حداثة و ديمقراطية

«عن اللياقة السياسية»

اللياقة السياسية أو اللياقة الأدبية في الخطاب السياسي مفهومٌ دالّ على تجنب اللغة أو السلوكيات اللغوية التي يمكن اعتبارها مسيئة أو تمييزية ضد بعض الفئات المصنفة على أنها محرومة أو مهمَّشة ولاسيما الأقليات.ويشيع استعمال المفهوم في سياق النقاش حول قضايا تتسم عادة، بالحساسية كالإسلام، والهجرة، وعبودية الماضي، و”Zwarte Piet” المساعد الأسود للقديس سنتركلاس في مهرجان Sinterklaas الذي يتم الاحتفال به سنوياً، في كل من هولندا وبلجيكا، وفي بعض المستعمرات الهولندية السابقة. في هذا السياق المتصلب المفاهيم الإشكالية المثيرة للجدل يأتي كتاب “عن اللياقة السياسية” للهولنديَّين: خربن باكر”أستاذ الفلسفة بجامعة لاهاي للعلوم التطبيقية والباحث في مجال الأخلاقيات والسلام ” وخيرت يان خيلينغ ” الباحث في الموسوعة القانونية بجامعة ليدن”، مقترحاً مقاربة تأملية حول هذه الظاهرة التي يبدو أنها تؤكد نفسها بشكل متزايد حالياً، فيعرضان مفهومها فلسفياً وتاريخياً، ويتعمقان في مناقشة القضايا الحالية ذات الصلة، في أوروبا وأمريكا عامة، وهولندا خاصة. ويؤسس الباحثان مقاربتهما على أفكار الفيلسوفة الألمانية حنا أرندت في سياق الخلفية الأخلاقية لتطور المفهوم، ويرَيان أن اللياقة السياسية – بالأحرى الصواب السياسي – ليست بريئة، فهي تهدد حرية التعبير، وتؤدي إلى الرقابة الذاتية، وقد تعرض السلم الاجتماعي للخطر.

يتألف الكتاب من ستة فصول رئيسة، مسبوقة بتقديم كتبه السياسي والبرلماني الهولندي السابق بوريس فان دير هام، ومتبوعة بكلمة ختامية للمحامي والفيلسوف الهولندي وأستاذ القانون بجامعة ليدن بول كليتور. وقد جُعل الفصلُ الأول مدخلاً يضيء معنى اللياقة السياسية، من حيث هو مفهوم مثير للجدل، في الواقع السياسي وعلى شبكة الإنترنت، وكيف يبدو في نظر مؤيديه ومعارضيه. فيما كان الفصل الثاني مداراً للنظر إلى البيئة الخصبة لشيوع اللياقة السياسية في الوسطين الأوروبي والأمريكي، ولاسيما موضوع سياسة الهوية. وسُلِّط الضوءُ في الفصل الثالث على ضجة هناك مثارها كيفية ستحواذ اللياقة السياسية على الجدل الهولندي، في العلوم السياسية، من خلال “تسمية” المشاكل، و”الصواب الشعبوي”، والنقاش حول الإسلام ومساره، والتنوع والجنس.

ورُكِّزَ في الفصل الرابع على ما وُصِفَ بالفضيحة الأخلاقية للياقة السياسية، من زوايا الصدق والنزاهة والقدرة على التعبير عن الرأي، والفضيلة والأخلاق، والتنافسبين الخطابة الفارغة والحقيقة العليا، والمصداقية واللياقة السياسية في المجتمع المفتوح، والحاجة إلى التفكير الحر. وخُصِّصَ الفصلُ الخامس للآثار الاجتماعية للياقة السياسية، من حيث تكيف الذات مع السلوك العام والآراء السائدة في مجموعة معينة بهدف قبولها، وما تتعرض له من ضغوط، في سياق الخوف من الاتهام بالعنصرية، أو رهاب الإسلام “الإسلاموفوبيا”، أوالحرية العلمية، أو التطرف والإرهاب، أو الرقابة الذاتية في ثلاثية الثقافة والجريمة والعنف. ولم يغفل المؤلفان في هذا النسق أيضاً الانحراف إلى اليمين باعتباره أثراً للتسامح القسري، وما يتم من استقطاب تدريجي (= الدويّ في كولونيا الألمانية)، وكيف تمت تغذية رهاب الأجانب بالصمت، فضلاً عن دور وسائل الإعلام المنحازة.أما الفصل السادس االختامي فهو خلاصة نتائج ما توصل إليه الباحثان، مرفقة بعدد من التوصيات المحددة للتعامل مع هذه الرغبة في الصواب السياسي بطريقة مفتوحة، ويتضمنالفصل أيضاً قضايا حول اللياقة السياسية أسسا النظر إليها على أفكار حنا أرندت حول القيم الليبرالية وتحسين الأداء السياسي، إلى جانب تقديم حافز للتغيير الاجتماعي.

