اصلاح ديني

عقلانية الحداثة.

لا يمكننا تقديم التفكيك والتقويض الذي قام به الدكتور طه عبدالرحمن للحداثة الغربية، بغير تقديم نقده للعقل والعقلانية السائدة.

فكل من يتناول الحداثة لا يمكنه بشكل أو بآخر أن يتغافل العقلانية والعكس. حتى أن حضور أحد المصطلحين يستدعي حضور الآخر بالضرورة، وذلك بسبب العلاقة الوطيدة بينهما.

وما دام العقل هو المجال الذي يتحرك فيه الخطاب الحداثي بكل مستتبعاته وإشكالاته، فإن العقلانية تمثل بذلك مفتاح الحداثة وروح الإنسان المعاصر، حتى قيل: الحداثة العقلانية، أو عقلانية الحداثة.

وقبل أن نقوم بتقديم نموذج الحداثة «الإسلامية» البديلة، التي أرسى دعائمها الفيلسوف طه عبد الرحمن، بعد أن تولى باستخدام آليتي التفكيك والتركيب اللذان هما أساس منهجيته، تقويض دعائم نموذج الحداثة الغربية السائدة، متسلحاً في ذلك بتحديد دقيق لماهية العقل والعقلانية ودرجاتها.

هذا التحديد الدقيق الذي جادت به ذهنيته المنطقية هو ما ساعده في عمليتي الهدم والبناء، ليقدم لنا بعد ذلك مشروعا فلسفيا قائما على الإبداع والاستقلال والخروج من عباءة التبعية والتقليد.

العقل والعقلانية المتكوثرة

لو شئنا أن نختزل المشروع الفكري لطه عبد الرحمن لرددناه إلى العقلانية «فقد استوفي هذا المشروع العقلانية من جهة دفاعه المستميت عن توسيع العقل وعدم تضييع آفاقه، كما دعا إلى ربطه بالجانب العملي وتقييده بالغايات والمقاصد السامية» .

ولا غرابة بعد ذلك أن نجد النقد الأخلاقي يطال العقل ويطال الممارسة العقلانية.يقدم لنا د.طه مفهوماً «منحوتاً» واضحاً عن العقل، يعلن به رفضه التام للنزعة التجزيئية التي سادت الفلسفة الغربية، ويبين فيه صفاته الجوهرية «المتكوثرة» ودرجاته العقلانية المتفاضلة، معتمد في كل ذلك على نحته وحفره الخاص واشتقاقاته اللغوية المبدعة.

والعقل عند د.طه يعتبر مجرد فاعلية وليس ذاتاً قائمة بنفسها أو جوهراً مستقلاً «والمقصود بذلك أن العقل لا يقيم على حال، وإنما يتجدد على الدوام ويتقلب بغير انقطاع، فعلى خلاف ما ساد ويسود به الاعتقاد الموروث عن اليونان، ليس العقل جوهراً مستقلاً قائماً بنفس الإنسان، وإنما هو أصلاً فاعلية، وحق الفاعلية أن تتغير على الدوام، نظراً لأن مقتضى الفعل أن يفعل، وكل ما يفعل يوجد بوجود أثره وينتفي بانتفائه، وليس العقل فاعلية فحسب، بل هو أسمى الفاعليات الإنسانية وأقواها، وحق الفاعلية الأسمى والأقوى أن تتغير على مقتضى الزيادة وأن تبقى على هذه الزيادة ما بقي العاقل».

وقد عارض الدكتور طه بشدة مفهوم العقل الأرسطي الذي أصبح العقل بمقتضاه جوهراً قائماً بذاته في الإنسان، ومكتفياً ومستغنياً عن غيره، ويستخدم لتحصيل المعرفة وبلوغ الحقيقة واليقين، وفق مبادئ الفكر الأساسية (مبادئ العقل الأولية) .

وجاءت معارضته قائمة على أساس مفهوم الفاعلية التي قال بها. وزاد على هذه الفاعلية مفهوم آخر أطلق عليه «التكوثر العقلي».

وقد عارض الدكتور طه بشدة مفهوم العقل الأرسطي الذي أصبح العقل بمقتضاه جوهراً قائماً بذاته في الإنسان، ومكتفياً ومستغنياً عن غيره، ويستخدم لتحصيل المعرفة وبلوغ الحقيقة واليقين، وفق مبادئ الفكر الأساسية (مبادئ العقل الأولية) .

وجاءت معارضته قائمة على أساس مفهوم الفاعلية التي قال بها. وزاد على هذه الفاعلية مفهوم آخر أطلق عليه «التكوثر العقلي».ويرى د.طه أن الأزمة التي أحدثها التعريف الأرسطي الجامد للعقل بدأت مع حركة الترجمة التقليدية في تاريخ الفكر الإسلامي، فنقلت هذه الترجمات عن الفلسفة اليونانية دون تمحيص أو نقد إشكالية العقل بثقلها إلى قلب الفلسفة الإسلامية التي تبنى بعض مفكريها النظرية الأرسطية -كابن سينا والفارابي وابن رشد وغيرهم-في القول بجوهرية العقل، وبدأت عملية التداول المفاهيمي لهذا المفهوم الغير أصيل في ثقافتنا العربية.

وفي سياق نقده للعقلانية الأرسطية وكل من أخذ بها من المتكلمين والفلاسفة الإسلاميين، يرى د.طه أن أرسطو جعل من العقل جوهراً قائماً بذاته، والحقيقة غير ذلك، فهذا الفهم للعقل منقوص ولا نجده في أي نص من النصوص الدينية، وكل ما نجده هو أن العقل فعل من الأفعال التي يقوم بها الإنسان، ولا فرق بينه وبين باقي الملكات الأخرى، فيقول: «إن العقل يدخل في باقي الأفعال الإنسانية، فمثلاً، المبصر يبصر وهو يعقل في بصره، والسامع يسمع وهو يعقل في سمعه، والعامل يعمل وهو يعقل في عمله».

وما دام العقل فعل من الأفعال، فلابد له من ذات حاملة لهذا الفعل، هذه الذات يقرر طه بأنها القلب، فيكون القلب هو الذي يختص بالفعل العقلي، ويكون العقل هو فعلاً من أفعال القلب، فكما أن للسمع أداته الحاملة وهي الأذن، وللبصر أداته الحاملة وهي العين، فإن للعقل أداته الحاملة وهي القلب، والقلب قوة لا تبقى على حال، حيث إنه دائم التحول والتقلب، وإذا ما الحامل متقلباً ومتحولاً من حال إلى حال، فشأن المحمول أن يتبعه في تقلبه وتحوله، وهو العقل أي الفعل.

هنا ينتقل الدكتور طه للحديث عن العقل «المتكوثر»، وينحت مفهوم غاية في الدقة، يستحدثه من العدم!

والعقل المتكوثر هو الذي يبقى على حال التقلب والتشعب، طلباً لخير العاقل في العاجل أو الآجل. ويأتي قول الدكتور طه ليؤكد ذلك فيقول: «الأصل في العقل هو الكثرة وليس الوحدة كما يعتقد عامة الناس وخاصتهم، فالتكوثر يجلب للعاقل ما فيه ظهور إنسانيته وارتقاؤها في مراتب متفاوتة، حتى تشرف على أفق الكمال العقلي.

فالعقل إذن يتكوثر من أجل جلب المنفعة لصاحبه آجلاً أم عاجلاً، أما العقل الذي يجلب المضرة له فهو العقل المتقلل، أي الواحد الذي لا يتغير».

وتعدد فاعليات العقل هو ما دعا الفيلسوف لنحت هذا الاشتقاق اللغوي والاصطلاحي الجديد على ثقافتنا الفلسفية، وهذا ليس بمستغرب على أستاذ اللسانيات. والعقل عنده لا يقيم على حال وإنما يتجدد ويتغير باستمرار ودون انقطاع.

فهو في صيرورة وتجدد دائم.وهذا المعنى يتضح أكثر إذا نحن استعرنا عبارات الفلسفة المعاصرة، التي تؤكد على التعدد المعرفي وتنوع الإدراكات العقلية للمرء، ناهيك عن تعدد الخطابات المعرفية، الصادرة (من/إلى) العقل.”لقد أصبحت هذه الحقيقة مشهودة في فلسفة العلم المعاصر، وفي فلسفة المنطق، وفي الفلسفات عموماً، فقد ثبت أن العقل الإنساني يكاد لا يصار إلى إدراكه إلا في مظاهر متشعبة بقدر تشعب الوسائل الإدراكية والمعرفية في مجالات اشتغاله، غير أن ما نظفر به من جديد في فلسفة العقل المتكوثر عند طه عبد الرحمن هو مجاوزة دعاوي التعدد المعرفي والتراكم المعرفي والتوليد النحوي والتعدد الصوتي.

وتتبدى لنا المجاوزة في اعتبار حقيقة التكوثر العقلي تعمر مجالات اشتغال الفكر وتخترق نطاقاته فتتجلى في المعرفة العلمية كما تتجلى في الخطاب الطبيعي. وقد لاحق طه عبد الرحمن هذه التجليات لفاعلية العقل فألفاها تتعدى التعدد والتراكم والتوليد، فبنى على هذه الحقيقة دعوى التكوثر العقلي .”

وقد جعل متعلق التكوثر بصفاته الجوهرية الثلاثة هي عنوان العقل الواسع بوصفه:- فاعلية للتكوثر (فعل عقلي): وتفيد هذه الصفة أن مقتضى الفعل أن يفعل، غير أن فعل العقل ليس فاعلية كسائر الفاعليات بل هو أسمى الفاعليات الإنسانية وأقواها وحق الفاعلية الأسمى، أن تبقي على هذه الزيادة ما بقي العاقل.

– قصدية للتكوثر (فعل قصدي): ومن هنا فإن الفاعلية القصدية توجه، ولا يكون هذا التوجه (ذاتاً) بل علاقة إما أن تدعو إلى مقابلها مثلاً فتكون علاقة تزاوج يثمر ما ليس في الزوجين على حال الانفراد، أو مقابلها ضداً فتكون علاقة تناظر يثمر ما ليس في المتناظرين على حال الانفراد، وعلى هذا الأساس يكون التزاوج والتناظر سبيلين للتكوثر الصريح. ولما كان التكوثر فعلاً قصدياً لزم أن يكون على قدر من القوة والاتساع والرسوخ والبعد، ما يجعله ينفذ ويتقلب فلا يتصف بالقصور والجمود.

– منفعية للتكوثر (فعل نفعي): لما كان التكوثر فعلاً عقلياً هو أسمى الفاعليات الإنسانية، ولما كان فعلاً قصدياً فإنه لا محالة يصار إلى اعتباره فعلاً نفعياً يحفظ السمو ويصون التوجه المثمر.

وبهذا يكون التكوثر نافعاً بالمعني الذي يفيد تعدية العاقل إلى من سواه.تلك هي الصفات الجوهرية للتكوثر العقلي، وهي تطوي رؤية عميقة لفاعلية العقل تتجسد جدتها في الإقرار بالاختلاف الذي يقود إلى تقويض أسطورة العقل الأرسطي، غير أن الاختلاف هنا يتخذ وجهة تحتفظ بالتكوثر العقلي الفاعل والقاصد والنافع، ولهذا جاوز طه عبد الرحمن دعاوى أقرب إلى التكوثر العقلي».

«وكبديل لمفهوم العقل، يطرح طه عبد الرحمن مفهوم الفعل أو العمل، كمبدأ لتحديد ماهية الإنسان. ومن المعلوم أن الفعل لم يرتبط بشيء قدر ارتباطه بالأخلاق، فيتحدد تبعاً لهذا أن التخلق يكون مقابلاً للتعقل، وعلى هذا الأساس تكون الأخلاقية هي الأصل الذي تتفرع عليه كل صفات الإنسان من حيث هو كذلك، والعقلانية التي تنسب إليه يجب أن تكون تابعة لهذا الأصل الأخلاقي» .

من العقلانية المجردة إلى العقلانية المؤيدة

بعد أن قدم الدكتور طه عبد الرحمن مفهومه حول العقل، الذي اعتبره فعل من أفعال القلب، يحاول أن يلفت انتباهنا إلى درجات العقلانية الثلاثة التي تناولها بالشرح والدراسة في كتابه القيم «العمل الديني وتجديد العقل».

وحتى يسهل علينا نقد الحداثة -من وجهة نظره-كان لابد أن نفهم الضمانة التي يقدمها، وهي ضمانة عقلية مغايرة، للمنهج العقلي الغربي السائد.

ونقطة البدء في فلسفة طه سواء من ناحية تقويم التراث أو من ناحية نقد الحداثة أو تأسيس حداثة بديلة هي تحديده الدقيق لماهية العقل ودرجات العقلانية.

ويؤكد د.طه أن العقلانية ليست هناك عقلانية واحدة، وإنما هناك عقلانيات كثيرة، تتفاوت في رتبها ودرجاتها، وتتفاضل في غاياتها ومقاصدها، بحسب الفاعلية الصادرة من العقل ابتداء. وفي هذا المعنى يقول الدكتور طه: وقد «التبس الأمر على دعاة العقلانية من المحدثين، فظنوا أن العقلانية واحدة لا ثانية لها، وأن الإنسان يختص بها بوجه لا يشاركه فيه غيره، وليس الأمر كذلك، إذ العقلانية على قسمين كبيرين، فهناك العقلانية المجردة من الأخلاقية، وهذه يشترك فيها الإنسان مع البهيمة، وهناك العقلانية المسددة الأخلاقية التي يختص بها دون سواه، وخطأ المحدثين أنهم حملوا العقلانية على المعنى الأول، وخصوا بها الإنسان».

وفي وجهة نظري أن تقسيمات د.طه لدرجات العقلانية، لعله قد استقى فكرتها من القول السائد لدى الشاطبي بقوله بالعقل المستقل عن الدين والعقل التابع للدين. ففي رأيي أن الدكتور طه يرى في العقل المستقل عن الدين أنه هو العقل النظري «التجريدي»، أما العقل التابع للدين فهو العقل العملي بشقيه: «المسدد» و«المؤيد». ولعل هذا التقسيم المنطقي للعقل جاء انطلاقاً من تفرقة الدكتور طه بين «النظر الملكي» و«النظر الملكوتي»، فالأول يتقوقع عند حدود الظواهر، بينما الآخر يؤسس العقل في حدود الإيمان والاعتقاد، وليس العكس كما قال كانط الذي وضع الإيمان في حدود العقل.

والعقل المجرد حسب تعريف الدكتور طه عبارة عن الفعل الذي يطلع به صاحبه على وجه من وجوه شيء ما، معتقداً في صدق هذا الفعل، ومستنداً في هذا التصديق إلى دليل معين». هذا العقل النظري المجرد هو الذي صب عليه الدكتور طه جام نقده وتفنيد دعواه. وبغض النظر عن الانتقادات التي وجهت من قبل بعض المتأملين لمفهوم العقل المجرد كما جادت به ذهنية الدكتور طه، فلقد أراد طه بنقده للعقل المجرد أن يفتت البنية التي قامت عليها الحداثة الغربية وثقافتها، وأن يفكك هذا العقل وبين قصوره ومحدوديته.

أما «العقل المسدد فعبارة عن الفعل الذي يبتغي به صاحبه جلب منفعة أو دفع مضرة، متوسلاً في ذلك بإقامة الأعمال التي فرضها الشرع»، فالعقلانية المسددة بذلك تمثل البديل الممكن لمعالجة مشكلة حدود العقل المجرد أي هي عملية إكمال لهذا التجريد، وإعادة ربط العقل أو النظر المجرد بالعمل على مقتضى الشرع، «فالعقل المسدد هو إذا: العقل الذي اهتدى إلى معرفة المقاصد النافعة».

وقد حدد الدكتور طه عبد الرحمن ثلاثة شروط أساسية يجب توافرها في العقل المسدد حتى يكون محل اعتبار، وهي:

أ-موافقة الشرع: فلا يمكن أن يكون العقل مسدداً في أفعاله ما لم يوافق الشرع. «والحق كل الحق أن المرء لو أوتي من العمل ما أوتي، ودر هذا العمل عليه أو على غيره من المنافع المزعومة ما در، فلا ثقة بهذا العمل ولا عبرة بمنافعه حتى ينظر كيف هو عند أمر الله ونهيه وحفظ أحكام الشرع الإسلامي».

ب-اجتلاب المنفعة: «إن المنفعة الناتجة عن العمل الشرعي غير المنفعة، فهذه الأخيرة واقعة لا محالة في النقائص ولو تحرى فيها المرء ما تحرى، واتخذ من المثل غير الشرعية ما اتخذ».

ج-الدخول في الاشتغال: «حد الاشتغال بوجه عام هو الخروج من وصف النظر إلى وصف العمل، ومعلوم أن مفهوم الاشتغال قد هم القدامى كما هم المحدثين، ولكنه اكتسى عند هؤلاء مكانة متميزة حتى أصبح المعيار الذي يفزع إليه في كل شيء، وتواردت على هذا المفهوم أسماء مختلفة، مثل العمل، الشغل، الفعالية، النشاط، الإنتاجية، التطبيق، التقنية، وبالأخص الممارسة».

وهذا العقل المسدد الذي قوامه العمل في مقابل النظر في العقل المجرد، هو عرضه لآفتين هما: (آفة التظاهر وآفة التقليد).

ولما كان هذا العقل هو أكثر عرضة للآفات التي يمكن أن تَعلَق به وتقلل وتنقص من كماله، فقد وجد ضرورة الارتقاء إلى درجة أعلى منه وهو منزلة التأييد أو «العقل المؤيد»، وهو عند الدكتور طه أعلى مراتب الفاعلية العقلية.وبذلك يمكننا أن نقول إن العقل المجرد يطلب أن يعقل الأشياء من خلال أوصافها الظاهرة «رسومها»، بينما العقل المسدد يطلب أن يعقل الأشياء من خلال أفعالها الخارجية «أعمالها» أما العقل المؤيد فيطلب أن يعقل من الأشياء «ذواتها»، أي الأوصاف الباطنية والأفعال الداخلية للأشياء، بالإضافة إلى «رسومها وأعمالها».

بعد أن قمنا بدراسة مفهوم العقل عند د.طه ودرجات العقلانية التي قدمها. يمكننا الآن أن نواصل نقده الأخلاقي للحداثة الغربية، والذي انتقل بعده إلى التنظير والتأسيس لحداثة إسلامية بديلة.

العقلانية المؤيدة ونقد الحداثةالعقل الكامل هو العقل القادر على النقد والإبداع، الهدم والبناء، الإحلال والتجديد، هو عقل يملك فاعلية وقدرة على أن يجمع الأجزاء المتناثرة في إطار عام يضمن لها التكامل والترابط والفاعلية القويمة، هذا العقل الكامل الذي لديه آلية منهجية في الطرح والإزاحة والاستبدال، يكون لديه أيضاً قدرة على التنظير والإبداع والخلق وإعادة البناء من جديد.

وعندما يبلغ العقل كماله، يصبح غير متناف مع الغيب، قابلاً له. ويكون قادرا على تقديم نموذج نقدي تحليلي يعتمد آلية التفكيك والتركيب في تقويض الدعائم التي قامت وازدهرت عليها الحداثة الغربية.

من هنا جاءت العقلانية المؤيدة التي جوهرها العمل الأخلاقي في أعلى درجاته رقياً وسمواً «تتطلع –دائماً-إلى ربط العمل بالنظر، والقول بالفعل، والغيب بالعقل، والقيم بالعلم، والشاهد بالغائب، لتبدع بعد ذلك حداثة مؤيدة أيقن وأعقل وأكمل، وهي بذلك تمثل روح مبادئ الحداثة الإسلامية البديلة»، وروح الدين معاً.واعتماد تشكيل العقل (العربي الإسلامي) الحديث (والمعاصر على السواء) على الأخلاق بشكل أساسي وفاعل، يتيح لهذا العقل أن يتكامل ويتفاعل بأريحية مع الواقع ويبدع أنساقاً فلسفية ومعرفية قادرة على التصدي والصمود والمواجهة الحاسمة للمضامين الحداثية التي تلوح في الأفق -العربي والإسلامي-بمزيد من الفوضى والعبثية والانفلات من سائر القيم الأخلاقية التي تشكل جوهر هويتنا وقوميتنا الإنسانية. فالأخلاق هي المحدد الأساسي وليس الوحيد لماهية الإنسان المعاصر.

وللدكتور طه عبد الرحمن كتابين هامين في هذا السياق؛ كتاب صدر عام 2000 يحمل عنوانه مضمونه وهو؛ «سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية»، وفيه تعرض بالنقد لدعائم الحداثة الغربية ومظاهرها. والكتاب الآخر يحمل عنوان «روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية»، فهو استكمال للمشروع/الكتاب الأول الذي بدأه المفكر المغربي مساهمة منه في إثراء الفكر العربي والإسلامي.

فمن النقد الأخلاقي للحداثة الغربية في نموذجها الأشهر «نموذج الحداثة الأمريكية» إلى محاولة التأصيل لحداثة إسلامية ناهضة.

ضمانة قيامها، فاعلية الأخلاق وتكاملها لدى الإنسان العاقل العامل.وما يلفت النظر في كتاب (روح الحداثة) الذي قسمه المؤلف إلى مدخل تنظيري عام بعنوان (روح الحداثة وحق الإبداع)، وثلاثة أبواب هي : التطبيق الإسلامي لمبدأ النقد الحداثي – التطبيق الإسلامي لمبدأ الرشد الحداثي – التطبيق الإسلامي لمبدأ الشمول الحداثي، هو اعتماد الدكتور طه عبد الرحمن على منهجية تحليلية تركيبية رصينة للتنظير لمفهوم الحداثة الإسلامية بعد أن استطاعت في كتابه سؤال الأخلاق مجابهة الفكر الحداثي الغربي، وتقويض دعائمه دون الوقوع في آفتي التقليد والتبعية، اللذان يحدان من فاعلية العقل وقدرته على السير في درب النقد المبدع لأجل استحداث الجديد.

وقبل أن نقدم الرؤية الحداثية الجديدة التي أبدعتها العقلانية المؤيدة، نرى ضرورة أن نمهد لذلك بتقديم التعريفات العديدة لمفهوم الحداثة الغربية التي صاغها العقل الغربي ممثلاً في فلاسفته ومفكريه، والتي جاءت في عبارات ملتبسة وتعاريف عديدة تدل على عدم وجود اتفاق أو انسجام حول مفهوم الحداثة لدى العقل الغربي نفسه، «فمن قائل إن الحداثة هي النهوض بأسباب العقل والتقدم والتحرر، ومن قائل إنها ممارسة السيادات الثلاثة عن طريق العلم والتقنية: السيادة على الطبيعة والسيادة على المجتمع والسيادة على الذات، بل نجد منهم من يقصرها على صفة واحدة، فيقول إنها قطع الصلة بالتراث، أو إنها طلب الجديد أو إنها محو القدسية من العالم أو إنها العقلنة أو إنها الديمقراطية أو إنها حقوق الإنسان أو قطع الصلة بالدين أو إنها العلمانية، وأما هذا التعدد والتردد في تعاريف الحداثة، لا عجب أن يقال كذلك إنها مشروع غير مكتمل»، على حد تعبير يورغن هابرماس Jurgen Habermas.

«والملاحظ أن هذه التعاريف –على اختلاف قوة إحاطتها بمفهوم الحداثة، تقع في تهويل هذا المفهوم حتى تبدو الحداثة وكأنها كائن تاريخي عجيب يتصرف في الأحياء والأشياء كلها تصرف الإله القادر، بحيث لا راد لقدره، والحال أن هذا التصور للحداثة تصور غير حداثي، لأنه ينقل الحداثة من رتبة مفهوم عقلي إجرائي إلى رتبة شيء وهمي مقدس، لذلك يتعين أن نبدأ بالتخلص من هذا التَّشييء الذي أدخلته هذه التعاريف على مفهوم الحداثة، والسبيل إلى ذلك هو أن نفرق في الحداثة بين جانبين اثنين هما: (روح الحداثة) و(واقع الحداثة)».

وكما هو واضح أن العقلانية المؤيدة كما أرسى مبادئها الدكتور طه تفرق بين جانبين مهمين في الحداثة (روح الحداثة) و (واقع الحداثة) وهذه التفرقة حتى يدرك العقل العربي المجرد مدى خلطه للأشياء، والتراكيب والمصطلحات التي نقلها كما هي، دون نقد أو تمحيص، بينما العقل الكامل (المؤيد) تولى عملية الانتقاد والهدم والتقويض، حتى يصل إلى جوهر الحداثة وروحها التي تختلف اختلافاً كبيراً عن واقعها.

و«روح الحداثة هي جملة القيم والمبادئ القادرة على النهوض بالوجود الحضاري للإنسان في أي زمان وأي مكان، أما واقع الحداثة فهو تحقق القيم والمبادئ في زمان مخصوص ومكان مخصوص، وبالطبع فإن هذه التحققات سوف تختلف باختلاف الظروف الزمكانية. يترتب على هذا التمييز نتائج من بينها: أن الحداثة ليست تطبيقاً واحداً، بل تطبيقات متعددة باعتبارها روحاً لا تتجلى في مظهر واحد، فهذه الروح عبارة عن جملة من المبادئ ومعلوم أن المبدأ لا يستنفذه أبداً تطبيق واحد، إذ هو بمنزلة القاعدة العامة التي تجري على حالات مختلفة.

وأيضاً التفاوت بين واقع الحداثة وروحها، فهذا الواقع الذي يجسده التطبيق الغربي للحداثة ما هو إلا وجه من وجوه التطبيقات الممكنة لهذه الروح، وبالتالي فإن الواقع الحداثي غير الروح الحداثية تبعاً لخصوصية المجتمع الذي يطبقها».

وكما فرق العقل المؤيد بين «واقع الحداثة» و«روح الحداثة» -التي هي المبدأ والنموذج الذي يجب أن يحتذى-، فإنه – أي العقلانية المؤيدة-وضعت تعريفاً واضح المعالم للحداثة يعتمد على مقولة الإبداع ابتداء فالحداثة لا تكون إلا ابداعاً، ولو عرفت تعريفاً جامعاً لقيل أنها الإبداع، وندخل في الإبداع ما نشاء من الكلمات المماثلة كالابتكار، الاجتهاد، الاختراع، فروع الحداثة لا تنال إلا عن طريق الإبداع.

هكذا يؤكد الدكتور طه على الإبداع الذي هو مضاد للتقليد الذي ساد عقول مفكرينا، فأضحت العقلانية العربية المعاصرة تفكر على وحي الطريقة الفلسفية الغربية التي لها ظروفها الخاصة ومبادئها التي تتحكم في عقلانيتها.«انظر كيف أن المتفلسفة العرب المعاصرين يؤولون إذا أول غيرهم، ويحفرون إذا حفر ويفككون إذا فكك، سواء أصاب في ذلك أم أخطأ، وقد كانوا منذ زمن غير بعيد توماويين أو وجوديين أو شخصانيين أو ماديين أو جدليين مثله سواء بسواء، كما لو أن أرض الفكر لم تكن واسعة فيتفسحوا فيها، وقد ينقلب الواحد منهم بين هذه المنازع المتباينة من غير أن يجد غضاضة في ذلك بحجة أن ينهض بواجب الانخراط في الحداثة العالمية، أو أن ينهض بواجب الاستجابة للشمولية الفلسفية».

والعقلانية المؤيدة ليست قادرة فقط على توجيه النقد إلى الحداثة الغربية وإنما يمكنها أيضاً تأسيس حداثة إسلامية كبديل لهذا الاغتراب الحداثي، وما دام العقل المؤيد هو أجلى مظهر للتعقل لاكتماله ولقدرته على الجمع بين النظر والعمل والتجربة في آن واحد بعكس العقل المجرد الذي غايته إدراك الصفات أو العقل المسدد الذي هدفه بلوغ الأفعال، فامتاز هذا العقل المؤيد بالجمع بين النظر والعمل من جهة والتجربة الروحانية من جهة أخرى، كل ذلك في بوتقة واحدة هي دليل اكتماله وكماله.

«ولدفع شبهة التقليد عن الفكر العربي الإسلامي، وتحقيق شرط الاستقلال في القول الفلسفي المبدع، نادى د.طه عبد الرحمن إلى ضرورة التحرر من الحداثة الوافدة، وتحقيق الحداثة المبدعة الأصلية، أي الخروج من واقع الحداثة في تطبيقاتها الغربية المشهودة إلى روح الحداثة في قيمها الإنسانية ذات الاحتمالات التطبيقية اللامحدودة.

وبناء على هذا فإن د.طه عبد الرحمن يؤكد على أن روح الحداثة التي يفترض أن واقع الحداثة يطبقها أو يحققها، تقوم على ثلاثة مبادئ أساسية هي:

– مبدأ النقد: وهو الذي يخرج الحداثي من حال الاعتقاد إلى حال الانتقاد، وهو بدوره يقوم على ركنين أساسين هما (التعقيل/والتفصيل والتفريق).

– مبدأ الرشد: وهو الذي يخرج الحداثي من القصور واختيار التبعية للغير بمختلف صورها إلى الرشد ويقوم بدوره على ركنين أساسيين هما (الاستقلال وقوة الذات/والإبداع في الأفكار والأقوال والأفعال).

– مبدأ الشمول: وهو الذي يخرج صاحبه من الخصوص المجالي والمجتمعي إلى دائرة الشمول، وهو بدوره ينبني على ركنين أساسيين هما (الامتداد أو التوسع/والتعميم)».

وبناء على ذلك يمكننا القول إن «خصائص الروح الحداثية إذن هي أنها روح ناقدة وراشدة وشاملة».

بعد هذا العرض الموجز لمبادئ روح الحداثة، يرى الدكتور طه حق العرب في الاختلاف والإبداع الحداثي، حتى يمكن الخروج من عباءة التبعية والتقليد إلى مرحلة الإبداع الحداثي وفق مبادئ روح الحداثة، وحتى تحصل لدينا نحن العرب المسلمين ما يمكن تسميته بالحداثة المؤيدة أو عقلانية الحداثة المؤيدة.

لمحمد أحمد الصغير.

مؤسسة مؤمنون بلاحدود- موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate