها قياسا على الآخر. تماثل رهيب وتشابه مخيف لدرجة أنه حتى الأنظمة الشمولية والديكتاتورية كانت تمتدح هذا النظام أو ذلك بناء على معايير موحدة ومتماثلة. ماذا يحدث بالضبط؟ السينما الراديو التلفزيون أمور ليست بالبراءة التي يتوقعها البعض؛ أي إنها أجهزة وتقنيات تحتوي على إيديولوجيات تبرر في نهاية المطاف ما يرغب أصحابها بإنتاجه. والأحزاب والجمعيات ودوائر القرار الاقتصادي والاجتماعي تتوجه عبر هذه الآليات للجماهير لتفرض منطقها ورؤيتها بإنتاج أمور معلبة تكفي العدد الأكبر من الطلبيات المتماهية. هنا تتحول صناعة الثقافة إلى أن تجعل الإنتاج مقننا، صناعة أشياء متشابهة، مضحية بكل ما يشكل فارقا بين منطق العمل، ومنطق النظام الاجتماعي.
محصلة هذا الكلام وهذه التجربة التي كانت تحولا في التاريخ الإنساني هي أن صناعة الثقافة أصبحت واقعا لا يمكن إزاحته؛ أي أن على العالم أن يمر من مصفاة صناعة الثقافة. وهذا يفضي إلى مجموعة من النتائج:
*كل التقنيات والوسائل الإعلامية تساعد المشاهد والقارئ والمستمع الضحية إلى أن يتماهى مع الواقع.
*إصابة عقل المستهلك بالشلل التام، حيث يموت النقد والتفاعل والفهم والإدراك.
*كل هذه الوسائل تمنع عن المتتبع أي نشاط عقلي، إذا ما أراد ألا يضيع أي لقطة من فيلم أو مشهد من مشاهد مسرحية أو غير ذلك.
*لم نعد في هذه الحالة محتاجين إلى الخيال.
هذه النتائج تبدو بسيطة في تركيبتها لكنها على المستوى البعيد والاستراتيجي هي نتائج مدمرة وتشير بشكل أساسي إلى عنف المجتمع الصناعي؛ أي إنها تكشف على الوجه الحقيقي للمجتمع الرأسمالي الذي يبدو وديعا في بعض ما يسعى إلى تحقيقه، فماذا يعني ذلك؟
*المجتمع الصناعي أصبح جزءا من النسيج الذهني الإنساني
*إعادة إنتاج الناس طبقا لنماذج الصناعة ككل
*الرغبة في ألا تصاب هذه الحالة الذهنية بأي تباين أو تطوربروز حالة من الاستعمال المقولب لكل شيء،
ونحن نستمع لأدورنو وهوركايمر، ونقرأ لهما يتبين لنا بأن ما نعيشه اليوم هو أمر مخطط له مسبقا بشكل قبلي، وليس عملية منتزعة من سياق بدايات تشكلها. الثقافة صنعة وحرفة وأداة والإنسان المعاصر حسب هذه الرؤية يأكل من كل هذه الوجبات دون أن يعرف أن ما يأكله قد يكون نهايته؛ فالإيديولوجيا تشبه حاوية الأزبال، الإنسان يأكل منها دون أن يعرف ماذا يأكل، وفي الوقت الذي تعتقد أنك خارج الإيديولوجيا تكون حينذاك في صلبها. لا شيء يجب أن يتوقف في هذا الكون حسب قوانين الرأسمالية، فالإنتاج وإعادة الإنتاج هي الضمانة بعدم تغير شيء وعدم خروج أي شيء عن المتطابق والمتشابه والمتماثل. كل شيء أصبح قابلا للتصنيع لا شيء يمكن أن يكون خارج هذه الدائرة، حتى الفن أصبح ضمن دوائر الاستهلاك.
صناعة الثقافة هي صناعة تسلية؛ لأنها تمارس سلطتها على المستهلك بواسطة هذه التسلية. وهذه السلطة هي سبيل المماهاة مع الحاجة المنتجة ولا تتناقض معها. الناس لا يهمها المضمون والمحتوى، كل ما يسعى إليه الإنسان هو تتابع الآليات المنمذجة والآلية.
المستهلك لا يريد أن يتعب بالتفكير؛ لأن الإنتاج يدفع كل رد فعل محتمل، الواقع أن هناك انتصارا للعقل التقني على الحقيقة.
هناك مسألة وجب التنبه لها هنا، وهي أن صناعة الثقافة كانت وما زالت تكبت المستهلكين عما تعدهم به. كل ما تعدنا به الأفلام والسينما وكل أشكال التعبير المختلفة لا يتحقق على أرض الواقع، هي مجرد أوهام لأحلام لن نصل إليها؛ معنى ذلك أن غاية صناعة الثقافة ليست غاية نبيلة ترفع من خلالها الكائن الإنساني إلى مصاف الإنسان المحترم والراقي، بل هي صناعة تقمع وتذل، فصناعة الثقافة البورنوغرافية مثلا تحيل الحب الى رومانسية، وهنا تصبح مجموعة من الأشياء داخل المجتمع أمرا مسموحا به؛ فإنتاج ما هو جنسي بشكل متسلسل أمر ينظم القمع بشكل آلي.
الذوبان في هذه الحالة الثقافية وهذا الشكل من الصناعة الثقافية لا يؤدي فقط إلى فساد الثقافة، بل إلى جعل التسلية أمرا ثقافيا بالقوة. وبقدر ما تتعزز هده الصناعة وتخترق مكونات وذهنيات المجتمع بقدر ما تضغط على حاجات المستهلكين، بإثارتها وتوجيهها إلى حد الوصول إلى إلغاء التسلية. وبقدر ما تتدنى هذه الصناعة الثقافية وتتدنى وعودها لجمهورها ومستهلكيها، بقدر ما تتدنى نسبة إيضاحها للحياة بما لها من معنى متكامل. وهنا تصبح الإيديولوجية التي تروجها صناعة الثقافة خالية من المعنى.ختاما وبشكل موجز، يمكننا أن نخلص من كل العرض المستفيض الذي قدمه كل من هوركايمر وأدورنو للثقافة وصناعة وتعليب الجماهير إلى ما يلي:
*الثقافة عبارة عن سلعة ظاهرة التناقض
*الثقافة تخضع لقانون التبادل
*الثقافة سلعة تذوب في الاستهلاك، رغم عدم قابليتها لذلك
*صناعة الثقافة تخلق مزيدا من الإشباع والفتور عند المستهلكين
*صناعة الثقافة تجعل من المتعة مجرد وعد
3- هابرماس والنظرية النقدية
إذا كان كل من أدورنو وهوركايمر قد أسسا للمدرسة النقدية في شكلها الأول، فإن هابرماس شكل نقطة تحول مهمة في مسار هذه المدرسة، حيث أخذت أبعادا أخرى، واشتغلت على مواضيع مختلفة لا زالت آثارها ممتدة إلى حدود اللحظة الآنية. يعد يورجن هابرماس واحدا من أهم الفلاسفة والمنظِّرين الاجتماعيين وأوسعِهم انتشارًا في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد تميزت كتاباته بالعمق الفكري، وسعة الاطلاع، أو لنقل التفكير الموسوعي؛ إذ كتب في مختلف الحقول المعرفية كعلم الاجتماع والفلسفة والسياسة والقانون والدراسات الثقافية.
وإذا ما أردنا أن نتحدث عما أحدثه هذا الرجل في إرث كل من هوركايمر وأدورنو عن المدرسة النقدية، فيمكننا الإشارة إلى كتاب «التحولات البنيوية للفضاء العام: تساؤلات ضمن أصناف المجتمع البرجوازي» فهذا الكتاب يقول عنه جيمس جوردن هو بمثابة استجابةً نقدية بنَّاءة لمفهوم هوركايمر وأدورنو للنظرية النقدية. فكيف تم ذلك؟لا بد من الإشارة أن كتاب «التحولات البنيوية» ظل مخلصًا للنموذج الأصلي من عدة أوجه.
أولًا: هو تعدد التخصصات: أي مقاربة الظواهر انطلاقا من تخصصات متعددة
ثانيًا: إبراز الجوانب التقدمية العقلانية للمجتمع الحديث والتمييز بينها وبين الجوانب الرجعية غير العقلانية.
ثالثًا: توظيف أسلوبَ «النقد المحايث»؛ أي استعمال النقد الداخلي، في مقابل النقد الخارجي. وهو أسلوب مستلهَمٌ من هيجل وماركس.
هذه بعض جوانب الاشتراك بين التفكيرين، فهو سليل هذه المدرسة الرائدة في التاريخ الفلسفي المعاصر، وبكل تأكيد ستكون هناك مجموعة من القواسم المشتركة بين مفكريها، غير أن هذا لا يمنع من وجود تباينات واختلافات على مستوى الرؤية والتصور. فهابرماس كانت له رؤية أخرى، حيث قدم تشخيصًا تاريخيًّا للوضع الاجتماعي والسياسي والثقافي مختلفًا تمامًا عما قدمه هوركايمر وأدورنو، خاصة أن روايتهما للعقلنة كانت بحسب هابرماس تتميز بشيئين أساسيين:
الأول: الأحادية والثاني: التشاؤم بشكل مبالغ فيه. أما مفهومهما عن جدلية التنوير وفق رؤيته، فكان يفتقر إلى شيئين اثنين: الأول: المبرر التجريبي والتاريخي، والثاني: الاتساق المفاهيمي.باختصار شديد كان هابرماس يهدف إلى إنقاذ فكرة النظرية النقدية الأصلية كما ظهرت في بداياتها الأولى مع هوركايمر وأدورنو. وهذا الأمر أشار إليه جيمس جوردن، حيث يؤكد أن هابرماس هدف إلى المزج بين تاريخ أكثر تنوُّعًا وتبريرًا للتنوير ونموذج آخر أكثر اتساقًا للنظرية الاجتماعية.لكن أهم ما ميز تفكير هابرماس وله اتصال وثيق بالجانب الثقافي، هو مفهوم الفضاء العام؛ لأن ظهور المثقف في شكله المعاصر والمفكر كان وليد الصالونات الأدبية والفكرية في أوروبا في القرن الثامن عشر. وحينما نتحدث عن القرن الثامن عشر، فإننا نتحدث بالتحديد عن أهم منجزاته، وهو عصر التنوير الأوروبي، وهو فترة فلسفية وثقافية واجتماعية امتدت تقريبًا من القرن السابع عشر حتى القرن الثامن عشر. يتسم هذا العصر بالتركيز على العقلانية والعلم والتفكير النقدي والتقدم البشري.
وإذا أردنا أن نلخص هذا العصر في سمات معينة، يمكننا أن نقول:
*توطيد الحقوق المدنية كحرية التعبير للأفراد، ونشأة الصحافة الحرة.
*ظهور مساحات عامة كالمقاهي والصالونات والدوريات الأدبية، يناقش فيها الناس همومهم وقضاياهم.
*المشاركة في هذه الفضاءات كانت طوعية، ومستقلة نسبيا عن النظامين السياسي والاقتصادي.
*الفضاء العام مكون من تجمعات طوعية لمواطنين مستقلين يجمع بينهم هدفٌ مشترك.
*مفهوم الفضاء العام ساهم في اكتشاف احتياجات الناس واهتماماتهم والتعبير عنها، وصياغة تصور للمصلحة العامة.
*بدأ الرأي العام تدريجيًّا يمارس دور الرقابة على شرعية صلاحيات الحكومة غير الممثلة للشعب والمنغلقة على نفسها.
هذا كله هو بداية بلورة هذا المفهوم في القرن الثامن عشر لكن مع مرور الوقت بدأ هذا المفهوم يأخذ منحى آخر، حيث أصبح إيديولوجية عابرة للقارات، فما معنى ذلك؟سبق أن أشرنا إلى ما أشار إليه جيمس جوردن من كون أن النظرية النقدية هي تنويعة من النقد المحايث المعروف باسم نقد الأيديولوجية أو النقد الأيديولوجي. ولكي نفهم هذا الأمر لا بد من معرفة ماذا تعني الإيديولوجية أصلا عند رواد المدرسة النقدية وأهمهم أدورنو:يقول أدورنو عن الأيديولوجية إنها «وهْمٌ ضروريٌّ اجتماعيًّا» أو «وعيٌ زائفٌ ضروريٌّ اجتماعيًّا»، وهذا يقودنا إلى أن الأيديولوجيات هي الأفكار أو المعتقدات الزائفة التي يتمكن المجتمع بشكل نظامي من حث الناس على تبنِّيها. وكل إيديولوجية تهدف بالأساس إلى دعم بعض المؤسسات الاجتماعية المحددة كما تدعم علاقات الهيمنة التي تؤيدها.
وهنا يمكننا أن نطرح التساؤل التالي: هل الفضاء العام إيديولوجية بالمعنى السابق أم لا؟يرى هابرماس، أن مفهوم الفضاء العام فكرةٌ وأيديولوجية في آن واحد لاعتبارات متعددة لخصها جيمس جوردن فيما يلي:الفضاء العام هو تلك المساحة التي يشارك فيها الناس جميعا كأنداد في نقاش عقلاني طلبًا للحقيقة والصالح العام.
كل المفاهيم من قبيل المساواة والحرية هي مجرد أيديولوجيات أو أوهام؛ لأن المشاركة في الفضاء العام في القرن الثامن عشر داخل الصالونات والمقاهي كانت حكرًا على مجموعة صغيرة من الرجال المتعلمين الأثرياء.كانت فئة الفقراء وغير المتعلمين، وجميع النساء تقريبًا، مستبعدين من الفضاء العام.
فكرة الفضاء العام ظلت طوباوية؛ أي مجرد رؤية شاملة داعية للمساواة بين البشر لمجتمع جدير بأن نسعى لتحقيقه، لكنه لم يتحقق كليًّا قط.أثبت هابرماس أن فكرة الفضاء العام البرجوازي رغم كل ذلك، تتجاوز الوهم المحض؛ لأن هذا الفضاء كان أساسًا مفتوحًا؛ فكل مَن حصَّل ثروة وتعليمًا مستقليْن، بغض النظر عن مكانته أو حالته الاجتماعية أو الطبقة التي ينتمي إليها أو جنسه، يحق له المشاركة في النقاش العام.
لكن بالرغم من هذا المفهوم الذي حاول تأسيسه هابرماس إلى أن فكرة الفضاء العام عرفت انحسارا كبيرا لمجموعة من الأسباب أهمها:
*تحول الصحف والمجلات الكبرى إلى شركات رأسمالية عملاقة تعمل على خدمة المصالح الخاصة لعدد قليل من أصحاب النفوذ.
*فقدان الرأي العام استقلاليته المزدوجة، علاوة على وظيفته النقدية.
*أصبح الفضاء العام في القرنين التاسع عشر والعشرين حلبة يمكن فيها توجيه الرأي العام والتلاعب به.
*أصبحت المجلات والدوريات ومختلف أشكال الإعلام والصحافة عناصرَ استهلاكية.
*صناعة الثقافة خلقت جمهورًا متجانسًا بشكل متزايد من المستهلكين الخانعين غير الناقدين.
*الرأسمالية الاحتكارية وليبرالية دولة الرَّفاه في الولايات المتحدة الأمريكية أفضتا في نهاية المطاف إلى تضاؤل حرية الإنسان، وتفريغ السياسات الديمقراطية من مضمونها.
ليوسف هريمة.
مؤسسة مؤمنين بلاحدود_ موقع حزب الحداثة