يشخَص مفهوم اللياقة السياسية في المناقشات العامة بين النخب السياسية والمواطن الغاضب الذي قد يكون على صواب سياسي في العديد من الموضوعات الحساسة. لكن ماذا يعني المفهوم بالفعل؟ وفقاً للباحثَين، من الضروري فهم طبيعة اللياقة السياسية بشكل أفضل. ذلك أنالمعنى يتم تحريكه من خلال قضايا اليوم، ولكن إذا فُهمت هذه الظاهرة بشكل أفضل ومنظور أوسع، فيمكن تحديد ما إذا كانت اللياقة السياسية تمثل خطراً، بالفعل، على التفكير الحر. ففيما يتعلق بقضايا مثل التطرف والهجرة والمجتمع المتعدد الثقافات والتوترات الاجتماعية، فإن طلاب الجامعات في بعض الأحيان يجدون صعوبة في التعبير عن أنفسهم ضمن مجموعة كبيرة. وهذا ينطبق على الطلاب الذين ينتمون إلى أقليات عرقية، ولكن أيضًا على الطلاب الذين هم على يمين الوسط. في الحالة الأخيرة لأنهم يتعاملون مع رواية بيضاء وعلمانية وتقدمية مهيمنة في المؤسسات التعليمية. ويبدو أنه من الصعب،أيضاً، إثبات ما إذا كان المعلمون يشعرون بالحرية في التعبير عن آرائهم. إن هناك خطأً ما.

في تسعينيات القرن الماضي كان “الصواب السياسي” معادلاً لخوف المسؤولين من إلحاق الأذى بالأقليات، إلا أنه الآن بسبب الأخلاق التقدمية المتفجرة و”سياسات الهوية” التي انتقلت من أمريكا فقد تحولت هولندا من ثقافة تقدمية مناهضة للسلطوية إلى جوٍّيبدو فيه تقلُّصالفكر السياسي، – حد وصفحنا أرندت – وهو يعكس تفكير المرء في وجهات النظر الأخرى، و”العقلية الموسعة”، والكثير من المشاركة المنظورية، وبالتالي الوصول إلى حكم مدروس جيداً.

ومن جهة أخرى فإن للإنترنت تأثيراً كبيراًفي المجتمع، إذ يعِد بالكثير من الحرية، و”إمكانات سياسية مجانية كبيرة”، لكن،على العكس، ففي الممارسة العملية هناك المزيد من السيطرة السلوكية، فقد أصبح الإنترنت في أيدي ذوي الشركات الرأسمالية في وادي السيليكون بشكل متزايد، و هُم يريدون بقاءسيطرتهم على المحتوى؛ لأنهم لا يريدون أن يكونوا مسؤولين عن المعلومات غير الصحيحة أو التحريض على الكراهية أو انتشار الدعاية الإرهابية. إلا إن التعددية المطلقة للآراء السياسية على شبكة الإنترنت قد تحققت، ولكن ليس بعد بما يتوافق مع”عقلية أرندت الموسعة”.

ويرتبط الصواب السياسي بتغيير وجهات نظر القيمة، فتاريخ هولندا مع الصواب السياسي مرتبطبأيديولوجية تقدمية، نشأت حول التسامح والتعددية الثقافية، فالإسلام، على سبيل المثال، محدد في الوضع الهولندي. وغالباً ما تهدف المناقشات إلى حظر اللغة المسيئة أو أشكال التعبير الثقافي، ما يخلق فجوة في النقاش حول الإسلام في الطريقة التي يفكر بها الناس تجاهه، وطريقة تفكيرهم في المجتمع، وتؤدي سياسة الهوية، على الطريقة الأمريكية، إلى صدام أيديولوجي بين حركة العدالة الاجتماعية التي تريد التخلص من الخطيئة الأصلية الغربية، والاستجابة المتطابقة التي تختار مسارًا محافظًا جديدًا.

إن الحديث عن اللياقة السياسية (أو الصوابية) ليس محايدًا، ومن ثَمَّ لا يمكن تحديده بموضوعية. فإن هناك مبدأين يضبطان التحديد، وينبغي التمييز بينهما: الأول: الصواب السياسي العقائدي الذي يعني إرادة تصحيح المجتمع أخلاقيا وفق قناعة مقدسة. أي أن المعنى العقائدي لا يقبل المساومة،فعلى سبيل المثال، يجب أن تُمحى التعبيرات الاستعمارية لأنها خاطئة. في مثل هذه الأمور، يشير المفهوم إلى إنشاء محرمات جديدة، أو الاضطرار،أحياناً، إلى إنشائها، لجعل المجتمع أفضل معنوياً. أما المبدأ الآخر فهوالصواب السياسي المطابق، المحفوف بالخوف وسلوك القطيع، فالناس يتأقلمون لأنهم لا يريدون لمس وترٍ حساس. وهذا شائع للغاية ولكن يصعب قياسه.

وتكون المصالحالجماعيةمع اللياقة السياسية على المحك، وفقًا للباحثَين، فالهدف منها هو إسكات الرأي “الخاطئ”. إنها في الأساس أيديولوجية وأخلاقية، وتقسم العالم إلى أعداء وضحايا.وتبدو في أحد أشكالها التزاماً يكون الهدف منه هو التكيف (غير النقدي) مع الاعتقاد السائد، وإسكات الرأي الخاطئ، وتكون اللغة وسيلته المثلى إذ يقول الناس ما يجب أن يقولوه، بدلاً من إبداء آرائهم كما هي.ويرى الباحثان أن الخجل والشعور بالذنب، فيما يتعلق بالهوية الغربية البيضاء، هو أرض خصبة لمقاومة الصواب السياسي، فضلاً عن الأخلاق التقدمية البعيدة المدى للمؤسسة السياسية فيما يتعلق بـ “قضية التعددية الثقافية”. وتحت تأثير سياسات الهوية، يشير الصواب السياسي بشكل أساسي إلى جوانب معينة يشكل فيها عدم المساواة الاجتماعية أو الثقافية نفسه. ويقتبس الباحثان من مقال الفيلسوف الفرنسي باسكال بروكنر”طغيان التوبة، مقال عن الماسوشية الأوروبية”: “الغرب هو الأسوأ”، وهو رسالة العديد من المثقفين، تعبيراً عن كراهية ذاتية ذات صفة نفاقية.ويريان أيضاً أن فكرة الحقيقة الكونية الواحدة غير مناسبة للاستخدام في السياسة، فالحقائق الأبدية غير القابلة للتغيير ليست موجودة في المجال العام. ويمكن أن يؤدي احتكار الحقيقة الواقعية إلى قراءة “استبدادية” للوقائع، لكن القبول (غير الناقد)بالحقائق المؤكدة بالفعل أمر خطير أيضًا،ويرشح تدهوراً سياسياً، كما حدث في زمن النازية،فالأفكار بحد ذاتها ليست خطرة، وإنما القدرة الذهنية الضعيفة للناس، ونتيجة لذلك فإنهم يبدون مقاومة ضعيفة جدًا لهذه الأفكار ولا يحللون الآراء التعددية اجتماعيًا.

ويختتم الباحثان الكتاب بملاحظة أن لاوجود لشيء أكثر أهمية من التفكير الفردي: التفكير الحر باعتباره شرطاً لعالم مستقيم أخلاقياً، فحرية التعبير ليست ترخيصاً للفرد ليقول أي شيء يستلزم مسؤولية. لكنهما يعارضان كراهية الأجانب كحماية للذوق السليم أو لحماية المثالية الصالحة ضد الأشخاص غير المعقولين،ويجادلان حول الحرية الأكاديمية المطلقة، فكل أشكال الرقابة (الذاتية) في وسائل الإعلام غير مرغوبة ويجبتوخّي الحرص على عدم جعل المحرمات من الحقائق الأخلاقية المطلقة وغير المتغيرة، الأمر الذي يقتضيأخلاقاًذات مزايا نوعيةمعززة ثقافيًا. وما يزيد الأمر تعقيدًا هو حقيقة أن التعامل هنا مع مفهوم متغير، فما يمكن أن يقال اليوم قد لا يكون كذلك غداً، وما كان مسيئاً بالأمس يمكن أن يكون لغة شائعة ومقبولة غداً.

الكتاب بمجمله صيحة عالية يطلقها خربن باكر وخيرت خيلينغ؛لمراقبة مجتمعهما الحر المفتوح أكثر من أي وقت مضى. وهو مجتمع لا يوجد فيه مجال للرقابة، حيث يقع على عاتق الجميع واجب أساسي في التفكير الناقد، وحيث يجب على كل شخص أيضًا محاولة النظر إلى الموضوع من وجهة نظر مختلفة، وحيث يجب أن تعرف السياسة أوالجامعة مكانها ودورها، وحيث يكون التنكر المحترم شيئاً مختلفاً تماماً، وحيث ينبغي ألا تُروَّج المحرمات الاجتماعية باعتبارها حقائق مطلقة. لكن ألا يرتكب الباحثان الخطأ نفسه إذ يعدّان الصواب السياسي خطراً، فيقعَا في الأخطاء نفسها عندما ينتقدان الخطأ السياسي؟ المسألة جدلية، وفي جدليتها تتجلى الأفكار المثارة للجدل أساساً. لكن هل كل نقاش أخلاقي تعبيرٌ عن الصواب السياسي؟ وإن تكن اللياقة السياسية هي الداء ونموذج ترامب السياسي هو البلسم، فثمة تساؤل يشخَص، بالضرورة، عما هو الأسوأ.ألم تصبح اللياقة السياسية أسوأ الآن، بعد الحادي عشر من سبتمبر(2001) واغتيال السياسي وعالم الاجتماع الهولندي بيم فورتوين (2002) العدو اللدود للهجرة إلى هولندا، مؤلف كتاب “ضد أسلمة ثقافتنا”، الذي كان يعد من أبرز السياسيين الشعبويين اليمينيين؟ ألا يمكنك-تيمّناً بترامب – قول أبشع الأشياء الآن عن المسلمين أو اللاجئين أو السود؟ أ وَ لم يرَ الأسترالي منفذ مذبحة المسجدَين في نيوزيلاندا (مارس2019) في ترامب رمزاً لهوية البيض، وليس مجرد زعيم سياسي؟

في جدلية المفهوم هنايمكن فهم ما توصف به “اللياقة السياسية” لدى منتقديها من قبيل النفاق السياسي الذي يجاور الديماغوجية والانتهازية والوصولية، كما يمكن فهم وصفه بالشمولية – بحسب الفيلسوفة البنيوية جوليا كريستيفا – أو الماركسية الثقافية كمايرى بعض المحافظين بأنها تقويض ماركسي للقيم الغربية، أو أنها نظام لمعاقبة المعارضة يستدعي إلى الذاكرة محاكم التفتيش – وفقاً للسياسي والمفكر الأمريكي باتريك بوكانن مؤلف كتاب”موت الغرب”-فالسياسيون، اتساقاً مع اللياقة السياسية،يقدمون خطاباً لا يعبر عن حقيقة توجهاتهم الفكرية، وينتقون عباراتهم وكلماتهم بعناية فائقة، تتماشى مع الرأي العام، ويقولون ما لا يعتقدونه في الواقع، أو عكسه أحياناً. لكن، باختصار، هذا كتاب لكل من يريد أن يفهم الأجندات الأساسية والخطيرة، وهو بشكل خاص لأولئك الذين يدعون إلى مزيد من اللياقة السياسية.

المؤلفان الكتاب: خربن باكر و خيرت يان خيلينغ.

عرض: سعيد الجريري.

شباب التفاهم_موقع حزب الحداثة.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate