حداثة و ديمقراطية

الحداثة والحب: كيف تغيرت الهندسة الاجتماعية؟

لم يكن في حسبان الطبيب النفسي، فيكتور فرانكل (1905-1997)، الذي عانى ثلاثة أعوام من ويلات معسكرات الاعتقال النازية في الأربعينيات، وقاسى مرارة فقد والديه وأخيه وزوجته في أفران الإعدام بالغاز، أنّه سينجو، ويصبح مؤسس نظرية العلاج بالمعنى، أو التسامي بالنفس.الطبيب الذي جُرّد من كلّ معالم إنسانيته قسراً، عالج مرضاه بالحبّ؛ فالحداثة الماثلة للتحقيق والنقد اليوم من البعض، بصفتها كانت خدعة، لم تفِ بوعد الخلاص للإنسان وأوقعته في مزيد من الحرب والدمار، وتحت زيف الفردانية والحرية، استهلكته وجعلت مشاعره مزاداً، هي نفسها الحداثة التي حررت الحب من الوصاية والطبقية والدين والسياسة، وجعلت عقل الإنسان يبحث عن مزيد من المعنى لوجوده، وقياس مدى قدرته على تحرير إنسانيته من أيّة سلطة تعلو إرادته، وللمفارقة، كان الموت والحب على كفتي الميزان!

في العصور الوسطى ظلت المحبة مقتصرة على الجماعة والقبيلة، ومُسخّرة لصالح سلطة الأمة و العائلة والدين و التقليد؛ إذ كان الفرد مجرد رقم، لا يملك حقّ اختيار نمطه السلوكي أو الفكري، أما زواجه فهو مجرد تنظيم يديره الآباء، وصفقة تُعقد دون إدانة أو احتجاج، من أجل زيادة الثروة أو الحفاظ على الإرث والنسب؛ أي إنّ الأسرة كانت وحدة إنتاج في منظومة المجتمع، الذي قسم الأدوار الاجتماعية بين الرجل والمرأة، وفق مبدأ الميادين المنفصلة الذي من شأنه إعادة إنتاج المنظومة؛ فالرجل يتولى شؤون العمل الخارجي والحرب و الحماية، والمرأة للإنجاب و شؤون الرعاية، و الأطفال يُنسبون للآباء دون مطالبتهم بأن يكونوا حنونين تجاه أبنائهم؛ بل على الأبناء الطاعة والتضحية من أجل الآباء، الذين منحوهم الحياة والمال، و الجميع مرهون لسلطة قوى الغيب، ثم الملك والإقطاع.

بدافع العاطفة أُطيحت عروش واختلطت الأنساب وبميثاق الحب تزوج رجال أثرياء بنساء فقيرات وحدث تبادل الثروات و الألقاب

هذا هو النسق الاجتماعي الذي ثارت عليه الحداثة، والفكر التنويري الذي عمّق مفهوم الحرية الفردية، وأعلى من شأن الحب الإنساني الدنيوي و مساواة البشر، وفي ضوئه، تخلخلت الهندسة الاجتماعية و أدوار النوع، وباتت العاطفة هي ما تتسيد علاقة الزواج، وإذا قيل إنّ ذلك كان بداية تفسخ الروابط الاجتماعية؛ فالتراتبية الطبقية القهرية أيضاً قد باتت مهددة؛ فبدافع العاطفة أُطيحت عروش، واختلطت الأنساب، وبميثاق الحب تزوج رجال أثرياء بنساء فقيرات، وحدث تبادل الثروات والألقاب.وتحت مظلة العاطفة و إعادة هيكلة بناء الأسرة وفق الاختيار الحر و الاستقلالية، أُعيدت صياغة التراتبية النوعية، و اقتربت المسافات بين الرجل والمرأة و الأبناء؛ إذ لم تعد المرأة مجرد وعاء لإنتاج النوع و تفريغ الشهوة وراعية الأسرة، وإنما هي الحبيبة التي تمتلك سلطة المشاعر، وتتطلب من الرجل التضحية و تقديم فروض الحب، ولم تعد الكائن المبهم عسير الفهم، أو المدنس والمحمل بالخطيئة، و استتباعاً، لم تعد آلام حملها تكفيراً عن هذا الإثم؛ بل توجب على الرجل أن يقترب من القيم الأنثوية، و يشاركها الحبّ الأمومي و أعبائه، بحبّ الأبناء و العطف عليهم و المساهمة في العناية بهم، فضلاً عن ضرورة احترام عقلهم و إرادتهم حتى في مرحلة الطفولة، إلى أن أمكننا الحديث عن: حقّ الطفل و احترام الطفل، وأخلاقيات الأمومة، والتربية، …إلخ.

وإذا كانت الحداثة متهمة اليوم، من البعض، بأنّها منتج غربي قد خَرّب العلاقة الزوجية بتجريدها من المعنى، حين خرجت من حيز سلطة رجال الدين، وباتت علاقة تعاقدية موثقة بين طرفين مواطنين متساويين و مستقلين أمام الدولة من خلال ما يعرف بالزواج المدني، فنذكرهم، بأنّ هذا الزواج العاطفي الحر الحداثي بكل ما يعنيه المفهوم، قد ساهم في إنهاء التحزب الديني والطائفية، ودلل واقعياً على أن ما تفرقهم مسميات الدين والأفكار والطبقات يجمعهم الحبّ والتراحم العضوي والتعايش والقدرة على تجاوز الاختلاف واحترامه، هذا بعد حروب دينية وطائفية قطعت أوصال أوروبا لقرون من الزمن.

لم يكن يتسنى للدعوات التقدمية و النسوية التي هي من منتجات الحداثة أيضاً أن تجني ثماراً لولا التمهيد بهذه العلاقة الأسرية الحديثة

في المجتمعات العربية و الشرق أوسطية، التي طالتها الحداثة بشكل أو بآخر، ومن خلال حقبة الاستعمار، ثم دولة الاستقلال التي حملت شعار التنمية، تعرضت المجتمعات التقليدية، سيما في الريف، لمزيد من عمليات الاختراق الحداثي، و بصرف النظر عن مساوئ عدم إتمام عملية التحديث، و تفكك بعض الروابط الاجتماعية دون بدائل، إلا أنّ مفهوم الزواج العاطفي المبني على الاختيار الحر، قد خلخل العديد من الأعراف و التقاليد، وحتى العادات التي كانت تندرج ضمن الخرافات.بفضل الزواج العاطفي، وموجبات رابط المحبة من بين عوامل أخرى، قد تحررت العلاقة الزوجية من سلطة الجماعة، وبات مفهوما الاستقلال وحقّ الخصوصية من المفاهيم المعتاد تداولها والقبول بها، ما نجد انعكاسه في تصميم السكن العائلي الذي كان فيما سبق يُلزم الجميع بالعيش تحت سقف واحد، يديره الأب أو الأخ الكبير، وكان تقسيم العمل فيما بينهما إجبارياً، ولم يكن من حقّ أحد الاعتراض أو العزلة، وإلا تعرض للعزل الاجتماعي، وحُرم من حقوقه المادية.

ولما كان الحال كذلك، كانت تخضع أدق القرارات والأفعال خصوصية لسلطة العائلة وحق البت فيها؛ فقرار الإنجاب، على سبيل المثال، لم يكن شأناً خاصاً يقرره الزوجان، وإنما قرار عائلي ووظيفة ضمن وظائف المرأة، التي إذا اختلّت لأيّ سبب، وجب التخلص منها واستبدالها بأخرى، لكن الآن، وبفعل التأثر الحداثي، اكتسب الأبناء حقّ السكن المستقل، وخصوصية قرار الإنجاب، والاستمرار في علاقة الزواج حتى إن لم تنجب المرأة سوى الإناث، أو كانت عقيماً، وهذا بدافع الحب والعاطفة الأبوية الحديثة، وما تبعها من تغير الصورة المتخيلة عن المرأة المتاع إلى المرأة الزوجة والابنة الحبيبة.

ولم يكن يتسنى للدعوات التقدمية والنسوية، التي هي من منتجات الحداثة أيضاً، أن تجني ثماراً، لولا التمهيد بهذه العلاقة الأسرية الحديثة، المنبنية على أساس الحب الذي عمقه الاختيار الفردي الحر، وإلى حد ما، قد بات من حقّ المرأة أن تختار هي الأخرى شريكها، وتطلب الطلاق أو الخلع حال لم تجد توافقاً نفسياً وفكرياً يجمعهما دون أن توصم بصفات مخلة.حتى أنّ ثورة الاتصال الجماهيري الحاصلة الآن، والمتهمة أيضاً كمنتج حداثي، بأنها أحد سبل تدمير العلاقات الإنسانية، ومنها علاقة الحب الزوجي، وجعله عرضة للاستهلاك والاستعراض، فعلى العكس، إذا ما نحينا جانباً تلك السوداويات على إطلاقها، وتناقشنا بموضوعية، سنجد أنّ وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات التدوين، قد منحت مساحات جديدة وواسعة للبوح النفسي، المتحرر من الخجل، ومعايير العيب الاجتماعي، الذي ينطوي على قدر كبير من النفاق؛ حيث تمكنت الأجيال الحديثة أن تعلن عن مشاعرها وتجاربها المعيشة في حيزات عامة مرئية ومقروءة، ما من شأنه إحداث مزيد من الفهم والاطلاع على كيفية تفكير الآخر، وتضييق الحواجز الفاصلة بين أنماط التفكير الغيرية، وإيجاد حسّ مشترك عام يناسب الجيل الحديث.

و إثر ذلك؛ اُستسيغت بعض الأفكار و توسعت؛ مثل التمهل في قرار الزواج والتمسك ببناء حياة تشاركية سليمة بين الطرفين مبنية على الحبّ و التفاهم، دون التأثر بضغوط المجتمع و ممارساته، وتحت تأثير الضغوط الاقتصادية، وفي ظل استقلالية المرأة نسبياً، أمكن الحديث مجدداً بشأن تنازلها عن الامتيازات المادية لصالح الحبّ ومساندة الشريك، وباسم الحب والزوج المناسب، تقبل المجتمع إلى حد ما تأخر سنّ الزواج عند الجنسين.

و بفضل الحب، أُعيد النظر في تمثيل هوية المرأة وتعيين الأدوار الاجتماعية للنوع، وتقلصت فظاظات المجتمع وسلطاته القديمة، وأمكن لهذا الحب الإنساني، نواة كلّ حبّ آخر، أن يثمر ويعيد بناء المجتمع وفق حالة من التسامي والإحساس بالآخر وقبول الاختلاف، لقد تولّد منه نوع من الهشاشة الشاعرية، لكنّها هشاشة ضرورية ساهمت في تهذيب الوحشية الكامنة بعمق البشرية، وأحدثت ثورة مفاهيمية أقوى من الحروب و بشاعاتها، وواجهت تحديات النرجسية والأنانية في غيريات متعددة.

المعاصرة الحب، الذي كان قديماً موصوماً بالعار ومزاحماً للحب الإلهي، هو اليوم صورة له وأحد تجسداته، التي أجبرت علماء الاجتماع والفلاسفة والطب النفسي أن يضعوه في الاعتبار ضمن جدليات التنظير، بعد أن كان حبيس الأشعار وقصص تسالي المراهقين ومحاذير الفضيلة، وإن كان الحبّ لا يمثل نسقاً معرفياً، وإنما قيمة أخلاقية وإنسانية بالأساس، وهو ما رشحه لأن يكون معنى الحياة وموضوع إنقاذها من العدم.

بفضل الحب أُعيد النظر في تمثيل هوية المرأة وتعيين الأدوار الاجتماعية للنوع وتقلصت فظاظات المجتمع وسلطاته القديمة

وعلى عكس ما يتصور البعض، وينقادون للآراء الرجعية الناقدة، دون بناء بديل، الحب، اليوم، يكتسب قوة وصلابة وجود، كل ما في الأمر أنه بات متطلباً أكثر ومتعطشاً لمزيد من الاهتمام والرعاية والفهم الرصين الموضوعي لتحولات المجتمع، قد يصح أنّ الحب الأسطوري العنيف الذي كان يموت فيه الأبطال على مشانقه الناعمة، قد خفت، وقد يصحّ أنّ نسب الطلاق والانفصال العاطفي باتت سريعة وفي ارتفاع مستمر، وعادت المخاطرة سمة العصر التي تتوشح بها كلّ الروابط والمسارات، لكن ليس لأنّ الحب فُقد، وإنما اتسعت مساحاته وتمددت أنسجته، ويتطلب المزيد، وكما أنّ لكلّ شيء أو معنى ثمن يُسدَّد؛ فالعاطفة “المعضلة” التي تحدث عنها أفلاطون: “إذا كانت وحدها تجمع الكائنات، فيمكنها وحدها أيضاً أن تفرقهم”.

إذاً، الحب بقدر قوته و نقائه، هشّ، هو دائماً مثل طفل لا يشيخ أبداً، لذا يظل دائماً في حالة تطلب ورعاية وابتكار وفهم والتزام مرهق، قد يعجز من اعتنقوه عن الوفاء به على مدى خطّ مستقيم، عدا أن الرغبة تُستنزف سريعاً، وتحيط أطرافها بالإحباط و الملل، لكن، إذا كنا نعول عليه كقيمة إنسانية عليا، علينا ألا نسلم بالصورة القاتمة التي تخبرنا بأننا فقدناه.

و أخيراً، ننوه إلى ملحوظة ذات دلالة؛ في الآونة الأخيرة، حين عُرض العمل الدرامي المصري “أهو دا اللي صار”، على قدر بساطة السيناريو وتواضع فنيات العمل، إلا أنّه استطاع أن يجذب إليه الناس ويستحوذ على وجدانهم، بفضل قصة الحب الجميلة التي انبثقت كزهرة الرمل البرية من غياهب الطبقية والحرب والقهر الاجتماعي لتتجسد واقعاً وحقيقة؛ إنّ الناس ينجذبون لما يتمنون أن يكونوه، ولما يتوقون إليه من معنى.

لايمان النمر.

حفريات_موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate