حداثة و ديمقراطية

قراءة في كتاب إعادة بناء مفهوم الديموقراطية عند هابرماس.

تصدر مؤخرا عن دار سحر للنشر بتونس كتاب ” إعادة بناء الديمقراطية عند هابرماس ” للدكتور بلقاسم كريسعان ويقع الكتاب في 232 صفحة من الحجم المتوسط. يعرض الكتاب كما هو بين من عنوانه المسار الذي قاد أحد أبرز مفكري العصر إلى اعادة بناء مفهوم الديموقراطية ومضمون إعادة البناء هذه. هذا العرض وضح صاحبه أنه اتبع فيه النظام الحجاجي الذي اعتمده هابرماس سواء في ضرورة تجاوز الديمقراطية التمثيلية السائدة في أيامنا أو في الشكل الجديد الذي ينبغي أن تأخذه الديموقراطية اليوم أي ما سماه هابرماس بالديمقراطية التداولية.يقع الكتاب في أربعة فصول ومدخلين وقدم له الأستاذ محمد نجيب بوطالب الذي ركز على أهمية ما ورد في الكتاب من بحث جدي “لتحيين المشهد الفكري المعاصر من خلال تحيين أحداثيات التفكير في المفاهيم المفصلية المتعلقة بمسألة الديمقراطية” ( ص 4) .

في المدخل الأول بين الكاتب أنه يستهدف تحيين التفكير في الديمقراطية من خلال عرض تحليلي نقدي لأطروحات هابرماس. يجد هذا التحيين تبريره فعليا في الدور الذي أنجزه فكر هابرماس في الفضاء الثقافي الغربي والدي لم يتحقق فعلا في المجال الثقافي العربي ويلاحظ: ” ما يهمنا من المضمون النظري لفكر هابرماس في واقع حالنا اليوم وبالنظر حالة تقدم المعرفة في بلداننا العربية يتجاوز فعليا التعريف أو تبسيط هذا المضمون المعرفي فضلا عن شرحه و مقارنته بمن هم في مدار اهتمامه، لكون ما نحتاج الي تبينه ودمجه في رؤيتنا للغرب ولأنفسنا هو المراجعة النقدية الجذرية لا فقط للمفهوم المتداول عن الحداثة والعقل سواء تقريظا أو تجريحا من جهة والمهمة التفكير الفلسفي الذي يسعى لأن يكون عضويا وفاعل في سير المشروع الحضاري من جهة ثانية” (ص 23).

وفي المدخل الثاني علق على صعوبات ترجمة الديمقراطية التداولية.مهد في الفصل الأول بتأويل هابرماس لمشروع الحداثة من خلال ثنائية الأداتي والتواصلي حيث غلب التأويل الأداتي للعقلانية الحديثة على مضمونها التواصلي مما ولد أزمة تجسدت في شكل الديمقراطية التمثيلية وهو ما رصده في دراسة هابرماس لمصير الفضاء العمومي البرجوازي في الفصل الثاني. في المقابل تعلق الفصل الثالث بأسس التفكير الفلسفي السياسي المعاصر الذي يحاول التحرر من فكرة العقد الاجتماعي وهو ما سعي هابرماس إلى إنجازه من خلال اعتماد التداولية اللغوية.

إعادة التأسيس هذه أفضت إلى إعادة بناء مفهوم الديمقراطية من خلال إثبات شكلها التداولى وذلك من خلال دراسة ديناميكا الديمقراطية التداولية. وفي كل هذه الفصول يعرض الدكتور بلقاسم كريسعان مختلف الحجج التي برر بها هابرماس سواء موقفه النقدي تجاه فكرة العقد الاجتماعي أو فكرة الديمقراطية التمثيلية و تلك التي يبني على أساسها تصوره للممارسة التداولية ضمن شكل الديمقراطية التداولية.مثلما يؤكد ذلك مقدم الكتاب، فان الدكتور بلقاسم كريسعان سعى إلى ربط العرض التحليلي النقدي الذي أنجزه بالواقع العربي اليوم مما سمح للكاتب كما يقول ” بمقاربة مفهوم الديمقراطية على ضوء الواقع العربي بأفق يتسم بالمرونة العلمية المريحة، والتي لا تخلو من الصرامة المفاهيمية المطلوبة” ( ص 5).

فواقعنا اليوم جعلنا كما يبين ذلك “بإزاء توجه نحو عقلنة فوقية دون مضمون ثقافي بإزاء مسعى لرفض أشكال العقلنة الحديثة دون تبرير، تفككت منظومات فكر كانت فاعلة في تحديد رؤية العالم لعقود دون أن تتمكن منظومات فكرية بديلة من التشكل بفعل استحواذ الخصومات السياسية والأيديولوجية على كل الجهد النظري” (ص 24).

على هذا الأساس فإن “ما يهمنا من المضمون النظري لفكر هابرماس في واقع حالنا اليوم وبالنظر حالة تقدم المعرفة في بلداننا العربية يتجاوز فعليا التعريف أو تبسيط هذا المضمون المعرفي فضلا عن شرحه و مقارنته بمن هم في مدار اهتمامه، لكون ما نحتاج الي تبينه ودمجه في رؤيتنا للغرب ولأنفسنا وما ينبغي أن يسترعي انتباهنا هو المراجعة النقدية الجذرية لا فقط للمفهوم المتداول عن الحداثة والعقل سواء تقريظا أو تجريحا من جهة و لمهمة التفكير الفلسفي الذي يسعى لأن يكون عضويا وفاعل في سير المشروع الحضاري من جهة ثانية” (ص 23)صدر الكتاب في فترة تصاعد الجدل الفلسفي والحقوقي بشأن الديمقراطية وخاصة في شكلها السائد منذ عقود أي بما هي ديمقراطية تمثيلية.

هذا الجدل ليس خاصا بواقعنا التاريخي وليس وليد الحداثة لكونه يعود الى العصر اليوناني الذي شهد تشكل الديمقراطية، غير أن ما يميز واقعنا اليوم هو أن تزايد المطالبة بالديمقراطية يصاحبه في الوقت نفسه تزايد التشكيك (خاصة مع انتشار التيارات الشعبوية حول العالم )في قدرة الديمقراطية على تحقيق أهداف العيش المشترك وضمان الحرية من جهة وتبلور تفكير فلسفي سياسي معاصر يسعى إلى البحث عن حل لما يمكن تسميته بأزمة الديمقراطية التمثيلية ومختلف العوائق التي تحول دون تحقيق أهدافها.

سعي الدكتور بلقاسم كريسعان في هذا الكتاب إلى تتبع هذا التفكير الفلسفي السياسي المعاصر الذي بدأه هابرماس في ثمانينات القرن الماضي وانتشر بشكل كبير في الولايات المتحدة ليستمر النقاش إلى اليوم. ما يبرز من هذا النقاش الدائر اليوم هو تركيزه على مفهوم الديمقراطية التداولية باعتبارها الممارسة الديموقراطية الأقدر على تخليص الديموقراطية من عوائق ومصاعب بل وسلبية الديمقراطية التمثيلية، وهذه الديمقراطية تحفظ المضمون التحرري للديموقراطية على الأقل كما أرادها اليونان الذين تشكلت بين ظهرانيهم و لكن دون ان تتحول الى شكلانية تمثيلية.ظهرت العديد من التصورات حول طبيعة ومضمون وأسلوب اشتغال هذا الشكل من الديمقراطية وتطورت توجهات بل ومدارس فكرية رغم قصر المدة التي ظهرت فيها، ولكن الكثير منه ظل بعيدا عن اللغة العربية وعن الفكر العربي المعاصر.

يتعلق الأمر في هذا الكتاب بعرض إشكالي لفكرة فرضت نفسها تدريجيا على الفكر الفلسفي السياسي المعاصر وتعتبر من أهم الإشكاليات مجال النظر ومحل النقاش بين أعلام الفلسفة السياسية المعاصرة ويمكن اعتبارها أحد أهم الإضافات الفكرية التي هي بصدد التبلور منذ ظهور فكرة العقد الاجتماعي كمفهوم ناظم للتفكير الفلسفي السياسي الحديث.

تنوع الأطروحات بشأن التداول الذي ينبغي أن يكون في أساس الممارسة الديمقراطية اليوم ومختلف النقاشات المتصلة بشكل هذا التداول ومجاله وحدوده وصلة التداول بالسلطة من جهة وعلاقته بالمجتمع المدني من جهة ثانية، يكشف كل ذلك أن هذا التصور الجديد للديمقراطية (الذي ينبغي التمييز بينه وبين الديمقراطية المباشرة أو التشاركية) يتبلور تدريجيا ولكن بثبات يطرح نفسه بديلا جديا يمكن من تجاوز أزمة الديمقراطية التمثيلية.

تتبع الدكتور بلقاسم كريسعان منظومة الحجج التي بني من خلالها هابرماس نظريته حول الديمقراطية التداولية مبينا من جهة أن فشل الفضاء العمومي البرجوازي في إرساء ممارسة ديمقراطية دائمة يمكنها الصمود أمام التلاعب بالاصوات ومن جهة ثانية قيام نظرية العقد الاجتماعي على مسلمات ميتافيزيقية غير مبررة سوسيولوجيا يدفع إلى تفعيل ديموقراطية تداولية تجمع بين مسعي الديموقراطية التمثيلية لتجسيد سيادة الشعب ومسعى ربط ممارسة هذه السيادة من خلال فضاءات تداولية لا يحتكم فيها للتصويت وإنما لأفضل حجة مبررة عقليا وملزمة لكل من يشارك في فضاءات التداول هذه.ما يمكن ملاحظته أخيرا أن تقيد الدكتور بلقاسم كريسعان بعرض تحليلي نقدي لنظرية هابرماس وإن كشف عن مختلف الاحراجات التي سعى فيلسوف فرانكفورت الى تجاوزها لم تشمل بأكثر تفصيلا النقاش القائم إلى اليوم والذي محوره الديمقراطية التداولية.

ورغم أن هابرماس قيد ممارسة هذه الديموقراطية في مستوى الخيارات العامة وليس في المسائل التفصيلية الحياتية رافضا ان تكون الشكل الوحيد للممارسة السيادة، إلا أن العرض التحليلي لم يخلو من الاشارات المتنوعة ولكن الموجزة التي يمكن تكون مجالا لمزيد البحث.

لمهدي مبروكي.

مركز ضياء للمؤتمرات و الأبحاث_موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate