حداثة و ديمقراطية

التحقق من البراغماتيةو التجريبية المنطقية؛ لويس وشليك.

1. لويس البراغماتي والقبلي لقد ادعى أوتو نيورات في سنة 1987، أنه في بلد مثل الولايات المتحدة “حيث خلق بيرس وجيمس وديوي وآخرون جوا تجريبيا عاما في نواح عدة”، وكانت الرؤى الفلسفية لدائرة ﭬيينا والمجموعات المرتبطة بها مرحبة بهذا وودودة، وأضاف نيورات: “إن طريقة التفكير الأمريكية الغنية جدا تتحد بنجاح مع الأوروبيين في هذا المجال، ومن المحتمل أن نتوقع نتائج مهمة من التعاون” (نيورات Neurath 1983: ص. 190). قبل بضع سنوات، شدّد تشارلز موريس، من جانبه، على أنَّ البراغماتية والتجريبية المنطقية “متكاملين جوهريا”، حيث إنَّه “يمكن توقع الكثير من الغنى الواعي بين التيارين” (موريس Morris 1937: ص. 23).

حسب موريس، كانت هناك تجربة علمية جديدة في طور التكوين؛ وذلك بفضل نوع من التناغم المحدد مسبقا بين دائرة ﭬيينا والبراغماتية الأمريكية.

لذلك، كان كل من نيورات وموريس على اتفاق تام مع وجهة نظر العلاقة بين البراغماتية والتجريبية المنطقية التي كان من الممكن الاعتراف بها حتى وقت قريب على أنها التاريخ الرسمي “للغنى المتبادل” الناجح. ومع ذلك، فقد أظهرت الدراسات الجديدة أن القضية أكثر تعقيدا مما يفترض عادة؛ وذلك راجع إلى سببين رئيسين: فمن جهة، افتتحت التجريبية المنطقية والبراغماتية تعاونا مثمرا للغاية ومدخرا من الصلات المهمة قبل هجرة أقطاب دائرة فيينا من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية (فيراري Ferrari 2017).

ومن جهة أخرى، لم يعد مقبولا اليوم الجدال حول أن التجريبية المنطقية المفترضة “الدوغمائية” “كانت مدفوعة ببراغماتية أكثر حرية إلى توجه حر” مستفيدة بذلك من الطريقة الأمريكية “الغنية جدا”- كما افترض نيورات- (انظر ليمبيك- ليلينو Limbeck-Lilienau 2012: ص. 108).[2] لتسليط ضوء جديد على هذه الشبكة التصورية والتاريخية الأشد تعقيدا، يبدو أن محاولة دراسة حالة “لويس وشليك” بدقة تحظى ببعض الاهتمام.

فمن المؤكد أن السياق التاريخي وسياق السيرة الذاتية لهذا التاريخ الآسر نشأ من خلال العلاقة بين شليك و”الوسط” الأنجلوساكسوني منذ متم العشرينيات من القرن الماضي (على الرغم من أن القول المفصل سيتم في موضع آخر).

إن إقامة شليك كأستاذ زائر بجامعة ستانفورد سنة 1929، وبجامعة بيركلي في سنتي 1931، و1932، ومشاركته في المؤتمر الدولي السابع للفلسفة بجامعة أوكسفورد سنة 1930، والمحاضرة التي ألقاها بلندن سنة 1932 حول موضوع “الصورة والمحتوى” تشهد على تبادل الأفكار (بين القارتين) “بين دائرة فيينا والمجامع الفلسفية في كل من بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية” (ستادلر Stadler 2003: ص. 167، ستادلر 2007: ص. 582). لم يكن شليك هو الوحيد الذي أعطى دفعة للحوار الدولي في الفلسفة العلمية، غير أنه على الأقل، لعب أيضا دورا مهما للغاية بفعل نشر العديد من المقالات باللغة الإنجليزية في السنوات الأخيرة من حياته.

[3] في سنة 1929، وهي السنة التي أقام فيها شليك في ستانفورد، رأت تحفته “العقل ونظام العالم” النور، لقد كان هذا الكتاب العميق، والذي أصابه كثير من الإهمال حتى الآن، نتاج برنامج بحثي مكرس لنظرية براغماتية عن القبلي. لقد رسم لويس الخطوط الرئيسة لهذه النظرية الأصلية في سنة 1923 لما تجاوز الخطوة الأولى في مسيرته الفلسفية من خلال كتابه المؤثر “بحث في المنطق الرمزي”، الذي نشر سنة 1918، والذي كان مستوحى بعمق من “صديقه ومعلمه” جوشيا رويسي Josiah Royce (لويس 1918: الفصل السادس). يقدم الكتاب “النظرية البراغماتية للقبلي”، والمساهمة المفصلة جدا الصادرة سنة 1926 حول “العنصر البراغماتي للمعرفة” وصفا جليا لمشروع لويس الفلسفي الرئيس، وبعبارة أدق، لقد كان لويس منخرطا في تأطير “البراغماتية التصورية” التي تمثل مساهمة أصلية على نحو بعيد لكلا التصورين البديلين الذين وضعهما كل من إرنست كاسيرر Ernst Cassirer وآرثر ﭙاﭗ Arthur pap (ستامب Stump 2011، ستامب 2017: ص. 94-101)، ومنخرطا كذلك في النقاش حول “نسبية القبلي” عند التجريبية المنطقية المبكرة (مورمان Mormann 2012: ص. 113-114). تعتمد فكرة لويس عن “البراغماتية القبلية” مثل «البراغماتية التصورية” على صياغة نظرية للمعرفة في ثلاثة عناصر (كالكاتيرا Calcaterra 2009). أولا، إن القبلي ليس إلا مفاهيم رياضية منطقية، مبنية بالتعريف، من دون أي إشارة إلى الصفات الحسية أو الأشياء المعطاة في التجربة (لويس 1970: ص. 244)، ومع ذلك، فهي “مبادئ إجرائية”: أي إن وظيفتها الرئيسة وظيفة “براغماتية” كما هو الحال بالنسبة إلى القبلي فيما يخص عملية الفحص (لويس 1970: ص. 232)، وبالتالي، فالقبلي يشير إلى الاستقلال عن التجربة، و”لكن على وجه الدقة” كما أكد لويس “لأنه لا يشترط أي تجربة” (لويس 1970: ص. 231). ثانيا، إن التجربة المعطاة هي عنصر مستقل تماما عن الفكر، مرتبطة على نحو خالص بالتجربة على هذا النحو. إن المعطى لا يتأثر بأي حال من الأحوال بالفكر، فهو يوجد في حد ذاته قبل الإدراك، أو قبل أي صورة من صور العلاقة بالعقل (لويس 1970: ص. 248)، وأخيرا، يعتمد تأويل التجربة على نشاط العقل، وهو أكثر من مجرد التجربة نفسها، إنه “الحقيقة” “المصنوعة بالعقل” كما أكد لويس بروح براغماتية أصيلة (لويس 1970: 240، 248-249). حسب لويس، إن التأويل الفعال الذي يقدمه العقل ليس راسخا في نسق ثابت للمقولات القبلية كما تصورها كانط (لويس 1970: ص. 241). ومع ذلك، فهذا لا يعني أن المعرفة ستكون ممكنة بدون “شبكة من المقولات والمفاهيم المحددة” من أجل استكشاف التجربة (لويس 1970: ص. 237). وفي المقابل، تحدد البراغماتية مفهوما للعقل يعترف تماما بأولوية “فعل التأويل بنتائجه العملية” (لويس 1970: ص. 240). يقر لويس، في مقال لاحق صدر سنة 1941 إن “التركز على الصلة بالقصد الفعال” يمثل بالضبط نقطة الاختلاف بين البراغماتية والتجريبية المنطقية. إذا كانت الأولى تهتم بصورة أو بأخرى بالتقنيات المعقدة للاختبار التجريبي (المعنى هنا لرودولف كارناب)، فإن الأخيرة تتجاهل نشاط العقل البشري “إلى أبعد حد أو على نحو كلي”، وتتصور التجربة أساسا للمعنى الفيزيائي، أي على نحو أبعد من لغة التجربة اليومية (لويس 1970: ص. 94-103).

[4] تبعا لذلك، أيد لويس، في عمله الرئيس الذي صدر سنة 1929 وجهة نظر فلسفية راسخة في تقليد البراغماتية الأمريكية، وخاصة في فكر بيرس، وعلى الرغم من أنه لا يزال يعتمد على نظرية المعرفة الكانطية بالمعنى الواسع، فإنه حسب ساندرا. ب. روزنتال “العمل الكانطي على نحو قوي وواعي من خلال تركيزه على “المقولات”، على الرغم من أنه كما هو الحال دائما مع لويس، يخضع المخطط الكانطي لتحول جذري” (روزنتال Rosenthal 2007: ص. 16).

من المؤكد أن هذا “التحول” يمثل جوهر مشروع لويس الفلسفي، ويمكن اعتباره أهم مساهمة له في الفلسفة المعاصرة. يمكن للمرء أن يلاحظ أن لويس توقع، إلى حد ما، المناقشة اللاحقة حول “المخططات التصورية” التي من شأنها تحريك الفلسفة التحليلية من الخمسينيات فصاعدا (بيك Beck 1953/1954؛ بيك 1969).

على غرار ذلك، فإن النقد التطلعي “لأسطورة المعطى” والذي من شأنه أن يلعب دورا رئيسا في الأجندات الفلسفية فقط بعد مساهمة ويلفريد سيلار الشهيرة الصادرة سنة 1956، فقد طوره لويس بالفعل، وإن كان ذلك ضمن منظوره الغريب، في كتاب “العقل ونظام العالم”.

في كتاب “العقل” للويس، لا يراهن هنا على الادعاء بأن المعطى يمكن تغييره أو حتى تجاهله من خلال تفكيرنا، ولكن هذه المعطيات التجريبية تحتاج دائما إلى تأويل من خلال تفكيرنا (هذه وجهة نظر بيرس، كما فهم على وجه اليسر). يقول لويس على نحو لا لبس فيه أنه “لا يمكننا وصف أي معطى محدد على هذا النحو، لأنه عند وصفه، بأي طريقة، فإننا نصنفه بوضعه ضمن بعض المقولات أو غيرها، واختيار بعضها، والتأكيد على خصائص منها، وربطها بشكل خاص، وبطرق قابلة للتجنب” (لويس 1929: ص. 52). لذلك، فإن مجال المعطى ينتمي إلى سياق محدد.

إن المعرفة تعني تجاوز المعطى، لكن هذا ممكن فقط باستعمال المخططات التصورية المحددة في الاصطلاحات الكانطية، و”التجربة الممكنة”، أو بالمعنى البراغماتي، قابلية تنفيد المخططات.

إن العلاقة بين المخطط والمعنى تجعل من الممكن تحديد ماهية المعطى على نحو صحيح، وبعبارة أخرى، فإن معرفة الشيء تتضمن نشاط العقل وتتطلب “اندماجه” كما احتج لويس بجلاء في قوله: “بالنسبة للعقل المستجيب والسلبي على وجه الخصوص، لا يمكن أن يكون هناك أشياء ولا عالم.” (لويس 1929: ص. 137).

[5] وبالتالي، تكمن في محور البراغماتية للويس فكرة الفلسفة ذاتها باعتبارها بحثا في طبيعة كل من القبلي والمقولات التي نستعملها في تأطير معرفتنا، والمعرفة تعني بالنسبة للويس مطلبا لكل المفاهيم التي تبدو ملائمة “للمعنى المشترك والقابل للمشاركة والتعبير.” (لويس 1929: ص. 80). من خلال هذا المعنى، تقدم الرياضيات أفضل توضيح “لجسم الحقيقة الذي نشأ عنه المفهومين الخالصين” وتنشأ عنه العلاقات المنطقية التي لا تشير إلى الصفات الحسية مهما كانت. (لويس 1970: ص. 244). لقد أكد لويس حسب لويس. و. بيك ذات مرة على أنه كانطي، لكنه كانطي- يشرح على نحو متناقض- أنه “الذي يختلف مع كل جملة في كتاب ‘نقد العقل الخالص'” (بيك 1968: ص. 273). ومع ذلك، ليس هناك شك في أن ما يميز كتاب “العقل ونظام العالم” بالضبط هو إعادة التفكير في نظرية كانط حول القبلي بطريقة غير عادية للغاية، على الرغم من أن أعظم دين فلسفي للويس كان بالفعل لكانط (مورفي Murphey 2006: ص. 99).

[6] في البداية، لقد تصور لويس القبلي الكانطي بمعنى براغماتي، وليس بمعنى تركيبي. وبتعبير أدق، فإن وظيفة القبلي تشتمل على تصنيف وترتيب للمادة التجريبية، وعلى الرغم من أن النقطة الحاسمة هي بالأحرى أنه بالنسبة للويس الطابع الأصيل للقبلي يكمن في تحليليه من خلال قوله: “القبلي ليس حقيقة مادية، أو تحديد مضمون التجربة على هذا النحو، ولكنه نهائي أو تحليلي بطبعه” (لويس 1929: ص. 231). إن القبلي شيء صحيح أو صادق بالتعريف، والذي تعتمد عليه التجربة بقدر ما يحتضن القواعد أو الشروط التحليلية، الشروط التي تُمكِّن علاقتنا من التجربة من خلال الاعتراف بالقبلي التحليلي كأساس من أجل بناء التجربة. يقترح لويس نوعا من التحدي للكانطية التقليدية؛ لأن المعطيات التحليلية للقبلي تصبح شرطا لإمكانية التجربة على العموم. يبدو أن لويس ليس له أدنى شك فيما يتعلق بهذا الجانب الحاسم “إن نشاط التسمية والتصنيف والتعريف في كل خطوة قبل التحقيق، لا يمكننا من التساؤل حول التجربة من دون شبكة من المقولات والمفاهيم النهائية، حتى تكون معانينا وتصنيفاتنا ثابتة، ولا يمكن للتجربة تحديد أي شيء على نحو معقول.” (لويس 1929: ص. 259). ولمزيد من التأكيد هنا، يشير لويس إلى “المعاني” (المقصودة) “بمعنى معايير التطبيق” للتعبيرات اللفظية، ويحدد مسبقا “الخصائص القابلة للاختبار، والتي يمكن التعرف عليها حسيا” في مجال التطبيق (لويس 1949: ص. 157).

[7] ومن جهة أخرى، يركز التدخل الثاني على القبلي الكانطي في البراغماتية التصورية للويس على معالجة مشكلة المقولات الكلاسيكية. تتمثل مشكلته الرئيسة في التعرف على مجموعة من المقولات التي نستعملها في معرفتنا على نحو دينامي، على غرار المحاولة المشابهة التي طورها من خلال الكانطية الجديدة لإرنست كاسيرر، والتي اقتبسها لويس ذات مرة على نحو ودي. (لويس 1929: ص. 363). حسب تصور لويس، علينا العمل مع “قائمة المقولات” (كما قال بيرس الشاب)، بما في ذلك، على سبيل المثال، الجوهر، والعرض، والسبب، والنتيجة، والشيء، والمضمون، والحدث، والملكية، والقانون إلخ وإن هذه المقولات الغامضة نسبيا، بالمعنى الصحيح هي “أدلة للفعل”. (لويس 1929: ص. 21)؛ أي الأدوات التي يتم إثبات صحتها من خلال ممارسة المعرفة والتواصل اللغوي. بالإضافة إلى ذلك، فإن فكرة القبلي- للوهلة الأولى- كما يلاحظ لويس ساخرا “تنم عن سحر وهراء خرافي”. (لويس 1929: ص. 22)، يمكن اعتبارها شيئاً سابقا عن التجربة. إنها على وجه التحديد كهدف سابق عن الهدف المراد تحقيقه. (لويس 1929: ص. 24). لذلك، بالنسبة إلى لويس، إن الأهم من ذلك هو أن المقولات ضرورية لتمكين التجربة- أي جعلها ممكنة- بالمعنى الكانطي الحقيقي: إن عالم التجربة لا يعطى بالتجربة. إنه مبني بالفكر من خلال معطيات الحس”. (لويس 1929: ص. 29). ويستطرد لويس قائلا: “إن المقولات طرف للتعامل مع ما يعطى للعقل، وإذا لم تكن لها نتائج عملية، فلن يستعملها العقل أبدا”. (لويس 1929: ص. 31)، كما أن “النتائج العملية” شرعية لصحة المقولات، وبهذا المعنى، لا يزال الاستنباط الكانطي للمقولات مقبولا، أو بدقة أكثر مقبولا بمعنى أن كلا من الاستعمال العملي ونجاح الأطر التصورية يحددان إمكانية التجربة، دون أي افتراض “لأنماط الحدس” أو لصور ثابتة في الفكر” (لويس 1929: ص. 320). ومع ذلك، فإن رفض “الحالة المتعالية المعجزة” للمقولات باعتبارها بنى أبدية للعقل البشري لا يعني في عقل لويس إلغاء وظيفتها كقواعد تجد تمثيلا في “نطاق واسع جدا للمضمون الحسي غير المتجانس”. (لويس 1929: ص. 99-100). من خلال وجهة النظر هذه، يقر البراغماتي لويس بدينه للإرث الكانطي، أو يمكن للمرء أن يؤكد أنه “يجب علينا أن نكون براغماتيين في النهاية، وليس منذ البداية”. (لويس 1929: ص. 267).

2. لويس وشليك والتحقق

[8] مع وضع هذا المبدأ في الاعتبار، اتصل لويس في أوائل الثلاثينات بشليك وكارناب، وبذل جهدا في سد الفجوة بين البراغماتية والتجريبية المنطقية. انعكست النتيجة المهمة الأولى لهذا التبادل الفكري في مقالة لويس “التجربة والمعنى” (التي نشرت في المجلة الفلسفية سنة 1933)، حيث لفت الانتباه إلى خطر الأنا-وحدية الذي رآه معيارا للتحقق من خلال التجربة المباشرة عند شليك وكارناب، يتمثل خطره في كونه يقوم على التجربة الذاتية التي يعيشها الأنا. فبالنسبة إلى لويس، بخلاف ذلك، تسترشد المعرفة ب”عنصر التوقع” الذي يندر بالمعطى، ومن تم، يشير التحقق إلى “قابل-للتحقق” وهو لفظ يشير ضمنيا – مثل كل لفظ ينتهي بلاحقة “قابل” على وجه العموم، ويشير إلى الشروط التي يمكن بموجبها توقع عملية التحقق وتحصيله على وجه الخصوص (على سبيل المثال لما نفكر في الجملة المتعلقة بالجانب الآخر من القمر). لقد قصد لويس باختصار، إعادة صياغة التصور الوضعي المنطقي للتحقق من خلال الإشارة إلى أنه “من أجل أن نعرف (على نحو تجريبي) هو أن نكون قادرين على توقع المزيد من التجربة الممكنة على نحو دقيق” (لويس 1970: ص. 268).

[9] يعيد لويس كذلك صياغة مفهوم التجربة، باعتباره نوعا من “النشاط”، مما يبرز الاختلاف الأساس بين البراغماتية والتجريبية المنطقية. يرى لويس أن “التركيز البراغماتي مرتبط بالقصد الفعال” و”الذي تم حذفه إلى حد كبير أو كليا عند الوضعية المنطقية” (لويس 1970: ص. 94). يمكن ملاحظة أنه من خلال “الوضعية المنطقية”، فإن لويس يقصد هنا كارناب الذي كان في نظره قد استبعد بدقة ما كان من المفترض أن يكون في جوهر التصور البراغماتي للمعنى، لا يفهم فقط بالمعنى الذي يقصده الوضعيون المناطقة ب”البروتوكولات” أو “جمل الملاحظة”، بالإضافة إلى ما يقصده البراغماتيون ب”مضمون التجربة”، لكن كذلك بمعنى أن النحو المنطقي لكارناب يتجاهل التمييز بين المعنى اللغوي والمعنى التجريبي “الذي يرتبط بعلاقة العبارات، وما يمكن أن يكون معطى بالتجربة” (لويس 1970: ص. 96-97). في هذه المرحلة بالتحديد، يدخل شليك إلى المشهد من خلال إجابة شاملة على ما قدمه لويس، وتتركز هذه الإجابة بشكل كبير على مفهوم “القابلية للتحقق”. قبل النظر في موقف شليك بالتفصيل، تجدر الإشارة إلى أنه منذ الأيام الأولى لتطوره الفلسفي أبان عن خلاف مع التصور البراغماتي للصدق، وعلى الأخص، مع تصور وليام جيمس في أطروحته “حول طبيعة الصدق في المنطق الحديث”، الذي نشر سنة 1910، إذ اعتبر شليك بالفعل النظرية البراغماتية خاطئة (بل وحتى “غير علمية”)؛ لأنها تخلط بين جوهر الصدق ومعايير التحقق منه ونتائج تطبيقه (شليك 1979: المجلد الأول، ص. 67). لقد وجد شليك أن وصف وليام جيمس W. James للصدق غير مقبول لسببين رئيسيين: فمن جهة؛ لأنه لما يجب التحقق من كل أحكام الصدق، فإنه لا يتسع، على العكس من ذلك، ليشمل كل الأحكام التي يتم التحقق منها (أو يمكن التحقق منها)؛ ومن جهة أخرى، لأن تعريف وليام جيمس ينسب إلى الصدق على وجه العموم “خاصية غير مميزة لها سواء في اللغة اليومية أو في اللغة العلمية؛ أي تلك الخاصية المرتبطة بالتحول” (شليك 1979: المجلد الأول، ص. 64-65). ومن هنا جاء ادعاء شليك بأنه يختلف “بشدة مع البراغماتية” (شليك 1979: المجلد الأول، ص. 88)، محافظا على النقيض من ذلك على أن الصدق هو “تناسق حكم مع حكم” من الأحكام مع بعض “الحالات الخاصة”. ستكون هذه الرؤية في محور عمل شليك الرئيس أيضا؛ أي “النظرية العامة للمعرفة” من سنة 1918، حيث أكد مرة أخرى على خلافه مع البراغماتية عند وليام جيمس، مقترحا بدلا من ذلك- كما فعل بالفعل في سنة 1910- أن “الميزة العظيمة” للبراغماتية تشتمل على وجه الدقة اعتبار “عملية التحقق” الطريقة الوحيدة للاعتراف بالطبيعة التواصلية للحكم، وبالتالي الاعتراف بالحقيقة”. (شليك 1974، المجلد الأول: ص. 96، شليك 1974: ص. 165).

[10] بعد خمس وعشرين سنة من دراسة شليك لمفهوم الحقيقة وهو يافع، كانت لديه الفرصة لإعادة النظر في تصوره السابق حول الإجراء البراغماتي للتحقق. وغني عن القول، إنه في هذه الأثناء أصبح السياق مختلفا عما كان عليه في فترة كتاباته الأولى. لقد شارك شليك في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي في مناقشة جملة البروتوكول. لقد أصبح معجبا بفيدغنشتاين ومخلصا له لفترة طويلة، وفي الأخير وليس الآخر، كان قد أيد تصوراً جديدا للفلسفة، باعتبارها نشاطا للتوضيح اللغوي. ومع ذلك، يبدو أن ارتباطا دقيقا بالبراغماتية قد عاود الظهور في مقالته المؤثرة للغاية “المعنى والتحقق”، والتي ظهرت تحت رعاية لويس نفسه في عدد يوليوز من سنة 1936 في “المجلة الفلسفية”. لقد تطلبت في الواقع مقالة شليك تحضيرا دقيقا، وتم نشرها بعد وقت قصير من وفاته المأساوية. يمكن اعتبار هذه المقالة وصيته الفلسفية، وهي بمثابة الرسالة في الزجاجة، تنص على المزيد من التطورات التجريبية المنطقية والفلسفة التحليلية (انظر شليك 2008: ص. 703-707).

[11] من المثير للاهتمام أنه في سنة 1936 ادعى شليك أن ملاحظات لويس حول التحقق بدت وكأنها تتفق تماما مع تجريبية جماعة فيينا (شليك 2008: ص. 716) بصفته تابعا مقتنعا ومتحمسا لتصور فيدغنشتاين للمعنى. لقد أكد شليك أن معنى القضية يتألف من “منهج التحقق منها” (شليك 2008: ص. 712). إن الحجة الأساسية هنا هي التحقق، يعني تماما كما يقترح لويس “إمكانية التحقق”؛ أي “قابلية التحقق”، ولكن ليس “يمكن التحقق منها هنا الآن” أو “متحقق الآن”. وبعبارة شليك الخاصة “إن القابلية للتحقق تعني إمكانية التحقق” (شليك 2008: ص. 217-218-220). بالإضافة إلى ذلك، من الأهمية بمكان أن نأخذ في الاعتبار أن إمكانية التحقق بالنسبة لشليك تعني دائما الاحتمال المنطقي. يتعلق التحقق التجريبي بصدق القضية، يمكن على سبيل المثال توافقها أو عدم توافقها مع قوانين الطبيعة. وعلى النقيض من ذلك، فإن معنى القضية؛ أي السؤال عن معناها، قد يطرح فقط في إطار الاحتمال المنطقي للتحقق.لاحظ أن هذه النقطة بالتحديد مطروحة في نقاش نونبر 1934 بين شليك وكارناب فيما يتعلق بمقالة لويس، والتي من خلالها كان كارناب يهدف إلى الرد عليه أيضا. بالنسبة إلى شليك، من غير المعقول الافتراض، كما فعل كارناب، بأن الاحتمال المنطقي للتحقق يمكن أن يتعارض مع قوانين الطبيعة؛ لأنه في هذه الحال، فإن رفض قانون طبيعي يعني أن القوانين الطبيعية يمكن أن تكون بلا معنى (رودولف كارناب 029-28-08). وعلى النقيض من ذلك، فإن القضايا التي لا معنى لها هي في رأي شليك هي القضايا التي تمثل المستحيلات المنطقية (شليك 2013: ص. 113-114؛ انظر أيضا فريدل 2013: ص. 103-104). لذلك، فإن النتيجة الأخرى هي أن التحقق كاحتمال منطقي يمثل الشرط الكافي والضروري للمعنى، ويظهر في الحال أن المشكلة ذات المعنى لا يمكن أن تكون “غير قابلة للحل من حيث المبدأ” (شليك 2008: ص. 708). إن المثال ذاته الذي يلفت شليك إليه انتباه المرء مرة أحرى هو السؤال الذي طرحه لويس حول الجانب الآخر من القمر (شليك 2008: ص. 728). لذلك، يؤكد شليك أنه “سكون من اليسير إظهار أنه لا يوجد اختلاف جدي بين وجهة نظر البراغماتية كما تصورها الأستاذ لويس، ووجهة نظر جماعة فيينا التجريبية (شليك 2008: ص. 716).

[12] ردًّا على اقتراح شليك حول مناقشة مقالة “التجربة والمعنى”، لاحظ لويس في رسالة صدرت في 14 دجنبر سنة 1934 أنه فيما يتعلق بالتحقق ربما لم تكن النقطة واضحة. لقد كان شك لويس على وجه الخصوص ينصب على الأنا-وحدية، التي أيدها كارناب، ولكن حسب لويس متضمنة أيضا في التحقق الخاص بشليك، لقد كتب لويس: “لم أكن أنوي اتهام دائرة فيينا بالأنا-وحدية الميتافيزيقية، لقد قصدت أن أشير إلى أنه، بالنسبة إليك، فإن المسألة بين الأنا-وحدية الميتافيزيقية وأي بديل ميتافيزيقي لا معنى لها، وقد قصدت أن اعترض على هذه النتيجة” (شليك، 107/ لويس-1). في الواقع، لقد كان لويس مقتنعا بأن فعل المعرفة الذي يتخذ طابعا أنا-وحدي “لم يكن أكثر غرابة ووهمية من وحدة التعالي الكانطي للإدراك” (لويس 1970: ص. 262). لم يكن شليك، من جانبه، راضيا كذلك عن “الأنا-وحدية المنهجية” لكارناب، وفي رده على لويس، عرف اختيار كارناب للمصطلح بأنه “مؤسف” (شليك 2008: ص. 735). لقد أكد شليك أنه من خلال نظرة فاحصة، فإن صيغة كارناب لن تكشف عن نوع من الأنا-وحدية، وإنما كشفت عن “منهج لبناء المفاهيم” (شليك 2008: ص. 735).

وقد أتاحت هذه الخطوة لشليك الفرصة لطرح الخطأ الذي يؤثر على أي طريقة في اعتبار العقل كشيء داخل الجسد في المناقشة، لقد بين أنه يتصف ب”المغالطة المثالية التي تؤدي إلى الأنا-وحدية” وقد شجب لويس خطرها على نحو جدي (شليك 2008: ص. 737).

[13] إن تقارب شليك المتأخر من لويس، جنبا إلى جنب مع اهتمامه بكتاب بيرسي و. وبيردمان Percy W. Bridgman “منطق الفيزياء الحديثة” (شليك 2008: ص. 131-190-714)، يشهد على زيادة الحوار بين التجريبية المنطقية والبراغماتية الأمريكية، وحتى قبل حل المجمع العلمي الأوروبي، فإنهما يمثلان” مشروعين متشابهين بدلا من مشروعين مختلفين” كما أكد ألان و. رتشاردسون (ريتشاردسون Richardson 2003: ص. 1). من وجهة نظر فلسفية، فإن السؤال يتعلق بما إذا كانت إعادة الفحص الدقيق لقضية شليك ولويس يمكن أن تقترح طرقة ثالثة محتملة تتجاوز فصل الطريقتين اللتين رآهما شليك بداية في وقت المقابلة الأولى لما سماه في سنة 1910 بالبراغماتية “غير العلمية” في ألمانيا. يبدو من المعقول اقتراح أن البراغماتية التصورية للويس وتصور شليك المتأخر للمعنى والتحقق قد وجدا نقطة تقارب مهمة حول التحقق، على الرغم من أن أصول كل واحد منهما لا تزال مختلفة كليا، وإلى حد ما، غريبة على نحو متبادل بينهما.

قد نضيف أنه ليس من قبيل الصدفة أن لويس لعب دورا رائدا في إعادة اكتشاف أبو البراغماتية، تشارلز ساندرز بيرس في ثلاثينيات القرن الماضي، وبالتالي، وضع المقدمات لمزيد من التطورات للحركة، كما تم توضيحه لاحقا، على سبيل المثال من قبيل ويلارد ف. أ. كواين Willard V. O. Quine في سنة 1981. لقد اقترح كواين نفسه أن المبدأ البراغماتي الشهير لبيرس يمكن اعتباره المحاولة الأولى لتطوير نظرية التحقق من المعنى المشابهة لتلك التي تشاركها دائرة فيينا في فتراتها الأخيرة (كواين 1981: ص. 30). الإضافة إلى ذلك، يمكن للمرء أن يقترح أن فلسفة بيرس المتأخرة قدمت تصورا متطورا لما يعنيه التحقق، بحيث أن بيرس لم يؤمن قط ب”أسطورة” قابلية الاختبار المحددة للقضايا التجريبية (شوفيري Chauviré 2001). وفي هذا الصدد، توقع بيرس “تحديد” التجريبية التي اتبعها كارناب في وقت لاحق، على الرغم من مفهومه للتجربة الذي كان على أي حال أكثر “ثراء”- حسب هوكواي- مما جعل نظرية التحقق عند جماعة فيينا قادرة على صياغته. (هوكواي Hookway 2013: ص. 33).

[14] إن إعادة التنظيم للبراغماتية من خلال مواقف بيرس تعتبر ذات أهمية حاسمة لفهم آراء لويس الخاصة فيما يتعلق بالتجريبية المنطقية. لقد سعى لويس من خلال إثبات التطابق الذاتي لبيرس بنوع من الميتافيزيقا إلى التأكيد أن الأسئلة الميتافيزيقية هي أسئلة أكثر عمومية، ولا يتم اختبارها من خلال التحقق التجريبي، يمكن أن تلعب هذه الأسئلة دورا حاسما في توجيه المناقشات التي لا بد منها، والأكثر عمومية حول طبيعة المعرفة وطبيعة العلم. كما احتج لويس في سنة 1941 بقوله: “هناك أسئلة تتعلق ببعض القرارات التي يجب أن تتخذ لصالح أي نظرية للعلم أو للمعرفة، أو لخاصية التجربة على وجه العموم، بالنسبة لها أي مجموعة محدودة من التجارب أو الملاحظات، مثل تلك الخاصة بالعلوم الطبيعية، فهي إما غير ضرورية أو غير مجدية أو كلاهما.” (لويس 1970: ص. 106). لقد زعم لويس أن الوضعيين المناطقة قد استبعدوا كليا وظيفة مماثلة للميتافيزيقا التي تصورناها، كما يمكن أن نقول، باعتبارها نوعا من الإطار العام الذي يمكن من خلاله التعامل مع الأسئلة الفلسفية كفئة من العبارات التي لها بالتأكيد معنى، لكنها ليست كذلك، إذ يمكن التحقق منها “في ظل الأوضاع الإنسانية، ولا تنتمي إلى مجال العلوم” (لويس 1970: ص. 107). هل كانت هذه الرؤية متوافقة مع رفض شليك الفلسفي للميتافيزيقا، ومتوافقة مع التحول اللغوي الذي دافع عنه منذ الثلاثينيات؟ يقود هذا السؤال إلى قضية ثالثة، أخذت لسوء الحظ القليل من الاعتبار في الدراسة حتى الآن.

3- التحقق والقيم الأخلاقية

[15] باتباع اقتراحات لويس، يجب بالتالي التأكيد على نقطة أخيرة. فقد أشار في مقالته “الوضعية المنطقية والبراغماتية” إلى جانب يلخص جيدا ما نراهن عليه هنا. “فيما يتعلق بمشكلات القيم والأخلاق، فإن التناقض بين الوضعية المنطقية والبراغماتية هو الأقوى […] فبالنسبة إلى البراغماتية، لا يمكن أن يكون هناك تقسيم نهائي بين ‘المعياري’ و’الوصفي'” (لويس 1970: ص. 106-112). كما كتب لويس إلى شليك في سنة 1934، فإن” الخط الفاصل بين التجريبي والميتافيزيقي وبين القابل للتحقق واللا معنى” بدا مرسوما “على نحو حاد للغاية” كما نفكر في “موضوعية أحكام القيم”. هذه النقطة بالضبط تحتاج إلى التأكيد عليها من أجل توضيح المناقشة بين شليك ولويس حول التحقق على نحو صحيح. بالنسبة إلى وجهة النظر الأساسية لدائرة فيينا، فالأحكام الأخلاقية والمعايير الأخلاقية لا تنتمي على العموم إلى المعاني المعرفية، وبالتالي، فهي بخلاف القضايا التي لها معنى، التي تهتم بالقضايا من حيث الصدق أو الكذب. يتم الحفاظ على وجهة النظر هذه عند كارناب منذ صدور كتاب “البناء المنطقي للعالم” (الصادر سنة 1928)، وعلى وجه الدقة حتى منذ مساهمته اللاحقة في مبدأ التحقق ورفض الميتافيزيقا.[9] في مقالة موجزة صدرت سنة 1934، حيث تم تمييز مجال القرار العملي والقيم الأخلاقية عن المعرفة العلمية، وعن العبارات القابلة للتحقق بفاصل حاد- يجادل كارناب بقوله: “إن الاعتبار العلمي” “لا يحدد الهدف الذي تم بناؤه [بإرادتنا].” (كارناب 1934: ص. 259). لذلك، فحسب كارناب، هناك تقسيم بين البعد الواقعي والمجال المعياري لا يمكن تجاوزه.

[16] وعلى النقيض من ذلك، أوضح لويس في سنة 1936 أن المشكلة تشتمل فقط على تحديد ما إذا كان من الممكن حصر العبارات المعيارية في مجال اللغة التي لا معنى لها أو في اللغة “العاطفية” (لويس 1970: ص. 152). فلرسم حل بديل، يقترح لويس أن يأخذ في اعتباره تصور اختلاف اللغة عن البنية التحليلية الصورية التي تميز بها كارناب. وعلى الرغم من أن لويس لم يتأثر ب”التوجه اللغوي” الذي فُتح من قِبل كتاب “الرسالة” لفيدغنشتاين، إلا أنه يبدو هنا شديد الحساسية للاستعمالات المختلفة للغة (سواء في الحياة اليومية أو في السياق العلمي). إن الاستعمال الذي اعتبرته دائرة فيينا مهملا على نحو مبالغ فيه هو “الاستعمال التعبيري”، الذي يستلزم القدرة على التعبير عن التجربة الحية، وعن المشاعر، وعن التقدير الجمالي أو الأخلاقي، وعن الحدس، وعن الخيال. فبما أن مجال الحياة الإنسانية هذا يبدو مختلفا تماما عن مجال الحكم والإدراك والمعرفة والتحقق للوهلة الأولى، فإنه الغموض الغريب-كما يعتقد لويس- ينشأ عن فحص مسألة المعيارية ومسألة استعمال اللغة. وعند جماعة فيينا، على وجه الخصوص، تم إهمال المعاني التعبيرية، انطلاقا من افتراض أن فئة العبارات المعرفية تطال فقط قضايا يمكن التحقق منها، أو تكون صادقة أو كاذبة ومتعلقة باللغة الحاملة للمعنى. فحسب لويس، يمثل هذا التصنيف الضيق ببساطة “خلطا” يجب أن نتناوله كنتيجة لمعيار التحقق غير المبرر، الذي “ينكر إمكانية المعنى الموضوعي في حال التنبؤات القيمية” (لويس 1970: ص. 157). بالإضافة إلى ذلك، يقوم فشل مماثل على فشل آخر يتعلق بمفهوم الموضوعية (بالمعنى البراغماتي الأصيل) والذي يفترض مسبقا وينطوي في آن واحد على علاقة بين الذوات، أي إمكانية إيصال معنى يتجاوز المخاطر- التي لا يتجنبها كارناب- لإضفاء الشرعية على نوع من الأنا-وحدية. وباختصار، بالنسبة للويس، فإن “الحجة الدامغة” التي لم يشاركها كارناب تؤدي للأسف إلى استنتاج مفاده أنه “لا يوجد قانون ضد تعريف معاني القيمة المشتركة بين الذوات بالنسبة إلى سلوك جماعة” (لويس 1970: ص. 158). بناء على ذلك، يبدو من المعقول للغاية أن نعتقد أنه “سيكون من التناقض الشديد أن نقول أن مثل هذه العبارات التعبيرية ليست صادقة أو كاذبة” (لويس 1970: ص. 155).

[17] لقد كان التحدي الذي طرحه لويس على دائرة فيينا ذا أهمية بالغة على وجه التأكيد، فهناك فرق مهم آخر تم تجاهله عادة من جانبه، لقد كان شليك منخرطا فعليا في خلق أخلاقيات علمية خالية من الميتافيزيقا، ومتشككا مع ذلك في الحالة غير المعرفية للأخلاق التي يدعيها أتباع التجريبية المنطقية، كما هو الحال في الحالة المؤثرة للغاية على سبيل المثال في نظرية القيم العاطفية عند آير (آير 1946: ص. 102-120). لقد تم تفصيل أخلاقيات شليك الطبيعية في كتابه “مشكلات الأخلاق” المنشور سنة 1930، والذي اقتبس منه لويس أيضا في المقالة التي فحصناه أعلاه. يبدو للوهلة الأولى أن عمل شليك مشبع على وجه كلي بالتوجه اللغوي الذي افتتحه فيدغنشتاين، كما يبدو جليا من خلال قراءة إعلان المشروع في المقدمة، حيث يؤكد شليك أن الفلسفة لا ينبغي أن تكون علما أو “نسقا” من القضايا، وإنما هي نشاط. فعلى عكس مفهوم الفلسفة الذي أوضحه شليك بالفعل في مقالته الأساسية المتعلقة بنقطة التحول في الفلسفة (شليك 2008: ص. 213-222)، يجب تعريف الفلسفة على أنها توضيح لمعنى القضايا العلمية أو اكتشاف معناها، وبالمعنى الصحيح للعبارة، فهي ليست بحال من الأحوال مشروعا علميا، ولكنها مجرد نشاط “يشكل جوهر الفلسفة، ولا توجد قضايا فلسفية، بل توجد فقط أفعال فلسفية” (شليك 1939: ص. 13 من المقدمة). ومع ذلك، يهدف شليك في تساؤلاته الأخلاقية إلى تقديم مساهمة في “المعرفة العلمية” للسلوك الأخلاقي الإنساني، حيث إن أساس الأخلاق نفسي، فالأخلاق: على الرغم من أي التزام برؤى فيدغنشتاين حول الأخلاق والقيم، فإنها “علم واقعي” (شليك 1939: ص. 2-20).

[18] ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الأخلاق باعتبارها علم نفسي أو- بعبارة أخرى- باعتبارها مجالا طبيعيا ومعرفيا تتغلب على “التقسيم العظيم” أي التقسيم بين العلوم الواقعية والعلوم المعيارية. بالنسبة إلى شليك، فإن هذا النوع من التضاد “خاطئ من أساسه” (شليك 1939: ص. 17)، كما يصر على أن الفلاسفة يجب أن يتصوروا الأخلاق باعتبارها علما للواقع الإنساني. لذلك، يبدو من الصواب تماما رفض الأخلاق الكانطية، وعلى العموم “ففخر هؤلاء الفلاسفة الذين يعتبرون مسائل الأخلاق هي أكثر المسائل نبلا ورفعة لمجرد أنهم لا يشيرون إلى المشترك، ولكنهم يهتمون بما يجب أن يكون خالصا”. (شليك 1939: ص. 21). في التعارض الجلي عند كارناب، يقترح شليك أن الأخلاق تتطلب تفسيرا للحكم الأخلاقي والسلوك الأخلاقي؛ لأن “جوهر الأخلاق” يمكن تفسيره فقط من خلال استكشاف أسباب الأفعال البشرية، يعني من خلال نظامهم وانتظامهم، فالطريق المستقيم للأخلاق طريق نفسي، وبهذا المعنى، لا تتميز الأخلاق باستقلالها المفترض عن التجربة، وإنما تتميز ببحثها عن الحقيقة (شليك 1939: ص. 26-30).

[19] في آخر المطاف، تتضمن مقاربة شليك للمشكلات الأخلاقية معارضة للآراء التقليدية للقيم وأخلاق القيم التي مثلت اتجاها واسع الانتشار داخل الفلسفة الألمانية في ذلك الوقت (يمكن للمرء أن يذكر في هذا الصدد شخصيات من قبيل هنريك ريكيرت Heinrich Rickert أو ماكس شيلر Max Scheler على سبيل المثال). بالنسبة إلى شليك، بخلاف التصور الخاطئ للقيم باعتبارها “مطلقة” ومستقلة تماما عن التجربة النفسية وعن عملية التقييم النفسي، فإنه يمكن تطبيق مبدأ التحقق في مجال القيم كذلك. فالقيم ليست صحيحة “في حد ذاتها”، ولكنها نتاج لأصل نفسي، بحيث تكون متجذرة في الحالة التجريبية، والأهم من ذلك، فإنه يمكن التحقق منها في ضوء بعض الوقائع النفسية المعطاة. بسبب الأساس النفسي للقيم والأفعال التقييمية، فإنه يبدو من المبرر العتور على “التحقق من قضية تتعلق بالقيم في حصول تجربة محددة”. لذلك، يكمن معيار التحقق فيما يتعلق بالقيم الأخلاقية-كما يقول شليك- في العتور على “التجربة المتوافقة” أي في “الشعور بالمتعة” التي توقظهم. فهذا الشعور يستنفذ على نحو تام “جوهر القيمة” (شليك 1939: ص. 105).

[20] لننتقل الآن إلى لويس، لا يمكن اعتبار الموقف النقدي الذي يتخذه تجاه كارناب صحيحا بالنسبة إلى شليك أيضا- في البداية، يتفق لويس مع شليك فيما يتعلق بالحالة التجريبية لأي نوع من التقييم، الذي يمكن التحقق منه، وبالتالي اختباره على أنه صادق أو كاذب، كما سيقترح لويس أن “التقييمات شكل من أشكال المعرفة التجريبية، لا تختلف جوهريا عن ما يحدد صحتها أو تبريرها، وعن الأنواع الأخرى من المعرفة التجريبية” (لويس 1946: ص. 365). فعلى الرغم من التزامه العميق بأخلاقيات كانط، فإن لويس يظل براغماتيا في النظر إلى الأفعال الإنسانية على ضوء النتائج التي يمكن أن تتنبأ بها. لذلك، فعند القيام بذلك، فإننا نتعامل مع “واحدة من أهم القدرات المعرفية” (المصدر نفسه). وهذا يضعه على مسافة بعيدة عن شليك. في تأطير هذا الفضاء التصوري للأخلاق والأحكام القيمة، يحاول لويس أن يأخذ في الاعتبار مشكل موضوعية المجال الأخلاقي على نحو جدي، إذ إن هذا المجال ينتمي إلى التبادل الذاتي، وينتمي إلى مجال التواصل الإنساني، وإلى مشروع حياة اجتماعية مرغوب فيه كونيا باعتباره مشروعا غنيا وموجه عقلانيا بأهداف مشتركة. يؤكد لويس في هذا السياق مرارا وتكرارا على أهمية التحديد الصحيح لدور “الاختبار النهائي للحكم”، والذي لا يتألف إلا من لفظين، وهما التنبؤ والتحقق (لويس 1970: ص. 173-174).

[21] هناك شيء آخر مشترك بين لويس وشليك، ولكن بالتأكيد ليس مشتركا بين لويس وكارناب، يشترك لويس وشليك في الافتراض الأساس بأن القيم والأحكام الأخلاقية (أو القضايا) تعرض مضمونا معرفيا، لذلك، فإنه يمكن التحقق منها بالمعنى الأوسع للتحقق كما تم مناقشته خلال الثلاثينيات داخل جماعة فيينا، وفي جامعة هارفارد كذلك. وعلى النقيض من ذلك، عند مقارنة مفهوم لويس وشليك للتجربة، يمكن للمرء أن يستنتج أن مفهوم شليك للتجربة كان أضيق بشكل جلي من مفهوم لويس. فكما أوضحت ساندرا روزنتال بالنسبة للويس، فإن “الوسائل والغايات مندمجة على وجه لا ينفصم في الطبيعة الكلية للتجربة المستمرة في تدفقها الزمني” بينما “تدمج أخلاقياته أهمية النتائج ودور الأوامر المتجذرة في قدراتنا الطبيعية، باعتبارها موجودات زمنية، وأهداف موجهة، وحلولا لمشكلات”. (روزنتال 2007: ص. 139-151). سواء كان الانطلاق من مثل هذا التصور للتجربة من شأنه أن يجعل من الممكن توسيع وإثراء رؤى جماعة فيينا في فترة “التلاقح” بين التجريبية المنطقية والبراغماتية، فإن هذا السؤال لا يتطلب اعتبارات تاريخية، وإنما يتطلب اعتبارات منهجية، لكن هذه الاعتبارات بالطبع، مهمة من أجل المزيد من البحث.

لماسيمو فيراري – جامعة تورينو، إيطاليا ترجمة أحمد فريحة.

مؤسسة مؤمنون بلا حدود_موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate