القـرآن بين إرادة المعرفة وسلطة العقيدة.
مقدمة
الموقف من القرآن
مداخلتي هي قراءتي للنص القرآني، الذي هو خطاب يقول بالتأويل ويمارسه. وبالطبع، فإن مداخلتي تتمّ بحسب رؤيتي واستراتيجيتي في القراءة. ولكني أمارسها هنا وأختبرها، وربما أطوّرها، إذا استطعت، في ضوء قراءتين؛ الأولى هي فلسفية للمفكر المبدع والمجدّد فتحي المسكيني، مرجعي في ذلك مقالته: الفلسفة والقرآن؛ والثانية هي لاهوتية للباحث المحقق والمجتهد مولاي صابر أحمد، مرجعي في ذلك كتابه؛ منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم سورة البقرة نموذجا.
لا شك أن الكلام على القرآن، في ندوةٍ تدور حول التأويليات في الفكر العربي، يكتسب أهمية قصوى؛ لأنني أعتقد أن على طريقة التعامل مع القرآن تتوقف مصائر المجتمعات العربية، تخلفاً وتردّياً أو نهوضاً وتقدماً.
من هنا، فأنا أميّز بين موقفين من القرآن:الأول يرى بأن النص، بوصفه منزلاً أو يخص جماعة معينة، هو خطاب استثنائي لا يسري عليه ما يسري على بقية الخطابات، وإنما يحتاج إلى منهج خاص، أو إلى فهم خاص في التفسير والتأويل.
وفي المقابل، هناك موقف آخر يرى أن النص القرآني، هو خطاب بشري نطق به إنسان في زمن معيّن، وبلغة من اللغات الحيّة، هي اللغة العربية؛ وذلك بصرف النظر عن مصدره الإلهي؛ لأن هذه مسألة إيمانية ليست في المتناول، بل تخرج عن نطاق المداولة العقلانية.
ولذا، يتعامل أصحاب هذا الموقف مع النص القرآني كسواه من الخطابات التي ينتجها البشر ويتداولونها؛ وذلك بإخضاعه للفحص العقلي والتحليل النقدي، مع الإفادة من تطور العلوم والمعارف في مختلف الحقول والمجالات.
وهذا ما فعله القدامى في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية، فهم وإن سلّموا بقدسية النص أو سكتوا عليها، فقد أعملوا عقولهم في فهمه وتأويله، واستثمروا ما أفادوه من الثقافات القديمة والمعاصرة لهم، في ما أنشأوه من القراءات والتأويلات.
وهذا ما فعله المحدثون، منذ عصر النهضة، بانفتاحهم على عالم الحداثة، إن على المستوى الفكري، كما كان من أمر طه حسين وعلي عبد الرزاق، وإنْ على المستوى الاجتماعي، كما كان من شأن قاسم أمين أو الطاهر حداد. ولكن عادت الأمور إلى الوراء في ما بعد، وصرنا أكثر محافظة، كما تشهد محنة نصر حامد أبو زيد ونظرائه من المفكرين الذين تعرضوا لفتاوى الحسبة والتكفير.
النهوض يحتاج إلى فتح أفق جديد، تتشكّل معه لغة مفهومية مختلفة بقدر ما ينبني وعي مغاير
ولهذا التراجع مدلوله العميق: لا يكفي أن تتحرّر النخب لكي تتحرّر المجتمعات التي بقيت تحت هيمنة المؤسسات الدينية، التي تشهر سيف المقدس في وجه إرادة المعرفة وحرية التفكير، بمرشديها وعلمائها، بحركاتها وأحزابها، بدعاتها ومجاهديها.
كان هذا خطأً مميتاً؛ لأن النهوض يحتاج إلى فتح أفق جديد، تتشكّل معه لغة مفهومية مختلفة بقدر ما ينبني وعي مغاير.
وأساس هذا الانفتاح هو الموقف من القرآن، إذ ما زال هو العقدة التي تحتاج إلى فكّ شيفراتها، من المسبقات العقائدية والتهويمات الاصطفائية والحجب القدسية.
على هذا المستوى، نحن متخلّفون عن العصر العباسي الذي كان عصراً تنويرياً حقيقياً يتيح لشاعر كالمعري أن يوجّه نقداً ساخراً للأديان، بما فيها الإسلام:ولا تحسب مقال الرسل حقّاً ولكن قول زورٍ سطّروهثمّة تراجع عمّا أنجزه القدامى الذين تعاملوا مع العلوم والفلسفات والعقول بصفتها العالمية؛ أي كونها لا هوية لها، فتركوا لنا معارف (حقول، نظريات، مناهج، مفاهيم) غيّرت علاقتنا بمفردات وجودنا، بالهوية والمعنى، بالعقل والمعرفة، بالواقع والعالم…وهكذا، نحن إزاء موقفين: الأول يقرأ صاحبه القرآن بعين مفتوحة، ليفتح الآفاق أمام حركة الفكر وتطوّر المعارف، بالإفادة من كل مناهج الدرس وأجهزة الفهم، وبصرف النظر عن هوية منتجيها.
أما الموقف الآخر، فهو الذي يقرأ صاحبه النص ليسدّ الأفق، وكما تفعل الحركات السلفية التي تتعامل معه بلغة الملكية والمصادرة والاحتكار؛ إذ ماذا يعني أن يكون للقرآن إطاره الخاص في الفهم، أو منهجه الخاص في التفسير، سوى أن يبقى سلطة مهيمنة تختم على العقول والأجساد؟
فتحي المسكيني
بعد أن يستعرض المسكيني مختلف الدراسات والمقاربات حول القرآن، لدى الحداثيين والمعاصرين يستبعدها جميعها، بوصفها لا مصداقية لها، ولا تصلح لإقامة علاقة حيّة وصحية مع القرآن.
وما يأخذه على هذه القراءات التي يسمّي أصحابها أهل المراجعة (مراجعيين) جملة عيوب: منها أنها تؤول القرآن من غير فهم، أو ترى فيه نسخة عن التوراة والإنجيل، أو تطارده مطاردة فيلولوجية لتنكر عليه أصالته، أو تصدر عن ضغينة أنثروبولوجية تجاه الإسلام وأهله، أو تشكل قراءة إيديولوجية نضالية مزيفة من جانب دعاة التنوير على اختلاف اتجاهاتهم ومدارسهم.
المسكيني يرفض ما يرفضه من قراءات وتأويلات؛ لأنها أنجزت برأيه من “خارج أفق الفهم الذي تشكل على أساسه القرآن”
بعد هذا التوصيف، يأتي دور التشخيص؛ فالمسكيني يرفض ما يرفضه من قراءات وتأويلات؛ لأنها أنجزت برأيه من “خارج أفق الفهم الذي تشكل على أساسه القرآن”، ولأن أصحابها فكروا “خارج إطار الجماعة، التاريخية والحيّة، المؤمنة، التي ما تزال تتأوّل نفسها في ضوء معنى القرآن”.
ولهذه القراءة مأزقها؛ أشير إلى مسألتين:
1 – نحن إزاء قراءة أحادية تبسيطية تختزل تاريخ الإسلام الحضاري والمدني أو العقائدي والفلسفي، إذ المجتمع الإسلامي، ومنذ البداية لم يكن يوماً متجانساً أو واحدا، وإن تمّت الغلبة لفرقة على سائر الفرق أو للأكثرية على الأقليات والهويات الفرعية، بل هناك تعدّد وتنوّع أو اختلاف وتعارض، إن على مستوى عقائدي وفقهي، كما تجلّى ذلك في تعدد الفرق والمذاهب، أو على مستوى إبستمولوجي، كما تجلى ذلك في تعدد حقول المعرفة وفروع العلم، اللغة، البلاغة، الفقه، الحديث، التفسير، الكلام، التصوف، الفلسفة…صحيح، أن الغلبة تمّت للفقهاء وللمتكلمين، ولكن ذلك لا يلغي ما انطوت عليه الحضارة الإسلامية من الابتكار والتجديد أو الغنى والثراء.
والسؤال الذي يثور في وجه المسكيني، الذي يستشهد في كتابه بابن عربي، ماذا تفعل بابن عربي والفارابي والنظام والرازي والمعري، وسواهم من الذين أسهموا في صنع التنوير العقلاني في الحضارة الإسلامية؟
هل نعتبرهم مزيّفين؟
والسؤال نفسه يُطرح بالنسبة إلى موقف الحداثيين والمعاصرين، من طه حسين إلى نصر حامد أبو زيد، ومن جميل الزهاوي إلى محمد أركون ويوسف الصديق؟
2 – إن قراءة المسكيني لا تصل إلا إلى الباب المسدود على المستوى الحضاري والمدني. لنقارن هنا بين المسيحية والإسلام، فلو ظلت أوروبا تتأول هويتها بحسب أفقها الإنجيلي، لظلت غارقة في عصور الظلمات.
من هنا السؤال الذي يعترض مقاربة المسكيني في ما يخص القرآن:ماذا كانت حصيلة قرنين من مقارعة الغرب، والسعي إلى النهضة من جانب الجماعة الإسلامية، بوجهيها الدعوي والجهادي؟
وبسؤال أكثر إرباكاً: ماذا كان المآل بعد أكثر من مئة عام من محاولات محمد عبده لإحياء الفكر الديني وإعادة بنائه، بحسب منظومته العقائدية ومرجعيته في إنتاج المعنى؟
المنهج الذي يسميه صابر أحمد “منهج التصديق والهيمنة”، فإنه منهج “بنائي” يقضي بأن لا تفسر آيات القرآن باجتزائها من سياقها، بل بإحالتها بعضها إلى بعض
– إنتاج وتصدير النماذج التكفيرية الإرهابية.
– تحول الصحوة إلى عتمة والنهضة إلى تخلّف.
– الغرق في الحروب الأهلية.
– عودة الدين عودته المرعبة والاستعمار عودته المدمرة.
– تشويه سمعة العرب في العالم.
ملخص اعتراضي على هذه القراءة، أن المسكيني شاء لقراءته أن تكون فلسفية، ولكنه تكلم على الفلسفة بكلام غير فلسفي، فاستثمر ترسانته المنهجية ومواهبه النظرية العالية وثقافته الفلسفية الغنية، للدفاع عن موقف سلفي أصولي.
صابر مولاي أحمد قراءة لاهوتيةالقراءة التي يقدمها الدكتور صابر أحمد هي نموذج للقراءة اللاهوتية الإيمانية التي تعتبر أن الحق واحد، والطريق إليه واحد، وأن القرآن قد نطق بالحقيقة الأولى والأخيرة، بوصفه يجسد خاتم الرسالات وآخر المقررات من التعاليم والشرائع التي تنسخ ما قبلها، والتي يريد ربّ العالمين تبليغها، عبر رسوله إلى عباده لكي يسيروا عليها، إذ لا صلاح لهم إلا بها.
ومهمّة المسلم، الباحث أو العالم أو الداعية، هو تثبيت هذا الاعتقاد بالردّ على كل مخالف أو معارض أو مُنكر.
هذا من حيث المفهوم، أما من حيث المنهج الذي يسميه صابر أحمد “منهج التصديق والهيمنة”، فإنه منهج “بنائي” يقضي بأن لا تفسر آيات القرآن باجتزائها من سياقها، بل بإحالتها بعضها إلى بعض، بوصفها تشكل منظومة متماسكة مترابطة الحلقات والعناصر.
هذه القراءة لها أيضاً مأزقها؛ أشير إلى ثلاث مسائل في هذا الخصوص: الأولى أنها تركز على الفروق بين القرآن وبين التوراة والإنجيل، وتنسى الجامع بين الكتب الثلاثة، وهو الأهم. أتوقف عند مسألة العقاب في اليوم الآخر.
وأنا لا أجد ما أصف به العقوبة الأبدية في نار جهنم، لمن لا يقتنع بالفكرة الدينية، ويؤثر الاعتماد على عقله كمرجع له في تدبير شؤونه، سوى البربرية التي أسّست لها الديانات التوحيدية، بنسخها الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام. على هذا المستوى، يبدو الفرق بين الإسلام وشقيقتيه مجرد تفصيل؛ لأن الأساس العقائدي واحد.
النص الذي يدعي القبض على الحقيقة الأولى والأخيرة، فهو يحتاج إلى مقلد أو مريد أو داعية، وفي أحسن الأحوال يحتاج إلى شارح
الثانية: أنها تتعامل مع القضايا الفكرية من خلال مفردات المطلق والمقدس والواحد والثابت والنهائي؛ وفي ذلك اختزال للواقع المبنيّ بما هو متعدد ومتنوع، أو المنسوج مما هو ملتبس ومتعارض، أو المفخخ بالأهواء والعصبيات. وليس عبثاً أو ضلالةً، أن يسفر تاريخ الإسلام العقائدي عن كل هذا التعدد والتعارض في الفرق والمذاهب.
هذا هو الواقع البشري، بحيويته وغناه. وإنكار ذلك باسم الدين الحق أو الإسلام الصحيح أو الفرقة الناجية، ينتج المزيد من الصراعات والحروب.
الثالثة: أن أصحاب القراءة الأحادية، من لاهوتيين وفلاسفة، يتعاطون مع الفكر والعقل بطريقة خرافية أو سحرية؛ لأن مبناها هو تطابق الكلمات مع الوقائع من جهة، وتطابقها مع التصورات والمقاصد من جهة ثانية.
يكفي برأيهم أن يكون الواحد صادقاً، أو مجرداً من الهوى، أو يملك قاعدة منهجية صحيحة، حتى يميز بين الحق والباطل، أو بين الهدى والضلالة.
وهذه نظرة مثالية ساذجة لا تفسر لنا ما ينطوي عليه تاريخ الفكر الفلسفي، من التضارب والتناقض في المذاهب والمناهج أو في النظريات والمدارس؛ لأنها تتعاطى مع النشاط الفكري بعقل سينوي ديكارتي، أو كنطي هوسّرلي، بوصفه مجرد تأمل يتم في عقل محض، أو في ذات متعالية هي جوهر فكري يدرك ذاته بذاته، بمعزل عن حيثياته وشروط إمكانه من المواد والأدوات أو الوسائط والمؤسسات.
نحن لسنا جواهر روحانية، وإنما نقيم في أجسادنا، ونعي بدماغنا، ونوجد برغباتنا، ونفكر بلغاتنا، ونتواصل بخطاباتنا…ملخص اعتراضي على هذه القراءة، أنها قراءة نضالية تغلب الاعتبارات الأيديولوجية على المشاغل المعرفية.
ولذا أتساءل ما الذي تضيفه من الجديد إلى معرفتنا بمفردات وجودنا كالحقيقة والهوية والصدق والعقل؟ الحقيقة هي أقل حقيقيةً قراءتي للقرآن هي ثمرة من ثمار تمرّسي بالفكر النقدي التنويري في الثقافة العربية والإسلامية، وهي بنوع خاص ثمرة من ثمار انخراطي في نقد المشروع الحداثي الذي استهلك نفسه وبلغ مأزقه، على وقع ما شهدته البشرية، وما تزال تشهده، من التحوّلات الهائلة والتحديات المصيرية على غير صعيد وفي غير مجال.
والخروج من المأزق اقتضى مراجعة نقدية لمنظومة فكرية تلغّم الخطابات، حول العقل والحقيقة والهوية والمعنى والنص والصدق، كونها تتعامل معها بمفردات الماهية والثبات أو المماهاة والمطابقة أو التعالي والأحادية أو القبض والتحكم…
القرآن هو خطاب موجّه للناس أجمعين. فالله، بحسب السورة الأخيرة، ليس إله المسلمين وحدهم، بل إله الناس كل الناس
الوجه الآخر للمراجعة النقدية، هو إعادة التركيب والبناء، بالتعامل مع العناوين الحضارية والقضايا الفكرية، بمفردات الخلق والتحول أو السياسة والمداولة أو القراءة والاستراتيجية أو اللعب والرهان…
هذا التحوّل ينقلنا من عالم فكري إلى آخر، تتغير معه العلاقة بين النص والحقيقة، أو بين النص ومؤلّفه، كما بين النص وقارئه، وهو تغير مثلث يكسر منطق التحقيق ومنهج التصديق، ويفتح قراءة النصوص على معاني التعدد والتعارض أو الالتباس والاشتباه أو الازدواج والمفارقة…
من وجوه هذا التغير:
– النصوص تتساوى من حيث كونها تشكيلات لغوية أو وقائع خطابية، بصرف النظر عن مضامينها المعرفية وعوالمها الدلالية، سواء أكانت فلسفية أم دينية، أدبية أم خرافية.
– النص لا يصف الواقع كما هو على حقيقته، وإنما يشكل هو نفسه واقعة مضافة تخلق حقيقتها بقدر ما تغير علاقتنا بالواقع، وتندرج في سجل الحقيقة بقدر ما تشكل إضافة قيّمة على رصيد المعرفة.
وهكذا، فنحنُ لا نُدرك من الواقع ماهية ثابتة، وإنما نُنشئ معه علاقاتٍ متحولة أو منظومات متطورة.
– النص ليس أُحادي المعنى كما يُقدم نفسه، وإنما هو متعدد الرؤية والوجهة أو الدلالة والرواية. ولذا، فهو يتجاوز أطروحته.
إنه ليس مجرّد ما يقوله أو يثبته، وإنما هو أيضاً ما يستبعده ويسكت عنه أو ما يتناساه ويتجاهله؛ وهو خاصةً ما يمتنع عليه دركه أو فهمه: بداهاته ومسبقاته، صمته وفراغاته، ظلاله وعتباته، ممارساته المعتمة وآلياته اللامعقولة… وهكذا هناك دوماً فجوة في الخطاب بين الأفكار والوقائع، أو بين التصورات والأحداث، تشكل المنطقة غير المفكر فيها في كل ما نفكر فيه ونقوله.
هذا ما يجعل الواحد يكتشف بعد فوات الأوان، أن الأحداث تسير بعكس ما فكر فيه أو سعى إليه.
– النص يتجاوز مؤلفه بقدر ما يتعدى ما يقوله. ولذا ليس هو مجرد قول يعبر بصدق عما يقصده المؤلف. قد يخالف النص صاحبه أو يعارضه أو يخدعه ويكذبه من حيث لا يحتسب.
هنا أيضاً هناك دوماً فجوة بين ما يقصده المؤلف، وما يمكن أن يفهم من كلامه أو ما يمكن أن تؤول إليه أقواله.
نحن إزاء منطقة متوارية تحتلها مجازات اللغة وشطحات المخيلة ومخاتلة الرغبة وهوامات الهوى والتهويمات النرجسية، وكل ما يلعب من وراء الذات، ويفلت من سيطرة العقل وقبضة المنطق.
وهذا ما يفسر كيف أن من يعترض على نص من النصوص قد يفيد منه.
وأنا أفيد فوائد جلّى ممن أنتقدهم، لا مما طرحوه وحاولوا البرهنة عليه، بل مما تختزنه أعمالهم، بوصفها مادّةً للدرس والتحليل أو حقلاً للإمكان يتيح الحرث فيه واستثماره، إعادة التفكير في ما كنّا نفكر فيه.
– النص ليس ما نتماهى معه أو نصدّق قائله، ولا هو ما نرفضه أو ننفيه من الآراء والمواقف، بل هو ما نقرأه. وكل قراءة للنص، أكانت شرحاً أم تفسيراً، تحليلاً أم تركيباً، إنما تختلف عنه وعن سواها من القراءات.
وهكذا لا قراءة تقبض على معنى النص، كما لا نص يقبض على حقيقة الواقع.
فالمنتظر اليوم إنتاج قراءات جديدة تتجاوز ما قرره القدامى في ما يخص الأصول والأركان والفروع، لمجابهة التحديات الجسيمة التي تواجهها البشرية
– للنص بُعده الاستراتيجي؛ وإذا كان الخطاب يتناسى حقيقته ويحجب واقعه، فإنه يخفي لعبته ويتستر على سلطته. هذا شأن النص الفلسفي.
إنه لا يكشف لنا عن الحقيقة التي تسبق الكلام عليها، وفقاً لشروط الإمكان، بل يشكل بابتكاراته المفهومية والمنهجية، واقعة فكرية تخرق الشروط المسبقة وتكسر القوالب الجامدة أو تفكك الأنساق المغلقة، لكي تغير قواعد اللعب على ساحة الفكر، وتلك هي المفارقة.
فالفيلسوف ليس مجرد باحث محقق، وإنما هو خالقٌ، لاعبٌ وفاعل. وما يخلقه يغير مشهد الواقع، بقدر ما يترك أثره في العقول والنصوص أو في الأحداث والمجريات.
– خلاصة ذلك، أن النص ليس مرآة الحقيقة، ولا هو لسان حال المؤلف؛ فلا نص يتطابق مع واقعه، كما لا ذات تتساوى مع نفسها. قد يقول الواحد أحياناً كلاماً لا يفقه معناه أو يجهل مبناه أو يُفاجأ بمفاعيله ومآلاته.
هذا ما يجعل الحقيقة أقل حقيقية مما يزعم عشاقها، والعقل أقل عقلانية مما يحسب أهله، والصدق أقل صدقية مما يزعم قائله.
وهذه واحدة من سياسات الحقيقة؛ فنحن فيما ندعي معرفة الحقيقة، نصنع حقيقتنا بإنشاء خطاب نُقيم به علاقة مع الحقيقة، بقدر ما نلعب لعبتنا ونُمارس سلطتنا.
والدرس أن لا يثق الواحد لا بنفسه ولا بعقله، مما يعني الحاجة الدائمة إلى النقد لتجديد العدة الفكرية.
– ولأن النص هو كذلك؛ أي لا يعكس الحقيقة ولا يقول الصدق، فهو يشكل، وبعكس ما يُظن، إمكاناً خصباً للتفكير، عند من يحسن القراءة، باقتحام المناطق غير المفكر فيها، لتجديد لغة الفهم أو حقل الدرس أو منهج المقاربة.
وأما النص الذي يدعي القبض على الحقيقة الأولى والأخيرة، فهو يحتاج إلى مقلد أو مريد أو داعية، وفي أحسن الأحوال يحتاج إلى شارح. ولكن لا شرح يتطابق مع النص.
وهذه واحدة من مفارقات علوم التفسير: حلول التفاسير محل الأصل بوصفها المفتاح لفهمه وتأويله.
القرآن بين فتح الأفق وانسدادهفي ضوء هذا الانقلاب المعرفي، في منطق الفهم ومنهج الدرس، ينفتح أفق جديد لمقاربة القرآن، هذه أبرز قواعدها وخطوطها، كما أحاول صوغها:
– استبعاد القراءات الأحادية أكانت سلفية أم علمانية، لاهوتية أم إلحادية، إذ كلها تزعم أن هناك حقيقة مسبقة وجاهزة يمكن كشفها والتماهي معها أو امتلاكها واحتكارها. وكلها تشتغل بمنطق الإقصاء والنفي المتبادل.
– لا يحتاج القرآن إلى منهج خاص أو إلى فهم مخصوص، الأحرى أن يقرأ كواقعة خطابية، كما تقرأ سائر النصوص، بالإفادة من كل الثورات المنهجية والانقلابات المعرفية، وبصرف النظر عن هوية أصحابها.
– القرآن هو خطاب موجّه للناس أجمعين.
فالله، بحسب السورة الأخيرة، ليس إله المسلمين وحدهم، بل إله الناس كل الناس.
وإذا كان القرآن يخاطب كل الناس، وينطوي على رؤية كونية، كما يقرأ النص الدكتور صابر أحمد؛ فمعنى القول إنّه ليس ملك المسلمين وحدهم من دون سواهم، ولا ملك هذه الجماعة الإسلامية أو سواها.
قد يقرأ القرآن غير مسلم أو غير متديّن قراءة تنويرية تقرأ فيه ما لم يُقرأ من قبل، بكشف طيّة من طيّاته، أو إظهار مفارقة من مفارقاته، أو تسليط الضوء على بُعد من أبعاده. وبالعكس، قد يقرأه مسلم قراءة أصولية أحادية مغلقة تولد التطرف والعنف، أو قراءة إسقاطية مزيّفة تنسب له ما أنتجه العلماء من النظريات والمعارف.
– للقرآن تاريخه وله ذاكرته العقائدية التي تشمل كل ما سبقه من الكتب التي تأثر بها، وبخاصة تلك التي دار جدال بينه وبينها، كما هو واقع العلاقة بينه وبين التوراة والإنجيل.
هذه العلاقة لا تُقرأ بلغة المماهاة أو النفي، ولا بلغة التصحيح.
نحن إزاء ثلاث نسخ لنفس الأصل الإبراهيمي التوحيدي، لكل نسخة لغتها وظروفها وعصرها، كما لها خصوصيتها وفرادتها. كل نسخة لها قسطها من الحقيقة، بقدر ما تركت أثرها وخلقت مجالها التداولي، بما ولّدته وما تزال تولّده من القراءات التي لا تتناهى.
هل التوحيد الإسلامي هو أحقّ وأصدق وأصلح من الشرك المسيحي والتعدد الوثني؟ قد يرى المرء بعينه النقدية غير ذلك؛ فالوحدانية ما منعت المسلمين من النزاع والاقتتال منذ وفاة صاحب المشروع؛ لأن الوجه الآخر للوحدانية هو الاستبداد. بهذا المعنى، قد يكون تعدد الآلهة لدى اليونان أسهم في ولادة الديمقراطية.
قراءتي للنصوص، بما فيها القرآن، وبخاصة القرآن، هي قراءة نقدية حرّة، مفتوحة، لا يأسرني فيها اسم أو أصل قديم، ولا يستعمرني مذهب أو نموذج حديث
الضدان النص القرآني والخطاب الفلسفي للوصول إلى هذه النهايات الكارثية.
– لنتواضع، بكسر نرجسيتنا من أجل إيقاف الزحف البشري المدمر، الذي إذا استمر في التصاعد، لن تبقى الأرض صالحةً لا للإقامة ولا للوراثة.
من هنا، نحن لا نحتاج إلى من يقول لنا إن هذا الدين هو وحده دين الحق من دون سواه، نحن الذين نتقاتل على قضايا فائتة أو ميتة أو مُدمرة، كالاختلاف على طبيعة المسيح، أو الاختلاف حول من كان أحقُّ بخلافة النبي، أو الاشتغال بعقلية الثأر لأحداث ومجازر حصلت قبل أكثر من ثلاثة عشر قرناً.
لعلنا نحتاج اليوم إلى أن نقتدي ببابا روما الذي يتحدث عن الأرض بوصفها “بيت الإنسان”.
– الأمر الذي يقتضي أن تحتل مركز الاهتمام لدى المجتهدين والباحثين مبادئ وقيم وقواعد، كالتقى والاعتراف والتعدد والمواطنة والعمل الصالح والخير المشترك واللغة العالمية الجامعة وحمل المسؤولية تجاه الأرض بما فيها ومن عليها. مثل هذه العناوين هي أولى من المقدسات التي لا تُحسن الجماعات والحركات الدينية سوى انتهاكها، بتصرفاتها البربرية الناجمة عن الصراع والاقتتال من أجل عبادة الكتب والأطياف والصور والأضرحة…
– هل القرآن يتسم بالهشاشة كما يقول الدكتور المسكيني؟ هذا الوصف قد ينطبق، بشكل خاص على الإنجيل، بعد أن انكسرت شوكة الكنيسة التي تعلمنت ومرّت بمصفاة الحداثة والثورة والعلمنة، وكان ذلك لمصلحتها، إذ أسهم في أن تجدد المسيحية نفسها وتعيد بناء هويتها.
فهل يصر المسلمون على البقاء أسرى لنفسهم العميقة بثوابتها المعيقة وعقدها المستعصية، أم يقدرون على فكّ الطوق وتفكيك الشيفرة، لكي يصنعوا حاضرهم ويشاركوا في صناعة الحضارة القائمة، بابتكار الجديد والبناء من العناوين والمفاهيم أو الصيغ والقواعد؟!
– أخيراً، ثمة قضية قلّما يتطرّق إليها مفسّرو القرآن وقرّاؤه، هي أن خطابه هو خطاب العبودية؛ فالبشر هم عبيد لكائن أعلى خلقهم لكي يمتحنهم ويحاسبهم، وهذا نوع من اللعب، بل العبث الذي يشهد على أن الخطاب يتعدى قائله بقدر ما تفخخه تناقضاته.
وأعتقد أن هذه العبودية هي انعكاس للقيم التي كانت سائدة في المجتمعات القديمة. وقد لحق ذلك العلاقة بين المرأة والرجل، إذ عومِلت المرأة بوصفها كائناً أدنى، ناقصة العقل والحظ والإيمان.
وهذه قيم تتعارض مع حقوق الإنسان، وتسير بعكس اتجاه العالم، حيث المرأة تُثبت جدارتها في كل أوجه الحياة، بما فيها قيادة الدول، مقابل فشل الرجل على المستوى الإنساني أو السياسي أو الأخلاقي، كما تشهد قيادته للعالم المضطرب غاية الاضطراب.
خاتمة
التحرر من عبودية الأسماء والأصول
قراءتي للنصوص، بما فيها القرآن، وبخاصة القرآن، هي قراءة نقدية حرّة، مفتوحة، لا يأسرني فيها اسم أو أصل قديم، ولا يستعمرني مذهب أو نموذج حديث.
وما أحاوله في قراءتي هو التحرر من المسبقات العقائدية والمصادرات القدسية والسلطات الفكرية القابضة، أكانت دينية أم حداثية.
ولذا، لا أقرأ القرآن لكي أنفيه وأستبعده، ولا لكي أختم به على عقلي، وإنما أقرأه قراءة حيّة بقدر ما هي راهنة، ومستقبلية بقدر ما هي كوكبية، قراءة تُحيل النص إلى عملة ثقافية راهنة نصنع بها حياةً مُختلفة تُمكننا من أن نُحسن الإقامة في هذا العالم وعلى هذه الأرض.
من غير ذلك أعتقد أننا، كعرب، سنعيد إنتاج المشكلات بشكلها الأسوأ والأرهب، فندمر الحاضر ونلغم المستقبل، لكي نبقى نشازاً في هذا العالم، ننتحر من أجل الفوز برضوان الله في اليوم الآخر، أو نصدّر الإرهاب إلى بقية الأمم، أو نسطو على المعارف التي ينتجها الآخرون.
هذا هو رهاني كمشتغل بالفلسفة: أن أقرأ القرآن، وسواه من الكتب والنصوص، قراءة تفتح الأفق ولا تسدّه، توسّع الإمكان ولا تشلّه، بقدر ما تسفر عن اجتراح طريقة مختلفة في التفكير، أو تبتكر لغة مفهومية جديدة، تغني معرفتي بما أقرأه وبالعالم، وبالمعرفة عامة.
لعلي حرب.
مؤسسة مؤمنون بلاحدود-موقع حزب الحداثة.