اصلاح ديني

الإسلام و الأيديولوجيا.

كثر الحديث عن الأيديولوجيا طيلة العقود الماضية في العالمين العربي و الإسلامي بدلالات و مضامين مختلفة و متضاربة بين التيارات السياسية والدينية، دار هذا الاختلاف و التضارب حول الإسلام هل هو أيديولوجيا مثله مثل الأيديولوجيات المعاصرة أم العكس؟ لكن ما لاحظناه أنه تمّ التعاطي مع الإسلام كدين بنوع من الإجحاف والتعسف، إذ اعتُبر لدى أغلب الباحثين “أيديولوجيا” على غرار باقي الأيديولوجيات المعاصرة، ولم يتم التمييز بين كونه ديناً وبين اعتباره فهماً للدين، وهو الأمر الذي سقط فيه العديد من المفكرين:

فعلى سبيل المثال نجد سمير أمين وصل إلى حد اعتبار الدين أيديولوجيا بالمفهوم الماركسي للكلمة، وهو ما لم يوافقه فيه مفكرون آخرون مثل برهان غليون الذي رفض هذه الفكرة بشدة.

لكن في الواقع الإسلام إسلامان، كما ذهب إلى ذلك المفكر الليبي الصادق النيهوم، إسلام جاء به الأنبياء والرسل، وإسلام فهمه الناس وطوّروه من تلقاء أنفسهم خاضع لمصالحهم المتضاربة ولتقاليدهم وثقافاتهم، تبلور في التاريخ وفق صراعاته وتوازناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وهذا ما سنحاول توضيحه في هذا المقال، حيث سنحاول في البداية تحديد “مفهوم الأيديولوجيا”، ونتحدث عن ظهوره وتطوره في العالم الغربي، ثم في نقطة ثانية، سنحاول الحديث عن كيفية ارتباط هذا المفهوم بدين الإسلام مع الحركات الأصولية في فهمها المتطرف لدين الإسلام، ثم أخيراً سنميز بين الدين الإسلامي وبين “الأيديولوجيا”، وذلك كما يلي:

ـ مفهوم “الأيديولوجيا” ظهورها وتطورها.

ـ ارتباط “الأيديولوجيا” بالإسلام.

ـ نحو فصل “للأيديولوجيا” عن الإسلام.

1-مفهوم “الأيديولوجيا” ظهورها وتطورها:

يعتبر الفيلسوف الفرنسي ديستوت دوتراسي أوّل من وظف مفهوم الأيديولوجيا بمعنى:

علم الآراء والأفكار أو العلم الذي يدرس مدى صحة أو خطأ الأفكار التي يحملها الناس، هذه الأفكار التي تُبنى منها النظريات والفرضيات.

كما عرفها غاستون باشلار بأنها: العلم في صورته الجنينية قبل أن يحقق قطيعته الإبيستمولوجية، ليصبح خطابًا وصفيًا حياديًا كميًا.

وعلى خلاف ذلك، نجد ماركس قد حددها بنقده للأيدولوجيا البرجوازية، والمثالية الألمانية في كتابه “الأيديولوجيا الألمانية” بـ: “الأفكار التي تعكس مصالح الطبقة الحاكمة التي تتناقض مع طموحات وأهداف الطبقة المحكومة، فأصبح المفهوم بعد ذلك يعني “الوعي الزائف” الذي يتحكم في إنتاجه الموقع الطبقي للأطراف الاجتماعية.” لكن هذا التوجه شهد نقداً من طرف الاجتماعيين الألمان الذين ذهبوا إلى أنّ الماركسية تقرر أنّ الأيديولوجيات كلها طبقية، ولكنها لا تطلق هذا الحكم على ذاتها، و تدعي أنّ البروليتارية طبقة كونية، وفي نظرهم هذا غير بعيد عن “الأيديولوجيا”.

لكنّ المفهوم شهد محطة تحوّل مهمة أخرى مع لينين في بداية القرن التاسع عشر، حيث وعلى عكس ماركس، اعتبر لينين أنّ “الأيديولوجيا” هي مجموع أشكال المعرفة والنظريات التي تنتجها طبقة معينة للتعبير عن مصالحها، بما فيها طبقة البروليتاريا، فأصبح من الممكن بعد ذلك، التحدث عن أيديولوجيا علمية وأخرى غير علمية، بعد أن كان العلم نقيض “الأيديولوجيا” عند ماركس”، كما أصبح من الممكن اعتبار مصطلح “النظرية” مساوياً لمصطلح “الأيديولوجيا”.

فأصبحت الاشتراكية تعني عنده: أيديولوجية نضال البروليتاريا الطبقي، كما هو الحال بالنسبة للأيديولوجية البرجوازية المناهضة للثورة، هذا في الوقت الذي نجد فيه ماركس وأنجلز لم يتكلما إطلاقاً عمّا سمّاه لينين “أيديولوجيا اشتراكية”.

أصبح بعد ذلك المفهوم مع “أنطونيو غرامشي” في نـهاية العشرينيات، يساوي الفلسفة والنظرة الكونية الشاملة والسياسة؛ أي مجمل الأفكار التي تحرك مجتمعاً ما، أو تكون أساساً لوجوده، وهي لا تشمل النظريات و الأفكار العامة فقط، بل تشمل كذلك كل أنساق القيم والمعتقدات.

وفي مرحلة الستينيات، مع ألتوسير، أصبح العلم نقيض “الأيديولوجيا”؛ فالمعرفة في نظره تبدأ مع “الأيديولوجيا”، لكن يجب فصل الأولى عن الثانية، وعملية الفصل هذه هي ما يسميها ألتوسير بـ”الانقطاع المعرفي”، وهو في هذا يختلف مع ماركس الذي لا يمكن للعلم عنده أن يحل محل “الأيديولوجيا”، ولكنه يكشفها فقط. وعند دوركهايم نجد الأديولوجيا تعني ما أطلق عليه “الوعي الجماعي”.

محطة أخرى وأخيرة للمفهوم، كانت مع كارل مانـهايم في النصف الأول من القرن العشرين الذي يعتبر تفسيره للوعي الأيديولوجي حتى الآن هو السائد في الغرب، فقد عالج مسألة العلاقة بين الأيديولوجيا والمجتمع، والأيديولوجيا والعلم، خاصة في كتابيه، “سوسيولوجيا المعرفة” 1927، و”الأيديولوجيا واليوتوبيا” 1929؛ فـالعلم بالنسبة له موضوعي، لأنه حيادي وبعيد عن العاطفة، بينما تبقى “الأيديولوجيا” ذاتية بسبب تحيزها الطبقي.

كما ميّز بين نوعين من الفكر الاجتماعي المشوه: الأيديولوجيا واليوتوبيا، فعرّف الأولى بأنـها التفكير الذي يهدف إلى استمرار الحاضر ونفي بذور التغيير الموجودة فيه، وتعبير يستخدم لاتهام المعارضين من وجهة نظر طرف يعتبر أنّ أفكاره تعبر عن الحقيقة المطلقة التي لا تتأثر بمرحلة تاريخية معينة، وعرّف الثانية بكونها نوعاً من التفكير يتمحور حول تمثل المستقبل واستحضاره، بما في ذلك النظريات الاجتماعية للفئات الاجتماعية المعارضة أو المضطهدة.

يرى مانـهايم أنّ ماركس بحكم انحيازه الاجتماعي لم يصل إلى الحقيقة المنطقية التي كان يفترض أن يوصله إليها تفكيره، ولهذا نجد مانـهايم قد بذل جهداً في تخليص المعرفة من الأيديولوجيا، فاهتمّ بعلم اجتماع المعرفة، الذي يعترف بالتأثير الحضاري والاجتماعي في نشوء المعرفة، وسعى إلى استبدال العقيدة الأيديولوجية بما يُسمى بسوسيولوجيا المعرفة، لاعتقاده بأنـها تقدّم حلاً لمسألة نسبية المعرفة الاجتماعية.

هكذا إذن ظهر مفهوم “الأيديولوجيا” بداية في الغرب البرجوازي مع منظري الثورة الفرنسية، فانتقل إلى الشرق الشيوعي ليأخذ معنى مغايراً و يتطور بعد ذلك مع مفكرين آخرين.

لكن كيف ظهر المفهوم في العالم الإسلامي؟ وكيف ارتبط بالإسلام؟ هذا ما سنحاول مناقشته في النقطة التالية.

2-ارتباط “الأيديولوجيا” بالإسلام:

بدأت “الأيديولوجيا” مع ما سُمّي بـ”الإسلام السياسي” الذي جاء نتيجة تصاعد الصدمة التي تولدت لدى المسلمين من تقدم العالم الغربي و تخلف الحضارة الإسلامية عن الركب، خاصة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى و قيام مصطفى كمال أتاتورك بتأسيس جمهورية تركيا على النمط اﻷوروبي و إلغائه مفهوم الخلافة الإسلامية في تاريخ 3 مارس 1924 و إلغائه “الشريعة الإسلامية” من المؤسسة التشريعية، مما ولّد تخوفاً كبيراً لدى البعض على مستقبل الإسلام، فظهرت حركات دينية وسياسية، تنادي بالعودة إلى الماضي والتشبّث بما أنتجه الأولون و إضفاء طابع القداسة عليه، كان أبرزها حركة الإخوان المسلمين في مصر.

يعتبر المنتسبون للإسلام السياسي أنّ نظام الدولة هو جزء لا يتجزأ من الإسلام، يقول عبد القادر عودة في كتابه “الإسلام و أوضاعنا السياسة”: الإسلام ليس ديناً فحسب، إنما هو دين ودولة، وفي طبيعة الإسلام يجب أن تكون له دولة، فكل أمر في القرآن و السنة يقتضي تنفيذه قيام حكم إسلامي ودولة إسلامية.

و وفق هذا المنطق فالله يحكم و الرسول ينوب عنه في الأرض، ورجال الدين من بعده؛ فالدستور جاهز و التشريع مُنزّل و الزمان جامد والإنسان مُغيّب.

يهدف المدافعون عن أطروحة الإسلام السياسي إلى أسلمة المجتمع بإعادة بناء الفرد والمجتمع والوصول إلى السلطة وإقامة ما يُسمى بـ”الدولة الإسلامية”.

وقد ظهرت “الأيديولوجيا” عند الحركات الأصولية الإسلامية في إعطاء تصوّرات مسبقة شاملة لسائر القضايا دون الاقتراب من الواقع، وطرح تصوّرات و رسم سمات عن المجتمع المنشود كانت في غاية المثالية كما هي عند الفارابي أو طوماس مور مثلاً، حاولت في غالبها استنساخ مراحل العمل التي مرّت بها الدعوة النبويّة كمنهجيةّ للوصول إلى بناء “الدولة الإسلامية”.

إنّ الحركات الأصولية الإسلامية التي تمارس السياسة كدين، لدى أعضائها قناعة جازمة تتضح في أدبياتها وأفكار منظريها، وهي أنّ استخدام السلطة السياسية في خدمة الفكرة الدينية واجب ديني.

وهذا وعي أيديولوجي يقدّم الدين كبنية ماضوية مغلقة وفكرية نهائية منغلقة على العصر.لذلك تسعى أغلب الأصوليات في العالم الإسلامي للوصول إلى الحكم لتحقيق أهدافها، وعندما تعجز عن ذلك وفق آليات سلمية، فإنها تلجأ للقوة، وإذا سيطرت على الدولة سلماً أو حرباً، فإنها تحوّلها إلى أداة لقسر الناس على رؤيتها، و تعمل على تنميط أفراد المجتمع وفق أيديولوجيتها الأصولية.

يمكن القول إنّ الخطاب الديني تحوّل إلى خطابٍ أيديولوجي في العالم العربي عبر عدة مظاهر نذكر منها: التوحيد بين الفكر و الدِّين و إقحام الإسلام في نظريات علمية نسبية، و غلق باب الاجتهاد، و إحلال المسائل التاريخيّة محلّ العقائد و الأصول، و طرح الفكر الدينيّ في مقابلة التفكّر و التدبّر في السماء و الأرض و السير فيها، و دراسة آثار الماضـين و اكتشاف آيات الله… و بالمقابل تعيد المؤسسات الرسمية صياغة أيديولوجية مختلفة لصالحها تخدم استمرارها في الحكم؛ فالحاكم في مواجهة الأصولية يسهم في خلق أصولية أخرى تعمل على تجميد الدين و تهميشه في الحياة العامة.

هكذا تمّ ربط الإسلام بـ”الأيديولوجيا”، لكن هذا الربط لم يأت في نظرنا نتيجة تطور طبيعي شهده الفكر بشكل عام في العالم الإسلامي والعربي، ولكن حصل نتيجة تقهقر الفكر وتأزمه في نظرته للحاضر و المستقبل، هذا الأخير الذي هيمن عليه “الآخر” حسب التيارات الماضوية، فكان من الطبيعي أن تطرح أسئلة لماذا تقدم الآخر؟ و لماذا تأخرنا نحن؟ فبقدر ما كان الجواب عند البعض هو أنّ السبب هو التشبث بالماضي، لذلك وجب إعادة قراءته ومراجعته على أسس علمية وموضوعية، قراءة تجمع وتوفق بينه وبين الحاضر، كان السبب عند البعض الآخر هو عدم التشبث بهذا الماضي نفسه وعدم الثبات عليه، لذلك فالحاضر و المستقبل عند هذا الاتجاه يتمثل و يختزل في الماضي.

لكن و بعد مرور وقت ليس بالقصير على ظهور هذه الأيديولوجيات التي ارتبطت بالإسلام، و اتخذت من الوصول للسلطة وسيلة لتحقيق المجتمع المنشود الذي رسمته وآمنت به، وبعد وصولها اليوم إلى الحكم في بعض الدول و مشاركتها فيه في دول أخرى مع الأحداث السياسية التي سُمّيت بـ”الربيع العربي”، و بعد الفشل الذي تبيّن في طريقة إدارتها لدفة الحكم بفشلها في استيعاب باقي المكونات السياسية وعدم اتضاح برامجها السياسية و تناقضها بين التنظير والواقع… فهل يمكن أن نتحدث مع هذا الفشل لهذه الحركات السياسية والدينية عن زمن نهاية عصر “الأيديولوجيا” الإسلامية؟

الواقع أنه لا يمكننا التكهن بشيء ما، المستقبل وحده هو ما سيؤكد أو ينفي هذاالأمر، لذلك لن نبحث في ذلك، وإنما سنكتفي بأن نوضح أنّ الإسلام دين له مصدر واحد هو الوحي المنزّل من الله تعالى، فهو دين وليس أيديولوجيا، لكن ما فهمه الناس وما قد يفهمونه انطلاقاً من التأويلات المتطرفة والمرتبطة، إما بسبب أزمة مجتمعية أو رغبة مصلحية… هو ما يمكن تسميته “الأيديولوجيا”، هذا ما سنناقشه في النقطة التالية.

3-نحو فصل “للأيديولوجيا” عن الإسلام:

إنّ جوهر الإيمان عبارة عن اختيار واعٍ حُرّ لا يمكن أن يتحقق بالتلقين أو وسائل الإعلام، ولا يمكن تحديده وصياغته. فالإيمان ليس “الأيديولوجيا” لكي يمكن تعميقه وترسيخه، كما أنّ الدين ليس سوى حالة قلبية وشعور وإحساس باطني بالغيب وإدراك مبهم، وتجربة ذاتية وفردية تأملية في علاقة الإنسان بما يحيط به من قوة خفية حكيمة مهيمنة عليا تدبّر كل شيء.

لكنّ الإسلام، كونه ديناً سماوياً، لم يكن يوماً أبدًا وعيًا زائفًا أو مغلوطًا بالواقع، وإنما جاء أساسًا لمحاربة هذا الوعي المشوّه… و تأسيس وعي يقوم على هدي العقل في الأمور ذات المضمون التاريخي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي… أو ما يسمى “عالم الشهادة” بتعبير القرآن الكريم “لتكونوا شهداء على الناس”.

فالمسلمون مطالبون بتحريك كلّ طاقاتهم ومهاراتهم لتحقيق مهمة الاستخلاف في الأرض، وبناء مجتمع تتجلى فيه قيم الحق والخير والعدل والحرية والمساواة والعلم؛ فالعقل الإنساني الذي تؤكد عليه عبارات كثيرة في القرآن الكريم” يا أيها الناس…أفلا تعقلون” مطالَب بالتفسير والتحليل والتفكيك والتساؤل والنقد والتقويم، فالإسلام باعتباره دينًا سماويًا إذا ما استثنينا الأمور الغيبية لا يقدم لمعتنقيه أجوبة جاهزة ونهائية، وبالتالي لا يمكن اعتباره أيديولوجيا.

لقد ركز القرآن خطابه على الذين يعقلون، ويمتلئ القرآن بالآيات التي تخاطب العقل وتزوده بالأدلة والبراهين؛ فالإنسان يؤمن أو يمتنع من خلال العقل، وحرية الإيمان كما حرية الكفر ضمنها القرآن، وكل فكر يحمله عقل محدد، ولا امتياز لفكر على آخر من حيث العلاقة بالعقل.

إنّ الإسلام يطرح نفسه وحيًا من عند الله، ولا يعتبر مجموعة إيديولوجيات اجتماعية وسياسية وتوجهات كوّنها الناس عن أنفسهم، إلا أنّ هذا لا يعني حرمان الناس من صياغة إيديولوجيات عن أنفسهم من خلال تجربتهم التاريخية، لكن يجب الوعي تمام الوعي بأن هذه الإيديولوجيات ليست هي الإسلام، رغم انبثاقها عن فلسفته العامة، وهذا هو المشكل الحقيقي الذي لم يستطع الكثير من المسلمين استيعابه إلى اليوم.

لكن رغم كل هذه الاعتبارات السالفة التي تثبت أنّ الإسلام دين سماوي لا يمكن اعتباره “أيديولوجيا”، فإنّ غياب و تراجع تأثيره في حياة المجتمع قد يؤدي إلى توظيفه لتبرير مشروعية بعض السلطات و الأنظمة أو الحركات الأصولية التي تعيد تفسير الدين وتقدم قراءات للواقع من خلال ذلك التفسير، لتصبح تلك القراءات إيديولوجية دينية، ليصبح توظيف فهم الإسلام ـ لا الإسلام ذاته ـ هو الوعي الزائف و أداة السيطرة و الإخضاع والوصول للسلطة.

فعندما يتحرك السياسي باسم الدين للسيطرة على الدولة، فإنه يفقد الدولة معناها الحقيقي، وهو الأمر الذي حدث في تجربة السودان و أفغانستان و إيران، وهو ما فشل في مصر الثورة اليوم…حيث تحولت الدولة إلى قيمة دينية عليا مقدسة منزلة من عزيز حكيم، و أداة بيد رجل الدين يأمر و يعظ الناس و يحثهم على الصبر تارة، و تارة يزجر وينهى ويُخوّف…كما أنّ السياسة عندما تصبح ديناً، تتحول الدولة إلى قوة قاهرة للمجتمع باسم العقيدة المقدسة التي لا يمكن لأحد التجرؤ على مخالفتها، و تصبح الدولة دولة عقيدة، وهذا يمثل أعظم مدخل للاستبداد، لأنه يلغي فكرة الحرية لصالح رؤية إطلاقية لا تعبر عن حقيقة الدين، و إنما عن رؤية من أدلج الدين وجعل منه سياسة، وفي هذه الحالة فإن الأفراد مجبرون على اتباع الحاكم لا باعتباره معبّراً عن مصالحهم، ولكن باعتباره خليفة النبي أو إمام المسلمين، ومعبّراً عن إرادة الله، وتصبح طاعته واجبة بصرف النظر عن انسجامها مع حاجات الناس ومصالحهم أم لا.يمكن القول إنّه في ظل واقع لا يمكن فيه تجاوز الدين، فالحل يكمن في مواجهة إشكالية أدلجة الدين لا الدين نفسه الذي يجب تحريره وتخليصه من كل ما لحقه من فهوم وتأويلات متطرفة وشروحات مغرضة جاءت في فترات متأزمة، فتحولت مع مر الزمن إلى دين مُنزّل من عند الله.

كما يجب في مجال السياسة التفرقة بين الأحزاب ذات الإيديولوجية السياسية وبين الإسلام كدين، بمعنى أن يظل الدين للجميع وأن تمارس السياسة باسم السياسة، لا باسم الدين، وذلك لن يتحقق إلا بتبني قيم عقلانية تهدف لتحقيق مصالح الأفراد والمجتمع بأبعادها المادية و المعنوية من خلال برنامج قد يكون ذا مضمون ديني، لكن من دون ادعاء الحق المطلق.

خاتمة:

إنّ فصل مجال الدين عن مجال الأيديولوجيا، لا يعني استبعاد الدين وعزله عن حركة الحياة؛ فالقوى السياسية هي تعبير عن المجتمع، فالديموقراطية لا يمكن إلا أن تعبّر عن المجتمع كما ذهب إلى ذلك المفكر الإيراني داريوش شيغان.

ففهم السياسة وممارستها من قبل كل الأحزاب سواء أكانت علمانية أو إسلامية باسم مصالح الناس وحاجاتهم لا باسم الدين، لا يؤدي إلى تجاوز الدين، بل إلى حمايته ومنع توظيفه واستغلاله، فبحكم تدين المجتمع الذي هو مصدر الشرعية والمشروعية، فإنّ الممسكين بالسلطة، لا يمكنهم تجاوز الدين عند صنع السياسات العامة، فشرعية العاملين في الدولة مرتبطة بحرية اختيار الناس لهم، هنا يصبح الحاكم ملزماً بالاستجابة لرغبات الناس وتطلعاتهم، وهذه الاستجابة ليست مبنية على رؤية إيديولوجية، بل على رؤية عقلية تفهم الواقع كما هو، وهذا ما يجعل منها استجابة متوافقة مع طبيعة الناس وفلسفتهم للحياة ومع مصالحهم الواقعية.

لمولاي عبد الصيد صاير.

مؤسسة مؤمنون بلاحدود_موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate