النقاب في شمال سوريا.. بين ثقافة المجتمع وقوى السلطة الناعمة؟
دائما ما يرتبط لباس الأفراد بالمكان ارتباطا وثيقا، ويمكن ملاحظة أن مجتمعا ما يتشابه في تركيبته الدينية والقومية يختلف في جوانب أخرى كلباس أفراده، وفي بعض المجتمعات يبرز لباس النساء كزيّ تمييزي أكثر من غيرها، وفي سوريا وحدها، التي تضم العديد من الفئات المجتمعية مختلفة الأعراق والأديان هناك تنوّع واسع في لباس المرأة ضمن بلد واحد، وأحيانا حي واحد، لكن الأمر يبدو مغايرا إذا تحدثنا عن مناطق شمال غرب سوريا، حيث بدأت تتشابه النساء في لباسهنّ إلى حد بعيد، وربما أصبحت تلك المناطق ذات صبغة لونية واحدة لزيّ المرأة، إنها صبغة قاتمة، إذا تصفحنا بعضا من صور التجمعات النسائية هناك، أو صور المدارس أو الجامعات وغيرها مما ينتشر في الإعلام.
ولأن حرية لباس المرأة ربما أكثر أنواع الحرية جدلا، ويتشارك بالبت فيها صاحب السلطة على المرأة، يبدو أن إثارة موضوعات تتعلق فيه، يمكن أن تشعل حربا طاحنة، وهو ما يمكن ملاحظته بالعديد من النقاشات التي تطرح عبر مواقع التواصل الاجتماعي ويمكن أن تنتهي بتهديدات بالقتل أحيانا.
قبل أسابيع قليلة، انتشرت صور لحفل تخرج دفعة من طالبات جامعة “شام”، بمدينة إعزاز (شمال غربي مدينة حلب على مسافة 48 كم)، وقد ظهرت الخريجات كلهن منقبات، ما أثار سجالات بين أطراف متعددة، اعتبرت أن منهن حتما مجبرات على هذا اللباس “النقاب”، ويعكسن “مأساوية” الوضع الحالي في مناطق شمال سوريا الذي بات يتشكل على أساس لون ونوع مجتمعي واحد، وبين من اعتبر أن الموضوع غير قابل للنقاش، فهو “حرية شخصية”، لكن التعبير عن رفضه، “قلّة شرف ودين”، بحسب بعض الآراء.
إكراه ومقايضة
النقاب مقابل حرية العمل، كان ذلك شرط الإدارة التابع لها مخيم الأرامل الذي تسكنه ابتسام المحمد (اسم مستعار لسيدة ثلاثينية) حيث تقول في حديثها إن إدارة المخيم اشترطت عليها لتنفيذ مشروع أرادت العمل عليه في المخيّم، أن ترتدي النقاب، لكنها رفضت، لأنها لا تحب فعل أمر غير مقتنعة فيه بالإكراه، وفق تعبيرها، وبالنهاية لم تستطع تنفيذ المشروع، علما أن ذلك المخيم يتبع لإدارة شؤون المهجرين، وعلمنا أن الإدارة كانت تؤيد فرض النقاب على السيدات عند خروجهن من المخيم، “لأنه في مصلحة السيدة”، وفق زعم شؤون المهجرين التابعة لـ “حكومة الإنقاذ” آنذاك.
أما رانيا ياسين (42 عاما)، تحدثت عن محاولات للفصائل المسلحة والجهادية فرض النقاب بداية سيطرتها على مناطق محافظة إدلب، ففي عام 2015 تقريبا ومع سيطرة الفصائل على المناطق، كانت هناك محاولات لفرض النقاب بشكل واسع عن طريق خطب الجمعة مثلا والدعوة له، لكن ذلك لم يلق قبولا لدى الأهالي، وتقول رانيا بأنها ترتدي في بعض المناطق لباسا مختلفا عن مناطق أخرى في ريف إدلب، ففي بعض المناطق يصبح بإمكانها ارتداء بنطال الجينز مع معطف طويل.
رصد عبر صفحات تابعة لتجمعات نسائية ومدنية عامة، صورا تظهر فيها نساء سوريات منقبات بصورة كبيرة في مناطق ريف حلب الشمالي، وتكاد تكون نسبة المنقبات أكبر بكثير ممن هن غير منقبات، وعن ذلك لفتت بعض السيدات إلى أن بعض النساء يتنقبن بشكل خاص عند التصوير، حتى لا يُعرفن للعامة في الصور، وربما صور النساء في أي مركز اجتماعي مليئة بالمنقبات لهذا السبب.
بدون إجبار
بعض السيدات يرتدين النقاب بدون إي إجبار من أحد، حيث تقول هدى أحمد، 34 عاما (اسم مستعار) وتعيش في منطقة كفر دريان بريف إدلب إنها كانت تعيش قبل سنوات في مخيم للأرامل، وبعد مرور شهرين من سكنها هناك، ارتدت النقاب بدون إي إجبار من أحد، وهي لا تزال ترتديه على الرغم من مغادرتها للمخيم.
من جهتها تروي زهراء عثمان (اسم مستعار)، من إدلب قصتها مع النقاب ، بأنها كانت ترتديه لدون فرض من أحد لأن مجتمعنا يقتضي ذلك، ولكنها استبدلته بشال تلفه على وجهها، عند انتقالها إلى تركيا.
في الوقت الذي نفت فيه بعض السوريات اللواتي يعشن في مناطق الشمال الغربي أن يكون هناك فرض للنقاب عليهن، أشارت الكثيرات إلى أن هناك محاولات من قبل المجتمع والسلطة لفرضه.
عن ازدياد نسبة المنقبات في الشمال السوري، أرجعت بعض النساء ممن تحدث إليهن السبب في ذلك، إلى مرور تشكيلات إسلامية متطرفة، أثرت خلال فترة من الزمن على شكل اللباس في تلك المناطق.
يمكن اعتبار أن إكراه المرأة على ارتداء زيّ معين من الملابس أو منعها عنه، أمر ممارس على المرأة في دول ومناطق عدة حول العالم، وغالبا ما تكون ذات مرجعية دينية، مثلما حدث خلال سيطرة التنظيمات الجهادية – الإرهابية على مناطق في سوريا، أو دوليا كما فرضت حركة “طالبان” النقاب في أفغانستان قبل أشهر، أو كما هو حال الحجاب الإلزامي في إيران، أو العكس عندما مُنعت نساء من ارتداء الحجاب في أماكن الدراسة في بعض دول العالم، أو قمع المسلمات من إظهار ديانتهنّ وممارسة حقهنّ بالتعبير عن معتقداتهنّ الدينية، مثل مسلمات الإيغور الصينيين والمسلمات في الهند وغيرهنّ.
الأمم المتحدة، تقول إن لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدى.
مظاهر سياسية
المكان والزمان، متغيران يحكمان مظاهر اللباس بشكل أساسي، وبتغيّر بسيط بأحدهما أو كليهما، تتغيّر تركيبة المجتمع كليا، فما يلبسه الناس اليوم، يختلف عمّا كانوا يلبسونه قبل مئة عام، وهذا ما ينضوي عليه معنى اللباس العرفي، الذي تحكمه الأعراف، وتتغير على مدار سنوات مظاهره، بذائقة سامية أو منحدرة أحيانا.
أما اللباس البيئي، وفقا لما يقول الكاتب والباحث المتخصص بالإسلام السياسي، أحمد الرمح، خلال حديث له فهو ظروف البيئة الجغرافية، التي تحكم لباس المرأة والرجل على حدّ سواء في كثير من الأحيان، فمثلا، هناك الطوارق شمال أفريقيا، الذين يتنقّب رجالهم على الدوام بسبب طبيعة الصحراء والغبار، كما نجد الرجال والنساء في سيبيريا أيضا يغطون وجوههم بسبب البرد الشديد والمُمرض، أما عربيا في الخليج مثلا، يتم ارتداء النقاب كذلك بسبب المناخ البيئي لهذه الدول.
يبيّن الرمح، أن اللباس الشرعي في كل الأديان “هو ألا تتعرى المرأة”، وأن الحجاب والنقاب، كانا لباس العابدات الرهبات المتفرغات للمعابد، أما مسألة الحجاب والنقاب حديثا، إنما هي مسألة سياسية، وتعد من مظاهر الإسلام السياسي، فالإخوان تميّزوا بفرض الحجاب على المرأة، أم السلفية ففرضوا النقاب ليتميّزوا به عن الإخوان. وعليه، اعتبر الرمح، أن ظروف مناطق شمال غرب سوريا مختلفة، وهناك قوى أمر واقع إن كانت قوة إخوانية أو قوة سلفية وهي الطاغية، والتي تريد أن تبرز مظاهرها الدينية، لتقول إن هذا التمظهر الديني هو تمظهر سياسي فيه ولاء للقيادة، المتمثلة بـ “هيئة تحرير الشام” وهي قيادة أمر الواقع.
وكانت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أدانت، في بيان صادر عنها في 13 من أيار/مايو 2020، الممارسات المتشددة التي كانت تقوم بها “تحرير الشام” وذراعها “مركز الفلاح” (الحسبة) آنذاك، مؤكدة أنها تُعتبر انتهاكا لأبسط معايير القانون الدولي لحقوق الإنسان، الذي ينص بشكل واضح على حرية الحركة واللباس والتنقل.
ولأجهزة “الحسبة” التي كانت تتبع للهيئة على اختلاف مسمياتها، سجل حافل بالانتهاكات بحق المدنيين وخاصة النساء، ومن أبرزها تعرّض نساء من جهاز “الحسبة” لفتيات في سوق مدينة إدلب في حزيران/يونيو عام 2017، وإهانتهن، فضلا عن إقدام إحدى نساء “الحسبة” أيضا على ضرب مديرة الامتحانات في جامعة إدلب، بسبب لباسها.
ما الاسباب؟
بدوره، يرى الكاتب والباحث السوري حسام جزماتي، خلال حديثه أن اعتبار النقاب جزء من “ثقافة المجتمع” فيه الكثير من إسباغ صورة الحاضر على الماضي، إذ أن الحكومة السورية حين أصدر قراراتها بنقل المنقبات من سلك التعليم إلى وظائف أخرى عام 2010، لم يتجاوز عدد من طُبّق عليهن القرار حوالي الألف امرأة، من أصل ملايين النساء السوريات.
إلى ذلك، عدّ جزماتي أن ارتداء النقاب في الشمال تحول إلى ظاهرة، وهنا أكدن نساء تحدث إليهن هذه المسألة، حيث اعتبرت بعض السوريات ممن يسكنّ في مناطق شمال غرب سوريا، أن النقاب أصبح “موضة”، وامتثالا لثقافة المجتمع وعادة بدأت تنتشر يوما بعد يوم في إدلب وريف حلب.
إن الظاهرة تستدعي التحليل أكثر من الاصطفاف في ثنائية التحبيذ أو الرفض، بحسب جزماتي. السؤال الأبسط في ظاهرة انتشار النقاب حاليا، هو عن مدى حرية النساء في ارتدائه طوعا، غير أنه سؤال لازم وغير كاف، فإذا كانت التيارات المتشددة تسيطر على الحكم والمجتمع تصبح مسألة النقاب تحصيل حاصل، بفعل التأثير الثقافي السائد والضغط المجتمعي ودفع القوة الناعمة للمؤسسات العامة والتعليمية، وهكذا يصبح انتشار النقاب مجرد واحد من مؤشرات عديدة على أسلمة المجتمع، وتمحوره حول هوية عربية سنّية نابذة للسوريين الآخرين، قبل أن تثير مخاوف المراقبين الدوليين الذين لا يمكن تجاهلهم بحال من الأحوال.
وتختلف أسباب ارتداء النساء في مناطق شمال غرب سوريا للنقاب، بين من اعتبرته تدينا، وبين من تراه عادة مريحة، تجعل من المرأة قريبة لمجتمعها ومحيطها، وبين من ارتدينه لكف أذى الرجل وفق قولهن، “هكذا لا يعرفنا أحد، الرجال حولنا يتمايزون النساء عندما نمرّ بجانبهم، بنات مَن؟ وكيف شكلهنّ؟ وما طولهنّ؟، ويضايقوننا بعض الأحيان”، وقد يكون هذا مثالا بارزا يكشف طبيعة بعض الرجال في تلك المناطق السورية، وما قد يصدر عنهم من سلوكيات تؤثر على المجتمع وثقافته عامة.
لهند مقصوص.
الحل نت_موقع حزب الحداثة